عن الشاعر حافظ إبراهيم
(1)
|
دعوة الإصلاح في شعر حافظ إبراهيم، شاعر مصر المشهور، موضوع هام ولا شك، وهادف في نفس الوقت.. يعود الفضل في اختياره، لجامعتنا الفتيَّة، جامعة الملك عبد العزيز. |
وليس من شك في أنَّ الجامعة حين اختارت هذا الموضوع قد أحسنت الاختيار حقاً، أولاً من ناحية الشاعر نفسه، فهو علم من أعلام الشعر في هذا العصر، جدير بأن يتجه نحوه البحث، وأن يُعنى به النقاد، وثانياً من ناحية الموضوع، إذ المعروف عن الشاعر حافظ إبراهيم -يرحمه الله- أنه كان أكثر شعراء مصر في زمنه التفاتاً إلى نواحي الاجتماع والإصلاح، إلى جانب عنايته البالغة بقضايا أمته السياسية بصورة عامة، إن لم أقل، بقضايا الشرق، وقضايا المسلمين. |
ومن أجل هذا كله، كان حافظ أدنى إلى قلوب مواطنيه، ومن أجله كرَّموه -كما نعلم- بأكثر من لقب.. فهو شاعر النيل، وهو شاعر الشعب، وهو شاعر مصر الاجتماعي، وشاعر الوطنية. |
وليس من خلاف في أن حافظ إبراهيم، حريُّ وخليق بكل هذه الألقاب. |
لقد كان حافظ لسان أمته الناطق، وصوتها الجهير. |
كان حافظ المعبر عن آمالها وآلامها، وشؤونها وشجونها. |
وهو -بشهادة معاصريه وكما سبق أن نوَّهت- أكثر شعراء مصر والشرق، اهتماماً بمصر والشرق. |
كان حافظ يشكو ويئن.. وما أكثر ما كان يشكو ويئن.. من جمود الفكر، في عهد ساد فيه جمود الفكر، ومن تخلف أمته، وتخلف شعوب الشرق جميعاً في شتى الميادين. |
كان أصدق الشعراء حباً لوطنه، وبرأيه، هذا ما قاله عنه الدكتور "محمد حسين هيكل" الأديب السياسي المعروف. |
ويقول عنه "سامي الدهان" أحد الباحثين السوريين: "ما أعرف شاعراً من شعرائنا خص شعره بأمته وأحداثها في العصر الحديث، كما فعل محمد حافظ إبراهيم، كان جريدة مصر الناطقة، ولسانها المبين، وشاعرها الاجتماعي، وترجمان بؤسها وآلامها". |
هذا هو حافظ شاعر الشكوى والأنين، وشاعر البؤس والألم، ليس من أجل نفسه فحسب.. وإنما في صورة أنصع، من أجل الناس الآخرين. |
ومن الحق أن أقول إن أمته الوفية، قد عرفت له كل هذا. عرفت له صدق حبه لها. عرفت له إخلاصه في كل ما كان يشكو منه ويئن، وفي كل ما كان يدعو إليه من إصلاح ونهوض. |
عرفته له مصر.. بل وعرفته له شعوب الشرق، فأولاه الجميع حباً بحب وأعطوه من تقديرهم وإكبارهم، ما لم يحظ به -فيما أعلم- أي شاعر آخر من شعراء جيله الكبار. |
وقد كان حافظ، يقسو -أحياناً- في نقده لمواطنيه، كان يقسو إلى درجة التأنيب، وله في ذلك أبيات روائع -ومع هذا.. كان مواطنوه جميعاً، يتقبلون منه هذه القسوة برضىً وارتياح. |
يقول عنه صديقه "حفني محمود" كانت شخصية حافظ من أحب الشخصيات إلى الناس.. ثم يضيف إلى ذلك قوله: ".. وهو في كثير من الأحيان، يكون قاسياً في صراحته، ولكن روح الإخلاص البارزة في شعره كفيلة بأن تسيغ صراحته، وتجعلها شهيَّةً مُحببةً". |
ولنستمع إليه في أبيات له مشهورة.. صبَّ فيها جام غضبه على قومه، آنذاك نذكرها كمثال من قسوة حافظ، ومن عنفه في نقده الاجتماعي، عندما يشتد به ألمه. |
يقول حافظ وهو يُندد بفئات من الناس، قد لا يخلو منهم زمن، ولا مكان، قصارى همهم أن يفخروا بمن سبقهم: |
وذي إرث يُكاثرها |
بمالٍ غير مُكتسب |
وفي الرومي موعظة |
لشعب جد في اللعب |
|
إلى أن يقول: |
فقل للفاخرين أما |
لهذا الفخر من سببِ؟ |
أروني بينكم رجلاً |
ركيناً واضح الحسبِ |
أروني نصف مخترعٍ |
أروني ربع محتسبِ |
أروني نادياً حفلاً |
بأهل الفضلِ والأدبِ |
|
ثم يقول: |
فهبوا من مراقدكم |
فإن الوقت من ذهب |
فهذي أمة اليابا |
ن.. جازت دارة الشُّهُب |
|
فهذا مثال من شعر حافظ إبراهيم، عندما كان يقسو في نقده للمجتمع.. مهيباً به إلى النهوض، ليجاري أمماً جازت دارة الشهب، وكانت اليابان في ذلك الوقت قطعت شوطاً كبيراً في نهضتها.. ولفتت إليها الأنظار، حينما خاضت حرباً عنيفةً مع القيصرية الروسية، خرجت منها منتصرة! |
إن حافظاً في شعره هذا القاسي العنيف، إنما يعبر -في الواقع- عن صدق حبه لوطنه، وإخلاصه له، وغيرته عليه. |
وهو في صدقه، وإخلاصه، وغيرته، ليس له من مأربٍ سوى الإصلاح، ولا شيء غير الإصلاح. |
وهو قلما كان يقسو، وقلما كان يشتد، وأنى للمحب الولهان، أن يقسو ويشتد.. إلاّ في أندر الأحيان! |
وإذا كان حافظ، قد تميَّز -كما هو ملحوظ- بأنه كان أكثر شعراء عصره -ومنهم شوقي- مناداة بالإصلاح، وإمعاناً -لهذا السبب- في اللوم والتقريع، إلى جانب ما كان يترنم به في جُل شعره "في حب مصر كثيرة العشاق" على حد تعبيره في إحدى قصائده الذائعة.. فالسر في ذلك -كما يذكر كل من ترجموا لحياته- يعود إلى ظروف حياته الخاصة والعامة.. فقد ولد حافظ ونشأ في أوساط الشعب.. بعيداً عن أي جو يوصف بالأرستقراطي.. يضاف إلى ذلك أنه أحس بالحرمان منذ صباه، وربما في أكثر حياته.. وكان طبيعياً في ظروف كهذه الظروف، أن يلتصق حافظ بأفراد الشعب أكثر، وأن يمتزج بكل طبقة من طبقاته على اختلافها، ومن هنا كان تعاطفه أصيلاً معها.. وإحساسه متجاوباً مع إحساسها، لقد أدرك ما يعانيه الشعب يومذاك.. عرف سر الداء، فلا غرو إذن -أن يتميَّز أكثر من غيره، من أقرانه ومعاصريه، بأن يصبح شاعر الشعب، المصور لآلامه وهمومه، والمنادي بالإصلاح. |
ويذكر عنه مترجموه أن ظروفه هذه لم تمكنه من بلوغ أقصى مراحل التعليم، غير أنه استعاض عن ذلك بسعة اطلاعه على الأدب العربي، وبكثرة محفوظة من عيون الشعر، لقد كان لحافظ من اسمه نصيب حقاً ومن هنا كانت ثقافته الأدبية، وعلمه الواسع باللغة، مضرب الأمثال. |
وكان لهذا كله أثر ملحوظ في شعره، فأسلوب حافظ ولا شك هو أجود الأساليب، لقد اشتهر حافظ بأسلوبه القوي، بأسلوبه الرائع، وكان لذلك، إذا قال شعراً، لا يلبث أن تتناقله الأفواه، وتتلمَّظ بحلاوته الشفاه، كما يقول الأستاذ عبد القادر المغربي، عالم اللغة الكبير، ونائب رئيس المجمع العلمي بالشام. أيضاً يقول الأستاذ المغربي: |
"شعر حافظ يمتزج بالعاطفة فيولد فيها رقة الشعور، ويمتزج بالنفس فيولد فيها ذوق اللغة، ويمتزج باللسان فيغرس فيه ملكة الفصاحة. |
مدارسة كتب الأدب، واستظهار الفصيح من نوادر اللغة لا يمنح النفس واللسان ملكة الفصاحة بقدر ما يمنحها شعر كشعر حافظ.. نقيُّ اللفظ، منسجم الأسلوب، مشرق الديباجة، يُعبِّرُ عن خوالج النفس الوطنية الثائرة، فيحفزها نحو مطامحها العظمى، وينير أمامها الطريق إلى مثلها الأعلى". |
هذا الأسلوب الذي عُرف به حافظ إبراهيم، بين شعراء عصره، وارتفع به إلى ذروة البيان، وأصبح به واحداً من شعراء ثلاثة كبار، هم أشهر شعراء العربية في الثلث الأول من القرن العشرين: شوقي وحافظ وخليل مطران.. هذا الأسلوب المؤثر الجميل، كان في الواقع، ثمرة ثقافة غير عادية في الأدب العربي، واللغة العربية. |
فإذا ما التفتنا إلى ناحية أخرى من نواحي شخصية هذا الشاعر الفريد، أو من نواحي ثقافته العامة، ومنابع هذه الثقافة.. وجدنا مواطنه الأستاذ أحمد أمين يشير إلى مصدر من مصادر ثقافته، في مقدمته لديوانه.. فيقول: |
"كان من مصادر ثقافته، تجاربه الواسعة، فقد أتاح له بؤسه الامتزاج بغمار الناس، ومجالستهم ومشاركتهم في الخير والشر، ومطارحتهم النكات والنوادر، كما مكن له ظرفه وأدبه، أن يتصل بسادة الناس وقادتهم، يسمع لحديثهم، ويسمعون لأدبه، وأن يتصل برجال النهضة الوطنية، فيأخذ عنهم، ويلتهب حماسة من حماستهم، ويمتلئ وطنية من وطنيتهم". |
وشيء آخر -يقول الأستاذ أحمد أمين- "يُعدُّ مصدراً كبيراً من مصادر ثقافته، وهو كثرة غشيانه لمجالس العلماء، وقادة الرأي في الأمة، فقد اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده، وعدَّ نفسه فتاه.. وكان يحضر بعض دروسه التي يلقيها على نخبة من الفضلاء في منزله بعين شمس، ويجلس في مجالسه، وقد يصحبه في أسفاره، ثم يغشي مجالس أمثال سعد زغلول ومصطفى كامل ونحوهم، وكانت مجالسهم مدارس من أرقى المدارس، تطرح فيها المسائل العلمية، والمعضلات السياسية، والمشكلات الاجتماعية، وتعرض فيها الحلول المختلفة، وتبسط فيها أدواء الأمم، وكيف عولجت، وما إلى ذلك.. وحسبك بمدارس -يقول الأستاذ الأمين- كان المعلم فيها أمثال "محمد عبده" و "سعد زغلول" و "مصطفى كامل" ولعلَّ هذا كان أكبر منبع استقى منه حافظ أفكاره التي صاغها في شعره". |
هذا ما يرويه لنا عن حافظ أوثق من كتبوا عنه من كبار الباحثين، المرحوم الأستاذ أحمد أمين، ومنه نستخلص أن حافظاً شاعر النيل، وشاعر الوطنية، وشاعر مصر الاجتماعي، وشاعر البؤس والألم، والشكوى والأنين.. ما كان يقول الشعر، لمجرد رغبته في القول، أو لمجرد عشقه للشعر، أو ليملأ الدنيا، ويشغل الناس، وإنما كان حافظ في أكثر شعره، وخاصة في المجال الاجتماعي، شاعر عقيدة، شاعر مبدأ، شاعر وجدان، أو كما نقول -في لغة اليوم- شاعر التزام! |
وطبيعي أن من أسباب ذلك، هو أولاً: ظروف حياته الخاصة، وأهمها -كما سبق أن أشرت- نشأته في الوسط الشعبي، ثم كثرة اختلاطه بالناس، معايشته لهم.. امتزاجه بهم امتزاج حب ومشاركة وجدانية، كل هذا جعل منه إنساناً متعاطفاً مع الناس، مُتحسِّساً لأحاسيسهم، ملمًّا بشؤونهم، مدركاً لهمومهم، فلا غرو، وهذا جانب من جوانب حياته الخاصة، أو العامة إن شِئنا أن يجيء شعره تصويراً لحياتهم، أو تعبيراً عنها.. إن حافظاً هو في الحق "شاعر الناس" كما يقول طه حسين. |
شاعر الناس! |
أجل.. ما أبلغه وصفاً موجزاً، معبراً وموحياً.. يصفُ به عميدُ الأدب في مصر، شاعر بلده حافظ إبراهيم. |
رافد آخر أيضاً.. أتاح لهذا الشاعر الكبير أن يكون شعره تصويراً لحياة الناس، أو تعبيراً عنها.. وأن يكون -بالإضافة -إلى ذلك -شعراً قوياً، يهز النفوس! |
هذا الرافد، هو ما ذكره الأستاذ أحمد أمين، عن كثرة غشيانه لمجالس العلماء، وقادة الرأي في الأمة، واتصاله بهم، وخاصة: محمد عبده، ومصطفى كامل، وسعد زغلول. |
هؤلاء الرجال الثلاثة، لا خلاف في أنهم نخبة من ظهروا في مصر، بين قادة الرأي في العصر الحديث. |
وكان من حسن حظ حافظ -ولا جدال- أن التقى بهم، وصاحبهم، وتتلمذ لهم، واستفاد من حضوره مجالسهم، واستماعه لما يدور فيها من مناقشات، سواء في العلم، أم الأدب، أو السياسة والاجتماع. |
لقد كانت صلة حافظ بهؤلاء الأقطاب، على ما كان بينهم جميعاً، من خلاف في السياسة، وفي الرأي، مما هو ليس بمجهول.. كانت صلته بهم كأقوى ما تكون صلة.. وولاؤه لهم، كأعظم ما يكون ولاء. |
وليس أدل على ذلك، من قصائد رثائه فيهم، وهي أصدق وأجود قصائد رثاء، قيلت في هذا العصر، ووُصف حافظ من أجلها، بشاعر الرثاء! |
وغير هؤلاء أيضاً، من رجال الفكر، كان حافظ وثيق الصلة بهم، ولقد أعانه على ذلك خصال اجتمعت فيه.. فهو ألوف ودود، سمح متواضع، مرح إلى أقصى حدود المرح، عذب الحديث، كثير النوادر.. يقول زكي مبارك في وصفه لأحاديث حافظ: "إن الدنيا كلها لا تساوي لحظة في حضرة حافظ إبراهيم.. فيا رحمتا لمن صرفتهم الشواغل أو المقادير عن أحاديث حافظ إبراهيم، فإن هؤلاء حُرموا من خير كثير.. إلى آخر ما يقوله المبارك. |
فليس غريباً وهذه هي نشأة حافظ وظروفه، وهذه هي صلاته الودية بالناس، وبينهم علماء كبار وساسة وقادة فكر وزعماء وطنيون، وزعماء إصلاح، مع ما توفر فيه من خصال، تحببه إلى كل هؤلاء.. أقول: ليس غريباً وهذا هو حافظ أن يكون نسيجاً وحده، شاعراً وطنياً، اجتماعياً، يهيب بأمته أن تنهض، ويدعو في بلاده إلى الإصلاح. |
كانت مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر، قد وقعت فريسةً لاحتلال بغيض، استمر إلى زمن قريب، وقد نشأ عن هذا الاحتلال الأجنبي الوافد إلى مصر.. ما لا بد أن ينشأ، وما لا بد أن يكون! |
نشأت في نفوس الناس، بسبب هذا الاحتلال المداهم، حالة يأس مريرة، كادت تستبد بهم.. هذا إلى جانب ما وصلت إليه البلاد من تخلف شاملٍ، في أكثر من ميدان. |
وهذا التخلف الذي وصلت إليه مصر، وأحس به أبناؤها، كان في الواقع سائداً في كل أقطار المسلمين. |
ومن مكر الاحتلال الأجنبي في مصر -كما هو ديدنه في كل مصر- تخطيطه الخبيث للإبقاء على التخلف، ومقاومته للإصلاح. |
وليس من مجال هذا البحث، تسجيل ما قد نجم عن هذا الاحتلال من أسوأ الآثار في البلد الشقيق. |
غير أنه من الواجب الإشارة إلى ما قد نشأ من رد الفعل في أعقاب الاحتلال. |
كان من آثار هذا الاحتلال أنه أيقظ الوعي العام. |
وفي هذه الفترة بالذات كانت هناك صحف تندد بالاحتلال! |
وكان الزعيم الشاب "مصطفى كامل" زعيم الحزب الوطني -وبتأييد من الخديوي في بادئ الأمر- على رأس المقاومين للاحتلال. |
والمعروف عن مصطفى كامل أنه كان في سياسته وفي نضاله الوطني إسلامي النزعة، وكان ينادي بوجوب ارتباط مصر بالدولة العثمانية، على اعتبار أن سلطان العثمانيين هو خليفة المسلمين، وهو الرمز الباقي للوحدة الإسلامية. |
والحق أن مصطفى كامل، له فضل في النضال الوطني، إلى حد بعيد، وفي تجسيد مقاومة المحتلين، وكانت خطبه الحماسية ومقالاته النارية في جريدته اللواء.. تلهب المشاعر، وتثير النفوس. |
وكان لهذا كله، أثره في نفوس الشعراء الوطنيين، ومنهم، بل في مقدمتهم حافظ إبراهيم. |
في ميدان آخر.. كان الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي مصر في ذلك الوقت يتابع نضاله ومعه تلاميذه في مجال الإصلاح الديني. |
كانت دعوة الشيخ محمد عبده، دعوة سلفية -كما هو معروف- وكان على رأس أتباعه السيد رشيد رضا. |
كان يدعو إلى العودة بالدين إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة، وتنقيته مما دخل عليه في عصور التخلف من بدع وخرافات. |
وانتشرت أفكار كل من مصطفى كامل، ومحمد عبده، وظهر الكثيرون من أصحاب الأقلام يشاركون بحماس وإخلاص، في الميدانين، ميدان مقاومة الاحتلال، وميدان الدعوة إلى الإصلاح. |
في ميدان الدعوة إلى الإصلاح، ونتيجة لتبدل الأفكار، ونمو الوعي.. استجدت هنالك أمور وأمور، منها ما يتعلق بالتعليم، وباللغة العربية، ومنها ما يتعلق بالمرأة، إلى آخر ما هناك. |
وانبرى كل صاحب رأي وفكر، وكل صاحب قلم، يسهم بدوره في كل هذه المجالات، أو في بعضها، سواء عن طريق الكتب، أم عن طريق الصحافة، أم عن طريق المحاضرات. |
وكان بديهياً أن يكون للشعر، نصيب الأسد -كما يقول المثل- في كل مجال من مجالات الرأي، حول هذه الأمور. |
كان الإصلاح هو الهدف، وكانت الدعوة إليه قوية وسليمة بعد أن أيقن الوطنيون، أن لا بد من إصلاح مهما كان من تعنت المحتلين، في مقاومتهم للإصلاح. |
ونسأل ونحن ندخل في صميم البحث: ما هو دور الشعر -بصورة خاصة- في هذا النضال منذ أخذ ينمو بإطراد في مصر في أوائل القرن العشرين؟ |
وما هو دوره فيما أوجده هذا النضال من حركة في الأفكار؟ |
ثم -أخيراً وليس آخراً- ما هو دوره في الدعوة إلى الإصلاح؟ |
من الواجب أن نؤكد أن دور الشعر في هذه الفترة، كان بارزاً بروزاً واضحاً، بل ليس من المبالغة إن قلنا إن دور الشعر كان أكثر بروزاً ووضوحاً.. ربما أن السبب في ذلك أن الشعر كان السابق في النهضة، والسابق في الازدهار. |
لقد نبغ في مصر في تلك الفترة أشهر شعرائها إلى اليوم. |
كان هناك أحمد شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وحفني ناصف، وخليل مطران بعد أن استوطن مصر.. ثم السيد البكري وأحمد محرم ومحمد عبد المطلب وغيرهم، وغيرهم. |
وقبل هؤلاء جميعاً.. ظهر في مصر محمود سامي البارودي، وهو الذي يعتبرونه بحق، رائد البعث الشعري الحديث. |
وغني عن البيان أن لكل واحد من هؤلاء الشعراء الكبار، دوره في الحركة الفكرية، وإسهامه في دعوة الإصلاح. |
لأن تلك النهضة الشعرية نفسها إنما تميزت وأينعت، بإسهام شعرائها في تلك الحركة، وفي ذلك النضال! |
كان لكل منهم أثره في الميدان.. كان لكل منهم شعر يعبر عن اهتمام بالمجتمع، وإن كان اهتمام كل منهم يختلف.. ويبدو لي أن ثلاثةً منهم، كانوا أوفر نصيباً، وأغزر إنتاجاً من بقية زملائهم.. وأعني بهم: شوقي وحافظ وأحمد محرم.. |
والحق أن شوقي، برغم مركزه الرسمي -وللمركز الرسمي في كل الأحوال ظروفه- ما كان ليدع أية مناسبة ذات صلة بقضايا المجتمع وشؤون الإصلاح إلاّ ويدلي فيها بدلوه، ويشارك فيها بروائع من شعره ما تزال تُحفظ إلى اليوم. |
وكان أحمد محرم وهو شاعر الحزب الوطني أكثر انطلاقاً وتحرراً بطبيعة الحال من أحمد شوقي! |
أما بالنسبة لحافظ إبراهيم فلا شك أن الأمر هنا يختلف. نعم فإنه إذا قيل إن شوقي مثلاً.. لا يسبقه حافظ في دولة الشعر، وربما -في رأي البعض- لا يجاريه.. إلاّ أنه مما لا اختلاف فيه أن ميزة حافظ تبدو منفردة وحدها بالسبق عندما ننظر إليه من ناحيته الشعرية الخاصة، وهي تفوقه وإبداعه -أكثر من سواه- في الميدان السياسي والاجتماعي، وفي الدعوة إلى الإصلاح. |
لقد كان حافظ، كما سبق القول، هو الذي وُصف بشاعر الوطنية، وشاعر الشعب، وواضح أن حافظاً لم يصل إلى هذه المنزلة في نفوس مواطنيه، إلاّ لأنه كان أكثر اتصالاً بنفوسهم.. وأكثر تعبيراً عن شؤونهم وشجونهم.. وأكثر تغنِّياً بحب الوطن، وأجهر صوتاً في دعوة شبابه وشيوخه إلى التيقظ والنهوض. |
فعن وطنيته يحدثنا عبد الرحمن الرافعي، فيقول: |
"تتجلى الروح الوطنية، ويتألق نورها في شعر حافظ، ولقد وجدت الحركة الوطنية في قصائده البديعة قوة تستمد منها الحماسة والصمود في الجهاد، والثورة على الاحتلال". |
كان شعره معيناً لا ينضب من الكفاح الوطني، وكان حبه للوطن يملك عليه شغاف قلبه، ويلهمه الذود عن حريته واستقلاله، ولقد عبّر عن هذه العاطفة الملتهبة بقوله من قصيدة له سنة 1900: |
متى أرى النيل لا تحلو موارده |
لغير مرتهب للَّه مُرتقب |
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت |
جادت دموعي لها باللؤلؤ الرَّطِبِ |
كأنني عند ذكرى ما ألمَّ بها |
قَرْمٌ تردَّد بين الموت والهرب |
إذا نطقت فقاع السِّجن متَّكأٌ |
وإن سكتُّ فإن النفس لم تطب |
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا |
ونحن نمشي على أرضِ من الذَّهبِ؟ |
|
وقوله في قصيدة سنة 1910: |
كم ذا يكابد عاشق ويلاقي |
في حب مصر كثيرة العشاق؟ |
إني لأحمل في هواك صبابة |
يا مصر قد خرجت عن الأطواق |
لهفي عليك متى أراك طليقة |
يحمي كريم حماك شعب راق |
كَلِفٌ بمحمود الخلال مُتَيَّمٌ |
بالبذل بين يديك والإنفاقِ |
|
ذلك ما يقوله ويستشهد به، مؤرخ مصر الحديثة، حول وطنية حافظ إبراهيم. |
ونحن إذ نردد هذا القول، عن وطنية حافظ.. فإنما نردده لأن فيه أبلغ دلالة على ما سبق أن ذكرناه عنه وأكدناه.. ولأن هذه الوطنية المخلصة، كانت في الواقع هي الدافع والحافز وراء شدة هيام حافظ بالإصلاح، ومتابعة دعوته لقومه في كل مناسبة تسنح.. وعند كل حادث يقع.. إلى إثبات وجودهم في الحياة، وإلى محاربة كل عوامل الضعف والتخلف.. وكان من رأيه ورأي غيره من الوطنيين أن الاحتلال البغيض من أهم أغراضه الإبقاء على هذا الضعف، والوقوف في وجه كل صلاح، شأنه في كل بلاد أخرى أتيح له أن يسيطر عليها. |
ولقد كان من خطط الاحتلال، ومن أبعد أهدافه، أن يقضي على أهم مقومات الأمة، وطبعاً ليس أهم هذه المقومات، بالنسبة لمصر.. وبالنسبة لكل أمة عربية أخرى سوى لغة القرآن: اللغة العربية الفصحى، وعبثاً حاول المحتلون أن يتحقق لهم ذلك، حاولوه بأكثر من أسلوب.. حاولوه أولاً بفرض لغتهم في التعليم، وحاولوه ثانياً بإيعازهم لبعض موظفيهم وأتباعهم، بإثارة قضية لم تكن ذات موضوع، ولم يكن لها من مبرر سوى الرغبة المبيَّنة في تحقيق واحد من أهدافهم. |
أثاروا قضية اللغة العربية.. وكأنها مشكلة المشكلات، أثاروها لا لشيء.. إلاّ لغرض محوها.. بإحلال اللغة العامية مكانها. |
في سنة 1900م هبط مصر، واحد من رجالهم، يُدعى "ويلمور"، ماذا فعل مستر ويلمور هذا؟ إنه بمجرد وصوله، أو هبطوه، أخذ يذيع دعوته في الناس. دعوته إلى اللغة العامية، ظل الرجل يكتب ويخطب، ويحاور ويناظر، دون كلل أو فتور.. ولم يكفه ذلك.. بل أضاف إليه أنه ألَّف كتاباً ونشره بين المصريين يدعوهم إلى فكرته، وهو يأمل أن يقنعهم بها. |
واضطرب المصريون أمام هذه الدعوة، وجزعت لها نفوسهم، وتبارت الأقلام في الصحف: تندد بهذه الدعوة وتنكرها.. وكان فريق من أتباع، الوافدين إلى مصر في ذلك العهد.. يقفون إلى جانب "ويلمور". |
وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ عبد القادر المغربي، في كلمة له عن هذه القضية: |
"ومما يؤسف له أن يجد "ويلمور" أنصاراً له من الشعوبيين شايعوه على رأيه، وأقاموا ضجةً في القطر المصري، اهتزت لها البلاد العربية قاطبة، وكادت تكون لويلمور وأشياعه الغلبة لو لم تصدمهم نهضة حماة اللغة الفصحى، وفي طليعتهم.. حافظ إبراهيم، فيرفع صوته في وسط تلك الضجة، منشداً قصيدته الخالدة على لسان اللغة الفصحى تخاطب أبناءها وتسألهم نصرها وإغاثتها، وتقول: |
أيطربكم من جانب الغرب ناعب |
ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟ |
ولو تزجرون الطير يوماً علمتو |
بما تحته من فرقة وشتات |
|
ثم تلوم الصحف على خوضها في هذا الموضوع، فتقول: |
أرى كل يوم في الجرائد مزلقاً |
من القبر يدنيني بغير أناةِ |
وأسمع للكتَّاب في مصر ضجَّةً |
فأعلم أن الصائحين نُعاتي |
|
ولقد كانت قصيدة حافظ هذه، من أروع ما قيل يومها.. واشتهرت في سائر أنحاء مصر والعالم العربي، واستقبلها كل ناطق بالضاد بالإكبار والإعجاب. وفيها يقول حافظ على لسان اللغة: |
سقى اللَّه في بطن الجزيرة أعظُما |
يعز عليها أن تلين قناتي! |
حفظن ودادي في البلى، وحفظته |
لهن بقلب دائم الحسراتِ |
* * * |
أيهجرني قومي عفا اللَّه عنهمو |
إلى لغة لم تتصل برواةِ؟ |
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى |
لُعاب الأفاعي في مسيل فراتِ |
فجاءت كثوبٍ ضمَّ سبعين رقعة |
مُشكَّلة الألوان مختلفات |
|
ثم يقول: |
وَسِعْتُ كتاب اللَّه لفظاً وغاية |
وما ضِقتُ عن آي به وعظات: |
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة |
وتنسيق أسماء لمخترعاتِ؟ |
أنا البحر في أحشائه الدر كامن |
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟ |
|
هذه القصيدة الحافظية الفريدة، لا شك في أنها رائعة كل الروعة، رائعة في بلاغتها وصدقها، وموضوعها -كما نرى- إنها تدعونا وتغرينا بأن نتابع إيراد أبيات أخرى منها، تقول اللغة العربية، أو يقول حافظ على لسان اللغة العربية، مشيراً، إلى أن الغربيين إنما نالوا ما نالوه من عز، حين عزت لغاتهم: |
ها هي ذي الفصحى تقول: |
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعةً |
وكم عز أقوام بعزِّ لغات! |
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً |
فيا ليتكم تأتون بالكلمات! |
|
وفي ختام القصيدة توجه دعوتها إلى الكتَّاب، قائلة في نُصح: |
إلى معشر الكتاب والجمع حافل |
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي |
فإما حياة تبعث الميت في البلى |
وتنبت في تلك الرموس رفاتي |
وإما ممات لا قيامة بعده |
ممات -لعمري- لم يُقس بمماتِ |
|
وما بنا من حاجة إلى القول إن هذه القصيدة الشاكية.. كان لها أجمل وقع، وأعظم صدى، بل كان لها أيضاً أثرها الإيجابي في إخفاق دعوة مستر ويلمور وسائر أتباعه ومشايعيه، وعاد الرجل إلى بلاده بعد أن ذاق مرارة الخيبة.. وانتصرت لغة القرآن! |
* * * |
وفي سنة 1908 عندما هبت مصر لتحقيق فكرة الجامعة المصرية، بعد جدل طويل أُثير حول هذه الفكرة، وكان هناك معارضون لفكرة الجامعة بتحريض من المحتل.. زاعمين أن مصر آنذاك ليست في حاجة إلى جامعة، بقدر ما هي في حاجة إلى الإكثار من نشر التعليم الأولي إلى آخر ما كانوا يذيعون، وقد باءت مزاعم المعارضين بالخيبة هي الأخرى، وتنادى المخلصون من سائر أنحاء القطر إلى وجوب تعضيد هذا المشروع، وانهالت تبرعات الأثرياء لتمويله، وكان حافظ في طليعة المنادين بتعضيده، فنظم قصيدة، قال فيها: |
حياكم اللَّه أحيوا العلم والأدبا |
إن تنشروا العلم، ينشر فيكم العربا |
فلا حياة لكم، إلاّ بجامعة |
تكونُ أُماً لطلاب العلا وأبا! |
تبني الرجال، وتبني كل شاهقةٍ |
من المعالي، وتبني العز والغلبا |
ضعوا القلوب أساساً لا أقول لكم |
ضعوا النضار، فإني أصغر الذهبا! |
وابنوا بأكبادهم سوراً لها، ودعوا |
قيل العدو.. فإني أعرف السببا! |
لا تقنطوا إن قرأتم ما يُزوِّقُه |
ذاك العميد.. ويرميكم به غضبا |
وراقبوا يوم لا تغني حصائده |
فكل حيِّ سيُجزى بالذي اكتسبا |
وجاوبوه بفعل لا يُقوِّضُه |
قولُ المفند أنى قال أو خطبا! |
لا تهجعوا.. إنهم لن يهجعوا أبداً |
وطالبوهم.. ولكن أجملوا الطلبا |
|
* * * |
وفي سنة 1910م نُشرت له قصيدته الشهيرة، التي يحث فيها على إعانة إحدى مدارس البنات، وفيها يقول: |
إني لتطربني الخلال كريمةً |
طرب الغريب بأوبةٍ وتلاقي |
وتهزني ذكرى المروءة والندى |
بين الشمائل هزة المشتاقِ |
فإذا رزقت خليقة محمودة |
فقد اصطفاك مقسم الأرزاقِ |
فالناس هذا حظه مال، وذا |
علم، وذاك مكارم الأخلاق |
والمال إن لم تدخره مُحصَّناً |
بالعلم.. كان نهاية الإملاق |
والعلم إن لم تكتنفه شمائل |
تُعليه.. كان نهاية الإخفاق |
لا تحسبن العلم ينفع وحده |
ما لم يُتوَّج رَبُّه بخلاق! |
|
ثم يقول: |
من لي بتربية النساء فإنها |
في الشرق علَّةُ ذلك الإخفاقِ |
الأم مدرسة إذا أعددتها |
أعددت شعباً طيب الأعراق |
الأم روض.. إن تعهَّده الحيا |
بالرَّيِّ أورق أيَّما إيراق |
الأم أستاذ الأساتذة الأُلى |
شغلت مآثرهم مدى الآفاقِ |
|
إلى أن يقول: |
ربوا البنات على الفضيلة إنها |
في الموقفين لهن خير وثاق |
|
وفي قصيدة أنشدها في حفل أقامته مدرسة مصطفى كامل لتوزيع الجوائز على المتقدمين من تلاميذها، يقول مشيراً إلى ما سمعه في الحفل من أشعار وخطب تنوه بالتعليم وبالعلم: |
سمعنا حديثاً كقطر الندى |
فجدَّد في النفس ما جدَّدا |
فأضحى لآمالنا مُنعشاً |
وأمسى لآلامِنا مُرقدا |
فديناك يا شرق لا تجزعن |
إذ اليوم ولى فراقب غدا |
فكم محنةٍ أعقبت محنةً |
وولَّت سِراعاً كرجع الصَّدى |
فلا يُيْئِسَنَّكَ قيل العُداةِ |
وإن كان قيلا كحز المُدى |
أتودع فيك كنوز العلوم |
ويمشي لك الغرب مسترفدا؟ |
وتُبعثُ في أرضك الأنبياء |
ويأتي لك الغرب مسترشدا؟ |
|
ويمضي فيها إلى أن يقول: |
أيجمل من بعد هذا وذاك |
بأن نستكين وأن نجمدا؟ |
فيا أيها الناشئون اعملوا |
على خير مصر وكونوا يدا |
ستظهر فيكم ذوات الغيوب |
رجالاً تكون لمصر الفِدا |
فيا ليت شعري من منكمو |
إذا هي نادت يُلَّبي الندا؟ |
|
وكثيراً ما كان حافظ يخاطب الشباب، يستنهض منهم الهمم، ويحثهم على الجد في طلب العلوم، وانتهاج مكارم الأخلاق، ومن قصائده التي ضمَّنها هذا الموضوع، قصيدته في تحية العام الهجري، عام 1328هـ وقال فيها: |
أهلاً بنابتة البلاد ومرحباً |
جدَّدتم العهد الذي قد أخلقا |
لا تيأسوا أن تستردُّوا مجدكم |
فلرب مغلوبٍ هوى ثم ارتقى |
مدَّت له الآمال من أفلاكها |
خيط الرجاء إلى العلى فتسلقا |
فتجشموا للمجد كل عظيمة |
إني رأيت المجد صعب المرتقى |
من رام وصل الشمس حاك خيوطها |
سبباً إلى آماله.. وتعلَّقا |
عار على ابن النيل سبَّاق الورى |
مهما تقلَّب دهره أن يُسبقا |
|
ثم يقول: |
فتعلموا فالعلم مفتاح العُلا |
لم يبق باباً للسعادة مغلقا |
ثم استمدوا منه كل قواكمو |
إن القويَّ بكل أرض يُتَّقى |
وامشوا على حذرٍ فإن طريقكم |
وعر.. أطاف.. به الهلاك وحلَّقا |
|
وفي قصيدة أنشدها بمناسبة افتتاح ملجأ الحرية يقول: |
يا رجال الجد هذا وقته |
آن أن يعمل كل ما يرى |
ملجأ.. أو مصرفاً.. أو مصنعاً |
أو نقابات لزراع القرى |
أنا لا أعذر منكم من ونى |
وهو ذو مقدرة أو قصَّرا |
فابدأوا بالملجأ الحر الذي |
جئت للأيدي له مستمطرا |
واكفلوا الأيتام فيه واعلموا |
إن كل الصيد في جوف الفرا |
أيها المثري ألا تكفل من |
بات محروماً يتيماً مُعسِرا |
أنت ما يدريك لو أنبتَّه |
ربما اطلعت بدراً نيِّرا! |
ربما أطلعت "سعداً" آخراً |
يُحكم القول ويرقى المنبرا |
ربما أطلعت منه "عبدَه" |
من حمى الدين وزان الأزهرا |
ربما أطلعت منه شاعراً |
مثل "شوقي" نابهاً بين الورى |
|
ونلاحظ إشارته في الأبيات الثلاثة الأخيرة إلى سعد زغلول ومحمد عبده وأحمد شوقي.. الرجلان الأولان كان حافظ -كما سبق أن نوّهت- من أشد المعجبين بهما. أما أحمد شوقي فقد كان الشاعر الأول النابه بين الورى.. ورغم ما كان بين الشاعرين من منافسة طبيعية.. إلاّ أن كلاً منهما كان يكنُّ للآخر إعجابه وتقديره.. وقد رأينا حافظاً يعلن مبايعته لشوقي في حفل تكريمه سنة 1926م ورأينا شوقي لما مات حافظ قبله بشهرين يرثيه أبلغ رثاء، ويقول في مطلع رثائه له: |
قد كنت أوثر أن تقول رثائي |
يا مُنصف الموتى من الأحياء! |
|
وفي قصيدة أخرى يخاطب فيها حافظ الشباب يقول: |
رجال الغد المأمول إنا بحاجةٍ |
إلى قادة تبني، وشعب يعمِّرُ |
رجال الغد المأمول إنا بحاجةٍ |
إلى عالم يدري، وعلم يُقرَّرُ |
رجال الغد المأمول إنا بحاجةٍ |
إلى حكمة تُملى، وكفٍّ تحرِّرُ |
رجال الغد المأمول إن بلادكم |
تناشدكم باللَّه أن تتذكروا |
عليكم حقوق للبلاد، أجلُّها |
تعهُّدُ روض العلم، فالروض مقفرُ |
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم |
يداً تبتني مجداً، ورأساً يفكر |
فكونوا رجالاً عاملين أعزَّةً |
وصونوا حمى أوطانكم وتحرَّروا |
|
* * * |
ويتمنى حافظ لأمته أن يراها تباري غيرها من أمم الحضارة: علماً ووثباً إلى العلا، ونضالاً.. كما نرى في قصيدةٍ له أنشدها في حفل أقامته كلية البنات الأمريكية موجهاً فيه الخطاب إلى أمريكا.. يقول فيها: |
أي رجال الدنيا الجديدة مهلاً |
قد شأوتم بالمعجزات الرجالا |
وفهمتهم معنى الحياة، فأر |
صدتم عليها لكل نقصٍ كمالا |
وحرصتم على العقول فحرَّ |
متم عصيراً يراه قوم حلالا |
|
وواضح أنه هنا يشير إلى قانون لتحريم المسكرات، كانت أمريكا أصدرته في ذلك الحين.. ثم يقول حافظ: |
وقدرتم دقيقة العمر حرصاً |
وسواكم لا يقدُرُ الأجيالا |
قد طويتم فراسخ الأرض طيًّا |
ومشيتم على الهواءِ اختيالا |
ثم سخَّرتم الرياح فسمتم |
حيث شئتم جنوبَها والشمالا |
|
إلى أن يقول: |
ثم حاولتم الكلام مع النـ |
ـجم فحَمَّلتُمُ الشعاع مقالا |
ومحا "فُوردُ" آية المشي حتى |
شرعَ الناس ينبذون النِّعالا! |
وأقمتم في كل أرض صروحاً |
تنطحُ السُّحب شامخات طوالا |
وغرستم للعلم روضاً أنيقاً |
فوق دنيا الورى.. يمدُّ الظلالا |
|
ثم يقول: |
ليت شعري متى أرى أرض مصر |
في حمى اللَّه تنبتُ الأبطالا |
وأرى أهلها يُبارونكم علـ |
ـماً ووثباً إلى العلا.. ونضالا! |
|
* * * |
ولا ينسى حافظ أن يدعو أمته إلى توحيد كلمتها، وإلى نبذ التخاذل، والدعوة إلى توحيد الكلمة، ونبذ التخاذل، ليست بعيدةً عن دعوة الإصلاح وأيُّ إصلاح يمكن أن يتحقق إذا لم تكن الأمة متحدة متضامنة.. يقول الحافظ: |
ويد الإله مع الجماعة فاضربوا |
بعصا الجماعة، تظفروا بنجاحِ |
كونوا رجالاً عاملين، وكذِّبوا |
-والصبحُ أبلجُ- حامل المصباحِ |
ودعوا التخاذل في الأمور فإنما |
شبحُ التخاذل أنكر الأشباح |
واللَّه ما بلغ الشقاء بنا المدى |
بسوى خلافٍ بيننا وتلاحي |
|
وعلى نحو ما كان حافظ -رحمه الله- يدعو إلى توحيد الكلمة ونبذ الاختلاف، وعلى نحو ما كان يدعو إليه من نشر التعليم، مع مساواة المرأة بالرجل في هذا المجال. وعلى نحو ما كان يدعو إليه من تعضيد لمشروع الجامعة الأهلية وغيره من مشاريع الإصلاح.. كان حافظ أيضاً يدعو إلى مواساة البائسين والمنكوبين، إن مجال الإصلاح عند هذا الشاعر لا يختص بنواحٍ دون أخرى.. فكل أمر يرجى منه الخير للأمة، أو لفريق من الأمة.. أو بدفع ضرراً أو شراً.. هو جزء من مخطط الإصلاح.. وقد كان لحافظ صوته المدوِّي كلما وقع حدث، أو وقعت مأساة لا في بلده مصر وحدها بل في أي بلد من بلاد الله. |
عند كل مناسبة لإنشاء مشروع خيري.. نجد حافظاً أول الداعين إلى تعضيده في قصيدة أو أكثر.. من ذلك قصائده في الحفل الذي أقامته جمعية رعاية الأطفال في الأوبرا سنة 1910م وجمعية إعانة العميان سنة 1916م وجمعية الطفل سنة 1928م. |
وعندما تقع مأساة.. نجد حافظاً لا يقر له قرار، ولا يرتاح له ضمير.. فإذا به يهزُّ الناس هزاً بشعره الباكي الحزين، يصور المأساة تصويراً تهلعُ له النفوس، وتدمع له العيون، يستصرخهم أن يتسابقوا للبذل في سبيل إغاثة من لفحتهم المأساة بنارها، ووقعوا ضحية لها.. ولم تكن قصائد حافظ في هذه المواقف الصارخة تذهب سدى. |
في سنة 1902م شبت النار في مدينة ميت غمر من أعمال الدقهلية وبقيت تأكل كل ما تأتي عليه في هذه المدينة، وظلت هذه الحالة أسبوعاً ومات بسببها كثيرون، ودُمِّر الكثير من المنازل.. ولعظم هذه النكبة تألفت جماعة من الأعيان لتخفيف ويلات هذا المصاب. |
سائلوا الليل عنهمو والنهارا |
كيف باتت نساؤهم والعذارى؟ |
كيف أمسى رضيعهم فقد الأمَّ |
وكيف اصطلى مع القوم نارا؟ |
كيف طاح العجوز تحت جدارٍ |
يتداعى، وأُسقُف تتجارى؟ |
ربِّ إن القضاء أنحى عليهم |
فاكشف الكرب وأحجب الأقدارا |
ومُرِ النار أن تكفَّ أذاها |
ومرِ الغيثَ أن يسيل انهمارا |
أين طوفان صاحب الفُلك يُروي |
هذه النار، فهي تشكو الأوارا! |
أشعلت فحمة الدياجي فباتت |
تملأ الأرض والسماء شرارا |
* * * |
أكلت دورهم فلما استقلَّت |
لم تغادر صغارهم والكبارا |
أخرجتهم من الديار عُراة |
حذر الموت يطلبون الفرارا |
يلبسون الظلام حتى إذا ما |
أقبل الصبح يلبسون النهارا |
حُلَّةً لا تقيهمُ الحرَّ والبر |
د، ولا عنهمو تردُّ الغبارا |
|
ثم يقول: |
أيها الرافلون في حُلل الوشـ |
ـي يجرُّون للذيول افتخارا |
إن فوق العراء قوماً جياعاً |
يتوارون ذلةً وانكسارا |
|
إلى آخر هذه القصيدة المشجية.. وقد كان لها صداها في دفع أغنياء البلاد، وغيرهم من أهل اليسار إلى التبرع السخي إغاثة منكوبي حريق ميت غمر. |
وبنفس هذه الروح، وانطلاقاً من هذه المشاعر الدفاقة كتب قصيدته الذائعة الصيت في وصف زلزال مسينا بإيطاليا وفيها يقول: |
ما لمسين عوجلت في صباها |
ودعاها من الردى داعيان |
ومحت تلكمُ المحاسن منها |
حين تمَّت آياتُها آيتان |
خُسِفَت، ثم أُغرقت، ثم بادت |
قُضي الأمر كلُّه في ثواني |
وأتى أمرها فأضحت كأن لم |
تك بالأمس زينة البلدان |
ليتها أُمهلت فتقضي حقوقاً |
من وداع اللَّدات والجيران |
لمحة يسعدُ الصديقان فيها |
باجتماع ويلتقي العاشقانِ |
بغت الأرض والجبال عليها |
وطغى البحر أيَّما طغيانِ |
|
ثم يقول: |
رُبَّ طفل قد ساخ في باطن الأ |
رض ينادي: أُمي! أبي؟ أدركاني! |
وفتاة هيفاء تُشَوى على الجمـ |
ـرِ تعاني من حرِّه ما تعاني |
وأب ذاهل إلى النار يمشي |
مُستميتاً تمتدُّ منه اليدانِ |
باحثاً عن بناته وبنيهِ |
مسرعَ الخطوِ مستطير الجنان |
تأكل النار منه، لا هو ناجٍ |
من لظاها.. ولا اللَّظى عنه واني |
غصَّت الأرض، أتخم البحر مما |
طوياه من هذه الأبدانِ |
وشكا الحوتُ للنسور شكاة |
ردَّدتها النسور للحيتان |
أسرفا في الجسوم نقراً ونهشاً |
ثم باتا من كظَّةٍ يشكوانِ |
|
* * * |
وكثيراً ما كان حافظ إبراهيم في قصائده السياسية الثائرة.. يشكو من عنت الاحتلال.. يشكو من جوره وعسفه.. يشكو من وقوفه معارضاً لكل إصلاح.. وما كان يبالي أن يوجه خطابه بين آونة وأخرى، إلى عميده: عميد الاحتلال "كرومر" بمثل هذه الأبيات: |
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت |
حواشيه.. حتى بات ظلماً منظما |
تمنُّ علينا اليوم أن أخصب الثرى |
وأن أصبح المصري حرًّا منعَّما! |
عملتُم على عزَّ الجمادِ.. وذلنا |
فأغليتمو طيناً.. وأرخصتمو دما! |
إذا أخصبت أرض.. وأجدب أهلها |
فلا أطلعت نبتاً، ولا جادها السَّما |
|
والمعروف عن كرومر، أو اللورد كرومر.. غروره وعجرفته الشديدة.. |
ولقد كان يفخر بجراءة عجيبة بما يزعمه لنفسه من إصلاحات تمت في عهده. منها أن الزراعة تقدمت في مصر وهو بهذا يتجاهل أنَّ نكبة مصر، لا.. ولا يمكن أن يعوَّض عنها أي تقدم من هذا القبيل.. خاصةً وهو تقدم إنما تمَّ لأن المحتلين الغاصبين هم المستفيدون منه أولاً. |
وعندما يستقيل كرومر ويُزمع على مغادرة البلاد.. في سنة 1907م يودعه حافظ أو يشيِّعُه بقصيدةٍ تهكمية لاذعة.. يقول فيها: |
فتى الشعر هذا موطن الصدق والهدى |
فلا تكذب التاريخ.. إن كنت منشدا |
لقد حان توديع العميد وإنه |
حقيق بتشييع المحبين والعِدا |
فودِّع لنا الطود الذي كان شامخاً |
وشيع لنا البحر الذي كان مُزبدا |
|
ثم يخاطبه بقوله: |
يناديك قد أزريت بالعلم والحجا |
ولم تبق للتعليم "يا لورد" معهدا |
وأنك أخصبت البلاد تعمداً |
وأجدبت في مصر القول تعمدا! |
|
وهذا هو السر.. أو هذا هو الهدف من وراء إخصاب البلاد. |
ثم يقول: |
قضيت على أم اللغات وإنه |
قضاء علينا أو سبيل إلى الردى! |
|
نعم.. لقد تعمد الاحتلال القضاء على اللغة العربية، أولاً بتقريره وجوب جعل دراسة العلوم في أكثر المدارس باللغة الإنكليزية.. وثانياً بدعوته الآثمة والفاشلة إلى إلغاء الفصحى.. وإبدال العامية بها. |
ثم يقول الشاعر: |
وأودعت تقرير الوداع مغامزاً |
رأينا جفاء الطبع فيه مجسَّدا |
غمزت بها دين النبي، وإننا |
لنغضب إن أغضبت في القبر أحمدا |
|
ويشير الشاعر هنا إلى آخر تقرير قدمه كرومر لحكومته حمل فيه على المصريين حملة شعواء وتعرض فيه للإسلام بمطاعن لا تصدر إلاّ عن جاهل بحقيقة الإسلام، أو متعصب. |
وقد كان معروفاً عن حافظ شدة تدينه، وغيرته على الإسلام ولم يكن هذا غريباً من حافظ، وهو تلميذ محمد عبده ومصطفى كامل -على ما أشرت إليه من قبل- وكلاهما كان مشهوراً -ولا سيما محمد عبده- بدعوته الإسلامية الإصلاحية. |
فإذا ما رأينا حافظاً في هذا البيت الأخير يستشيط غضباً تجاه حملة كرومر على الإسلام، وعلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنما يُعبِّر بذلك عن عقيدة وإيمان وعن غيرة إسلامية لا تشوبها شائبة. |
* * * |
ويسوقنا الحديث هنا إلى أن نذكر بعض أبيات فرائد لحافظ مما لا يخرج بنا عن صُلب هذا البحث. منها قوله عن دعاء المظلوم: |
دعوة البائس المعذَّب سور |
يدفع الشر عن حياض الكرامِ |
وهي حرب على البخيل، وذي الـ |
ـغي.. وسيف على رقاب اللئام |
|
ومنها قوله في حكمة الزكاة: |
لو وفى بالزكاة من جمع الما |
ل، وأهوى على اقتناء الحطامِ |
ما شكا الجوع مُعدمٌ أو تصدى |
لركوب الشرور، والآثام! |
|
ومنها قوله في التنديد بمدنية الغرب حينما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى: |
لا هُمَّ إن الغرب أصبح شعلةً |
من هولها أمّ الصواعق تفرقُ |
العلم يُذكي نارها وتثيرها |
مدنية خرقاء.. لا تترفَّق |
ولقد حسبت العلم فينا نعمة |
تأسو الضعيف ورحمة تتدفق |
فإِذا بنعمته بلاء مرهق |
وإذا برحمته قضاء مطبق |
إن كان عهد العلم هذا شأنه |
فينا.. فعهد الجاهلية أرفق! |
|
وبعد فإن الحديث عن حافظ شاعر الناس.. لا شك.. سيطول لو أردنا أن نصل في هذا الحديث إلى غاية مداه. |
أظن أنه يحسن الوقوف عند هذا الحد.. بعد أن تناول البحث أكثر النقاط ذات الصلة بحياة الشاعر من ناحية.. وبشعره الاجتماعي والوطني، ودعوته إلى الإصلاح من ناحية أخرى. |
لكني لا أحب أن يختم هذا البحث قبل الإشارة إلى قصيدة من قصائد حافظ إبراهيم، تعتبر ذروة فريدة بين سائر درره الشعرية.. قصيدة ذات تاريخ.. قصيدة ربما يراها الكثيرون أروع قصائد حافظ في مجال الوطنية والاجتماع. |
قصيدته: "مصر تتحدث عن نفسها" وكان قد نظمها سنة 1921م على أثر قطع مفاوضات جرت بين رئيس حكومة مصر عدلي يكن ووزير خارجية إنكلترا لورد كيرزون وانتهت بالفشل.. في هذه القصيدة يشيد الشاعر بوطنه مصر وبتاريخها بأسلوب رائع جميل، أجرى فيه حديثه كله على لسان مصر.. على غرار ما صنعه في قصيدته عن اللغة العربية. |
مصر في قصيدة حافظ هذه.. تناشد أبناءها وهي تروي لهم ألواناً من أمجاد ماضيها أن يحتذوا هذا الماضي.. ثم تهيب بهم أن يتعاونوا على التمسك بحقهم كاملاً حتى يبلغوه. |
أجل ومهما كان من أمر الغاصبين فلا بد لأبناء مصر وهم طلاب حق يناضلون في سبيله دوماً.. لا بد لهم مهما طال الزمن من حصولهم عليه. |
وها هي مصر تناشد أبناءها أن يمهروها بالروح، ويردوا بها منازل العز ويرفعوا دولتها على العلم والأخلاق، ويتواصوا بالصبر.. وهو أهم ما ظل حافظ ينادي به طيلة حياته في دعوته الإصلاحية: |
تقول مصر: |
قد وعدت العُلى بكل أبيٍّ |
من رجالي.. فانجزوا اليوم وعدي |
أمهروها بالروح فهي عروس |
تنشأُ المهر من عُروض ونقدِ |
وردوا بي مناهل العز حتى |
يخطب النجمُ في المجرَّة وُدِّي |
وارفعوا دولتي على العلم والأ |
خلاق فالعلم وحده ليس يُجدي! |
وتواصوا بالصبر.. فالصبر إن فا |
رقَ قوماً فما له من مَسَدٍّ! |
|
ثم تدعو مصر.. أو يدعو شاعِرها إلى توحيد الكلمة ونبذ الشقاق فيقول: |
إن في الغرب أعيناً راصدات |
كحَّلتها الأطماع فيكم بسُهدِ |
فوقها مِجهرٌ يريها خفايا |
كم.. ويطوي شعاعُه كلَّ بُعدِ |
فاتقوها بِجُنَّةٍ من وئام |
غير رث العُرى.. وسعي وكدِّ |
نحن نجتاز موقفاً تعثُر الآ |
راء فيه.. وعثرةُ الرأي تُردي! |
|
ثم يقول: |
فقفوا فيه وقفة الحزم، وارموا |
جانبيه بعزمة المُستَعيدِّ |
إننا عند فجر ليلٍ طويلٍ |
قد قطعناه بين سُهدٍ ووجدِ |
غمرتنا سود الأهاويل فيه |
والأمانيُّ بين جزر ومَدِّ! |
وتجلى ضياؤه بعد لأي |
وهو رمز لعهدي المسترد |
فاستبينوا قصد السبيل وجدُّوا |
فالمعالي مخطوبة للمجدِّ! |
|
* * * |
نعم.. هذا هو حافظ إبراهيم، في هيامه بوطنه مصر.. وفي ندائه إياه في كل مناسبة تسنح إلى توحيد الكلمة.. وتركِ الخلاف.. وفي دعوته له دائماً إلى النهوض والإصلاح. |
هذا هو حافظ إبراهيم، شاعر مصر والشرق في الثُلثِ الأول من القرن العشرين. |
هذا هو حافظ إبراهيم، شاعر الناس، الذي أحبَّ الناس.. وأحبه الناس وكان أقرب شعراء جيله وللآن.. إلى قلوب الناس. |
هذا هو حافظ، صديق الجميع، صديق الكبراء والزعماء، وصديق الشعب. الذي كان يألف ويؤلف.. وكان بسماحة نفسه، وبسجاحة خُلقه، وبسحر حديثه، وبجاذبية شخصيته الودود المرحة.. يملأ النوادي والمجالس، أُنساً وبهجةً وفكاهةً.. وفي نفسه من الهمِّ والشجن.. وفي حياته من البؤس والشظف، ما نلمسه لمساً، في شعره الحزين عندما يشكو ويئن.. |
هذا هو حافظ.. الذي كان شعره مرآة نفسه.. ومرآة حياته.. ومرآة عصره.. وكان في شعره الهادف إلى الإصلاح: الرائد الذي لا يكذب أهله، والناصح الأمين. |
وأخيراً -لا آخراً- هذا هو حافظ الذي لم يُرد أن يجعل من شعره وسيلة لهو وترف.. وأداة كسب وانتفاع.. أو مجرَّد طريق "عُبور" إلى الشهرة.. أو فناً من أجل الفن.. وإنما آثر الطريق الصعب.. آثر أن يكون شاعر نضال وكفاح.. آثر أن يكون شاعر قومه في المقام الأول.. يبُثهم شكواه منهم.. وغيرته عليهم.. وإخلاصه لهم.. ويدعوهم بلسان الشاعر الملهم، وبأسلوب الفنان العبقري، إلى النهوض والتقدم والإصلاح. |
ومع أن العصر الذي عاش فيه، كان عصر انبعاث الشعر، وكان يحفل بشعراء فحول عمالقة.. إلاّ أنه هو وزميله شوقي كانا وحدهما الطائرين المحلِّقين.. وكانا وحدهما شاعري مصر.. وشاعِري العصر. |
ولم يبالغ الدكتور طه حسين، عندما قال عنهما في كتابه "حافظ وشوقي". |
".. هما أشعر أهل الشرقِ العربي، منذ مات المتنبي وأبو العلاء، من غير شك، هما ختام هذه الحياة الأدبية الطويلة الباهرة.. التي بدأت في نجد.. وانتهت في القاهرة، وعاشت خمسة عشر قرناً أو أكثر، والتي ستستحيل وتتطور، وتستقبل لوناً جديداً من ألوان الفن، وضرباً جديداً من ضروب المُثل العُليا في الشعر". |
|