شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تقديم وحي الفؤاد
الأخ الصديق الأديب الأستاذ فؤاد شاكر، أراد مني أن أدون هذه الخواطر أقدم بها لديوانه هذا الحديث.
ولم يسعني، تقديراً مني لشعوره الطيب، وحسن ظنه بي، سوى أن أمتثل لرغبته وأستجيب.
وسألت نفسي -أولاً: من أين أبدأ؟
أأبدأ بالحديث عن شعر الشاعر، وهو -كما نعلم- شاعر نابه معروف له من شهرته ما يغنيه عن أي كلام يقال عن شعره المقروء؟
أم أنه لا بد قبل أي حديث من تمهيد.. -ولو سريع- عن مرحلة من المراحل، يجتازها الشعر العربي في هذه الأيام؟
وكان جوابي: لا بد من مثل هذا التمهيد. على الأقل عن "ظاهرة" تبدو أكثر ضجيجاً وصخباً ودعاية منذ أواخر الحرب الأخيرة.
وما أظن قارئاً أديباً. إلاّ وقد عرف ما هي هذه الظاهرة؟ أو على الأصح ما هي هذه القضية ذات الأهمية، التي تواجه الشعر المعاصر؟
ما أظنه إلاّ وقد عرف أنها قضية النزاع القائم بين مدرسة في الشعر ترى في منتهى الإخلاص أن الشعر العربي هو الشعر العربي.. فلا بد -إذن- أن يظل مع ابتعاده عن أي جمود -عربياً في روحه، عربياً في مبناه.
ومدرسة أخرى جديدة. خرجت تدعو إلى التطور، وليس التطور مذموماً لذاته، إلاّ أنها أوغلت في دعوتها وبالغت.. إلى أقصى الحدود.
هذا هو النزاع القائم في دنيا الشعر اليوم.
نزاع بين مدرستين من مدارس الأدب إحداهما -كما لا ينكر أحد- كانت رائدة التجديد في الشعر العربي منذ أوائل القرن العشرين. والأخرى على النقيض تنكر أي تجديد أحدثه تلك المدرسة.. بل أكثر من ذلك تراه تقليداً.. رجوعاً إلى الوراء.. خضوعاً للقديم..
مدرسة الشعر الحر، أو الحديث.. كما يسميها أصحابها لا ترى في تجديد خليل مطران أو تجديد شعراء الديوان.. أو شعراء المهجر سوى أنه تقليد ربما لسبب واحد فقط: هو أن كلاً من خليل مطران والعقاد والمازني وشكري وإيليا أبي ماضي وغيرهم ممن ساروا على طريقتهم.. لم يحاولوا أن يثوروا على القديم.
لم يحاولوا أن يلغوا الطابع العربي الأصيل للقصيدة العربية.
لم يحاولوا أن يتحرروا من وحدة القافية في الشعر.. وبالتالي لم يحاولوا أن يتحرروا من أوزان الشعر في نمطها التقليدي المعروف.
وليس من شك في أنه سيستمر هذا النزاع ويستمر، شأنه شأن أي نزاع يحدث عادةً بين أي اتجاه واتجاه..
والحكم -في رأيي- يجب أن نتركه للزمن. فالزمن وحده كفيل بأن يقوم بمهمة الغربلة والتمحيص.
الزمن وحده كفيل بأن يثبت لأي من هاتين المدرستين المتنازعتين على دولة الشعر صلاحها للبقاء أم عدم صلاحها.
* * *
ومهما يكن من أمر.. أو مهما يكن من خلاف في الرأي في هذا المجال، أحب ألاّ يفوتني أن أشير هنا إلى حقيقة بارزة ليست بخافية، وهي أن الشعر العربي الأصيل أو المحافظ أو التقليدي كما يصفونه يعود إليه وحده الفضل في الوعي الفكري الحديث.
وقد كان أعلام هذا الشعر ابتداء من البارودي واليازجي وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر ثم شوقي وحافظ ومحرم والرصافي والشبيبي والخطيب والأخطل الصغير وغيرهم من شعراء القرن العشرين هم الذين هيأوا لهذا الوعي وما يزال شعرهم هو الأكثر سيرورة ورواجاً إلى يومنا هذا.
نعم ما يزال شعر هذه النخبة من شعرائنا العرب في هذا العصر هو الشعر الأكثر سيرورة ورواجاً في كل مكان.
لا لشيء إلاّ لأنه أصيل.
ليس فيه زيف. وليس فيه هزال.
أبرز شيء فيه أنه شعر عربي، يتسم بالطابع العربي، دون أي تزمت، ودون أي جمود، فهو من ناحية أغراضه ومعانيه متحرر كل التحرر، ومساير للتطور.. لكن دون أن يمس هذا التطور -من ناحية الشكل- القواعد الفنية للشعر العربي.
إن ميزته التي من أجلها سمي "تقليدياً" أن أصحابه أبوا أن يمحوا الطابع العربي للشعر. لكنه فيما عدا محافظته على عمود الشعر.. وفيما عدا احتفاظه بالصياغة العربية ومنها وحدة القافية في القصيدة.. فيما عدا كل ذلك. فإن هذا الشعر لم يتخل عن رسالة التجديد، بل لقد كان هذا الشعر، في الواقع، هو الذي أخذ ينشر الوعي ويوقظ الأفكار، بل حسب هذا الشعر طيلة هذه الفترة أنه هو الذي أوجد فكرة الكفاح ضد الاستعمار لدى الشعوب العربية.
لقد كان ملتزماً حقاً.. ولو أن كلمة التزام لم تدخل القاموس العربي في سوى الزمن الأخير.
فكما كان من ناحية الصياغة والشكل ملتزماً. كان ملتزماً أيضاً من ناحية المضمون. كان هو الموحي والموجه. والمعبر في كل المواقف، وتجاه كل الأحداث عن آمال العرب وآلامهم. لم يكن شعراً من أجل الفن -ومن أجل الفن فحسب- وإن كان هو في مجموعه الضخم في الذروة من الفن.
لم يكن ترفاً.. ولا ميوعة أو تصويراً لمشاعر جامحة، أو هوى مكبوت.
باختصار: لم يكن أعلام الشعر العربي المعاصر منذ أوائل القرن العشرين: شعراء أنانيين يعيشون في أبراج من العاج.
وبالطبع هذا لا يمنع الاستثناء.
* * *
نعم.. لم يكونوا شعراء أنانيين.
فهذا أحمد شوقي -على سبيل المثال- وأحرى به أن يكون هو وحده المثال.. نقرأ شوقياته في أجزائها الأربعة مع ما ظهر من شوقياته المجهولة.. فلا نجد في الشوقيات سوى الأثر الحي للعبقرية.. دون مراء.
في الشوقيات: نبضات شاعر عظيم، شاعر استطاع أن يرتفع بجناحي نسر.. شاعر كان يحس من أعماق وجدانه أنه ابن الأمة التي يحيا فيها، والزمن الذي يعيش فيه.
لقد كان شوقي بحق -شاعر العصر الحديث.
كل قطر من أقطار العروبة كان ينظر إلى شوقي على اعتبار أنه شاعر العربية الأول.
ولم يكن ذلك إكباراً لشاعرية شوقي وحدها.. وإنما كان ذلك لأن شوقي نفسه إنما كان يعبر في شعر رائع مؤثر عن مشاعر العرب أجمعين.
* * *
في حفلة تكريمه في عام 1926م وقف شوقي يحيي المحتفلين ويشكرهم، وقف يحييهم ويشكرهم بأروع شعر يصدر عن شاعر.. ولم ينس شوقي وهو في موضع الحفاوة، وفي مقام التكريم.. لم ينس شوقي أن يترنم بالشرق.. وأن يشيد بالعرب وأن يتحدث في ألم وفي أمل من أسمى مشاعره وأمانيه. في حفلة تكريمه.. وفي أجمل قصيدة ألقيت في الحفل استمع الناس إلى شوقي يقول:
كان شعري الغناء في فرح الشرق،
وكان العزاء في أحزانه
قد قضى اللَّه أن يؤلفنا الجر
ح، وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح
لمس الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد
تتنزى الليوث في قضبانه
نحن في الفكر بالديار سواء
كلنا مشفق على أوطانه
* * *
وفي نفس العام وقعت نكبة دمشق على أيدي الفرنسيين أثناء الثورة الكبرى التي قامت بها سورية إذ ذاك.. فكانت أروع قصيدة قالها شاعر عربي حول هذه النكبة -على كثرة ما نظم الشعراء من شعرهم يومذاك- هي قصيدة شوقي.
وفي هذه القصيدة يقول:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق!
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء، عن وصف يدق
ثم يقول:
لحاها اللَّه أنباء توالت
على سمع الولي بما يشق
تكاد لروعة الأحداث فيها
تخال من الخرافة وهي صدق
وقيل: معالم التاريخ دكت
وقيل: أصابها تلف وحرق
إلى أن يقول:
رباع الخلد ويحك. ما دهاها
أحق إنها درست؟ أحق؟
ثم يقول، وكأنما هو يخاطبنا الآن:
وللمستعمرين، وإن ألانوا
قلوب كالحجارة، لا ترق
ثم يقول:
وحررت الشعوب على قناها
فكيف على قناها تسترق؟
"نصحت.. ونحن مختلفون داراً
ولكن كلنا في الهم شرق"
"ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف، ونطق"
إلى أن يقول:
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت.. ودين مستحق
"ولا يبني الممالك كالضحايا
ولا يدني الحقوق، ولا يحق"
"ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فدى لهمو وعتق"
"وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق"
إلى آخر هذه القصيدة المدوية.. الطائرة الصيت.
* * *
من شعر شوقي أيضاً هذه الأبيات يخاطب فيها المستعمر:
إن ملكت النفوس فابغ رضاها
فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأ
سر فكيف الخلائق العقلاء؟
يحسب الظالمون أن سيودْ
ون وإن لن يؤيد الضعفاء
والليالي جوائر مثلما جا
روا وللدهر مثلهم أهواء
ولنلاحظ أن شوقي قال هذه الأبيات في عام 1894م والاحتلال الإنكليزي جاثم فوق أرض الكنانة والسلطان عبد الحميد كان ما يزال سلطاناً، وأميراً للمؤمنين.
* * *
شاعر آخر من رصفاء أحمد شوقي.. إنه "معروف الرصافي" الذي يقول في إحدى قصائده الساخرة "القوة تصف الحرية" بأسلوب كله تهكم:
يا قوم لا تتكلموا
إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلاّ النوم
وتأخروا عن كلما
يقضي بأن تتقدموا
ودعوا التفهم جانباً
فالخير أن لا تفهموا
وتثبتوا في جهلكم
فالشر أن تتعلموا
من شاء منكم أن يعيـ
ـش اليوم وهو مكرم
فليمس لا سمع ولا
بصر لديه ولا فم
لا يستحق كرامة
إلاّ الأصم الأبكم
وما أكثر هذه "الرصافيات" التي لم تكن إلاّ تنديداً بالمستعمر.. رصافيات لو قالها غير الرصافي آنذاك، لما كان يحظى إلاّ بالسجن أو ما هو أشد من السجن أو النفي والتشريد.
ولنستمع إلى شاعر آخر أيضاً.. شاعر من لبنان.. إلى الأخطل الصغير.. في قصيدة من قصائده يحيي فيها جهاد فلسطين -والتاريخ اليوم يعيد نفسه- يقول فيها:
يا فلسطين التي كدنا لما
كابدته من أسى ننسى أسانا
نحن يا أخت على العهد الذي
قد رضعناه من المهد كلانا!
شرف للموت أن نطعمه
أنفساً جبارة تأبى الهوانا
انشروا الهول وصبوا ناركم
كيفما شئتم، فلم تلقوا جبانا
غدت الأحداث منا أنفساً
لم يزدها العسف إلاّ عنفوانا
* * *
ومن هذه البلاد.. نقرأ لشاعر من الحجاز "محمد صبحي" هذه الأبيات من قصيدة نظمها معارضاً بها قصيدة الشاعر السوري "سليمان الأحمد" -بدوي الجبل- والتي ورد فيها هذا البيت:
ليس في الأرض للضعيف حقوق
طمع الأقوياء غال السلاما
يقول "محمد صبحي" شاعرنا المنسي:
ما أخف الشكوى وأحلى الملاما
لو يكونان يطفئان الأواما!
ما أحب العتاد لو كان ينجي
من هموم ويبرئ الأسقاما
ما أعز الرجاء لو رد حقاً
والتمني لو حقق الأحلاما!
ذهب اليوم كل حق إذا لم
يصطحب ذابلاً ويشحذ حساما
"ليس في الأرض للضعيف حقوق"
إنما الحق للقوي استداما
طمع الأقوياء بز حقوقاً
"طمع الأقوياء غالَ السلاما"
إلى أن يقول:
يا بني أم والحوادث تترى
سانح الوقت لا يكون دواما
يا بني أم ليس يجدي التواني
لا ولا يثمر "الخلاف" وئاما
فاتركوا العتب والشكاية وامشوا
لمجال الوغى، وخلوا الكلاما!
فاجعلوا من دم العدو مداداً
واجعلوا من رماحكم أقلاما
ثم يمضي شاعرنا قائلاً:
أيها المسلمون قد وضح الأمـ
ـر، فخلوا الجفا، وخلوا الخصاما
وتعالوا للاتحاد، ولبوا
داعي الحق، والزموا الاعتصاما
واستفيقوا فقد دهتنا الليالي
إن فيها من الأمور عظاما
ومن نظم شاعر مكي ناشئ (1) في تلك الأيام هذه الأبيات من قصيدة، يخاطب فيها طغاة الاستعمار بعد أن أعلنوا غدرهم بالعهود المعطاة منهم للعرب وشنوا عليهم إرهابهم:
نحن لسنا نخشى المهالك حتى
ترهبونا بالقوة الناريه
نحن قوم نهوى المعالي فلا نر
ضى سواها، وغيرها أمنيه
نحن قوم، على الإباء جبلنا
وفطرنا على الندى والحميه
خبرونا يا ساسة الغرب، يا من
قد تمادوا في الظلم والهمجيه
خبرونا. أين العدالة في الأحـ
ـكام؟ أين الإنصاف والحريه؟
خبرونا. أين التفاخر بالـ
ـعلم؟ وأين الصياح بالمدنيه؟
ومنها:
حسبوا أن أمة العرب لا تفـ
ـهم سير السياسة العصريه
فتغاضوا عما لها من حقوق
ورموها بالجهل والوحشيه
وتغنوا بالأمس في مجلس الصلح
بتلك المبادئ الولسنيه
أكثروا في مديحها وأطالوا
من حديث "الجمعية الأمميه"
هم أرادوا خداعنا، غير أنا
قد فهمنا أسرار تلك القضيه
وعلمنا بأن غايتهم، إن
هي، إلاّ رهاق للبشريه
أين "ولسون" أيها القوم بل قو
لوا لنا: أين راحت "الجمعيه"
ومنها:
ليس في الغرب ما يسمى نظاماً
ليس فيه عدل ولا حريه!
إنما هذه معانٍ وألـ
ـفاظ لديهم، وأسطر شعريه
* * *
أيها الظالمون، أفسدتم الأر
ض، وأرهقتمو جميع البريه
قد طغيتم على الأنام ودنسـ
ـتم نظام الطبيعة الكونيه
فأخبرونا: هل انتهى الغرب من
تمثيل تلك الرواية الهزليه
* * *
ولم ينته الغرب طبعاً.
بل في وسعنا أن نقول:
ما أشبه الليلة بالبارحة!
وما أشبه اليوم بالأمس!
ما أشبه أحداث الساعة التي نعيشها الآن.. بأحداث جسام، مرت بالأمة العربية. وبالعالم الإسلامي. طيلة النصف الأول من القرن العشرين!
ولئن كان قد بلغ من عنف هذه الأحداث أنها أوجدت توتراً وقلقاً في النفوس إلى حد اليأس أحياناً فهي، من ناحية أخرى -قد أوجدت شيئاً آخر أوجدت تصميماً وإصراراً -إلى أبعد مدى -على المقاومة والتحدي!
وقد كانت الأحداث بالنسبة للشعر -مصدر قوة، وباعث يقظة، وينبوع إلهام! لقد أثرت هي في الشعر، وأثر هو -بدوره- فيها!
ولم يحل بينه وبين أن يجاري الأحداث ولم يحل بينه وبين أن يساير روح العصر أيضاً -ويماشي التطور، ويتولى الريادة، ويحمل راية النضال إنه شعر محافظ -كما اصطلحوا أن يقولوا ليوحوا بذلك إلى الأجيال الصاعدة إنه شعر عتيق. لم يعد يصلح لعصر الفضاء!
على أن القافلة -مع ذلك- ما زالت تسير.
وما زال الشعر.. الذي هو الشعر.. هو الذي نصغي إليه فنطرب، أو نتلوه في صفحة من كتاب، فيبعث فينا أسمى العواطف ويهز نفوسنا!
* * *
ونسأل -بعد ذلك- ما دور الشعر في بلادنا؟
إنه من الواضح أن ليس من السهل أن نردد من الآن.. إن الشعر في بلادنا قد بلغ المدى في متابعة حركة الشعر في العالم العربي.
لكنه، لا يسوغ أيضاً أن يتجاهل متجاهل أنه برغم العوائق -وغالبها تاريخية- أن الشعر في هذه البلاد قد أخذ -منذ أن بدأت تستيقظ- يتابع الطريق..
فإذا كانت بعض البلاد الأخرى، قد سبقتنا إلى النهوض، وإذا كانت عوامل التطور والتقدم قد تهيأت لها أكثر.. وساعد ذلك على انطلاقة الشعر هناك، فإن الشعر في مسيرته هنا، لم يتخلف على أي حال، وإن كان يمكن ألاّ ننكر مع ذلك أنه لم يصل -في مجموعه- إلى المستوى المنشود!
على أن ذلك لا يمنعنا من القول إن نفراً قليلاً من شعرائنا اللامعين استطاعوا أن يصلوا إلى قريب من هذا المستوى، وأن يبدعوا في أكثر من ناحية.
ويهمني أن أركز هنا على ناحية من النواحي، وأعني بها ناحية الشعر الوطني، والعربي، والإسلامي وحديثي الآن -كما ترى- هو عن هذا الديوان.
ومن الحق أن أقول إن الشعر في هذا الديوان نجد فيه صورة ذات ملامح، ولها سمات عن الشعر في بلادنا. في هذا الديوان نلتقي مع شاعر يحرص على أن يثير من ذكرياتنا، وأن يستلهم من ماضينا ومن حاضرنا، ومن كل حدث مثير، كل ما يستحث العزائم ويدفع إلى النهوض!
إنها الحياة، لا معدى لشاعر اليوم من أن ينفعل بها، وأن يجعل من شعره صدى لكل ما يضطرب فيها من أحداث ومآس.. وما يدور فيها من صراع!
وشاعرنا -مع ذلك- كما هو ظاهر وواضح، لا تقل عنايته بالشكل -أعني بالصياغة والأسلوب- عن عنايته بالمضمون!
صياغة محكمة، وعبارة سهلة ومعنى رصين.
سمات وخصائص نلحظها في غالب القصائد في هذا الديوان.
وإن كانت السمات أو الخصائص الأكثر بروزاً هي ما ألمعت إليه من عناية شاعرنا عناية أكثر بالمضمون، ثم عنايته أكثر من أي شيء آخر بالقضايا القومية والإسلامية وما يجري في الحياة!
وهذه هي في اعتقادي ميزة الشعر!
أن يكون شعراً نابعاً من الحياة.. من صميم الحياة.. وأن يكون بالإضافة إلى ذلك. من أجل الحياة..
ميزته أن يعيش الشاعر "شاعراً" بأحاسيس المجتمع متجاوباً معه في كل قضاياه! ولن تعوزنا الشواهد في هذا الديوان.
إن عناوين بعض القصائد فيه تكفي للتدليل على مضمونها.. وأولى هذه القصائد -وغيرها على غرارها قصائد أخرى- قصيدته في "مصارحة البغاة المعتدين" أولئك الذين فرضتهم المطامع الاستعمارية فرضاً وبكل ما تضمره من عداء للأمة العربية.
ألقى الشاعر قصيدته هذه بين يدي المغفور له الملك عبد العزيز في عام 1948م عام نكبة فلسطين.
وكما سبق أن قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة فإن الشعر المتأجج في عام 1948 هو نفسه -في مضمونه الثائر على البغاة المعتدين- دائماً نتمثله ونستوحيه.
والشاعر هنا إنما يعبر لنا في هذه القصيدة عن قضية الشعب العربي في ذلك العام ضد العدوان الصهيوني الدنيء.. وهو يصور لنا في نفس الوقت طبيعة اليهود: تلك التي عرفها الناس عنهم في القديم والحديث، يقول شاعرنا:
لحا اللَّه قوماً، ناصبونا عداءهم
وكل امرئ منهم غوي وفاجر
لهم من صفات اللؤم كل دنيئة
فكل امرئ منهم زنيم وساخر
عهودهمو غدر العهود ودأبهم
نكوص على الأعقاب بالويل دابر
وما الحلم في معنى الهوان، وإنما
رويداً فما في العرب للعهد غادر
نعم هؤلاء هم اليهود قد تعروا من كل صفات الرجولة والشرف.. كل صفاتهم هي اللؤم وكل عهودهم: غدر للعهود..
في عام 1948 أيضاً عندما تم تقسيم فلسطين بقرار من هيئة الأمم المتحدة.. نظم الشاعر قصيدة ثائرة أخرى يندد فيها بالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، أو "مجلس اللا أمن" ويقول في هذه القصيدة:
من مبلغ وله أجر ومحمدة
عني إلى الكون صوت الثائر الصخب
يا مجلس الأمن، أين الأمن ننشده
وأنت بين لظى الأهوال في لهب؟
يا هيئة الأمم الكبرى، ووالهفي
عليك من هيئة في كف مغتصب!
ويا سراة الورى من كل محتلم
يرى الورى داره المشدودة الطنب
هنئتمو يا قضاة الظلم فالتمسوا
الحق في عرفه ضرب من اللعب!
هل استرحتم إلى التقسيم ويحكمو
وهل نجوتم به من وصمة الوصب
هنئتمو يا قضاة الظلم فالتمسوا
نتائج الظلم بين الويل والحرب
إلى أن يقول -وكأنما مر بخاطره هنا طيف صاحبه أبي الطيب المتنبي:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسهم
وغير مجلسهم في كل منسرب
سيعلم الكون في شتى مساربه
في مسبح الحوت، أو في مسرح الشهب
ليست فلسطين أرضاً نهب مقتسم
لكل ذي سطوة، أو كل ذي نشب
لكنها من قلوب العرب قاطبة
تعيش محمية في معقل أشب
عاشت فلسطين في عز، ممنعة
وعاش أعداؤها في الذل والعطب
نعم.. عاشت فلسطين، وستعيش فلسطين، وسيعود الحق إلى نصابه بإذن الله مهما طال الزمن واستمر الكفاح.
ستعيش فلسطين، ولن يهدأ العرب والمسلمون حتى تعود الأرض المقدسة لأصحابها الشرعيين.
لقد رأينا وشاهدنا في المحنة الأخيرة، كيف أعلنت الدنيا بأسرها سخطها المدمر العنيف ضد العدوان الصهيوني الغاشم ومن وقفوا وراءه من المستعمرين.
ولئن كانت القوى الجبارة قد اختارت لنفسها أن تتستر وراء عدوان صهيون وأن تغدق عليه من سلاحها الفتاك بلا حدود بل ومن خداعها الشرير ما قد أحال هذه الملحمة من نصر كبير كنا معه على موعد لا شك فيه، إلى هزيمة لم تكن منظورة فلم يكن ذلك، ولن يكون، سوى حافز جديد كأقوى ما تكون الحوافز في الحياة الأمم والشعوب... حافز جديد، لا يأس فيه أبداً ولا قنوط، لمتابعة النضال.
وما من ريب في أن قضية فلسطين، وهي القضية الأولى للعرب والمسلمين -دون جدال- قد كان لها في نفس الوقت أثر وأي أثر في بعث الفكرة الإسلامية من جديد في الشعوب الإسلامية، الفكرة الإسلامية في مدلولها الشامل العميق.
الفكرة الإسلامية الناصعة، في دعوتها الدائمة إلى تلاقي المسلمين، وإلى وحدة المسلمين.
ولم يكن عقد المؤتمر الإسلامي في "أم القرى" عام 1964 إلاّ ثمرة من ثمار هذا البعث في أوساط المسلمين.
في ذلك العام شهدت وفود المسلمين لأول مرة بعد فترة من الزمن، ذلك الحفل الكبير تقيمه رابطة العالم الإسلامي ويرأسه جلالة الملك، في البلد الأمين.
ذلك الحفل الكبير لثاني مؤتمر إسلامي ينعقد في هذه المملكة بعد المؤتمر الأول عام 1344هـ في هذا الحفل الإسلامي الكبير نستمع إلى الشاعر صاحب هذا الديوان يلقي قصيدته على العهد به في كل موقف مهيب.. وفيها يقول:
مرحباً بالوفود في كنف اللَّه
أهلت، وفي رحاب الخلود
عقد الحب بينها، فتواصى
كل قلب بكل عطف وجيد
ما رأى الكون وحدة تتجلى
مثلها اليوم أمة في صعيد
ولنمض مع شاعرنا أيضاً في قصيدة أخرى لا أحب أن أختم كلمتي هذه.. قبل أن أنقل هنا بعض أبياتها. إنها قصيدة "دعوة الحق" ألقاها في حفل افتتاح الإذاعة اللاسلكية للمملكة العربية السعودية في شهر ذي الحجة من عام 1369 هجرية، وقد رأس هذا الحفل سمو الأمير فيصل -جلالة الملك- نيابة عن جلالة والده الملك عبد العزيز.
في هذه القصيدة -كغيرها من قصائد الديوان- روعة تأخذ بمجامع النفوس حقاً يقول فيها:
حدثينا عن القرون الخوالي
ما الذي كان يا هضاب الجبال؟
حدثينا ففي الحديث حياة
هي للمبصرين أجدى مثال
ما الذي كان منذ فجر بعيد
أشرقت منه ساطعات اللآلي؟
يوم هبت من دعوة الحق تترى
صرخات تدك صم الجبال
يوم نادى "محمد" بالذي نا
دى إليه من رفعة وكمال!
إلى أن يقول:
ومضت دعوة الهدى في بلاغ
وتعالى بالحق صوت "بلال"!
رددي يا شعاب مكة طوعاً
صيحة الحق من وراء الجبال!
وابعثي يا شعاب مكة للآ
فاق بالنور مشرقاً بابتهال!
حدثينا أليس حقاً وصدقاً
ما روته لنا القرون الخوالي!
حدثينا، ورددي في اتئاد
ما سمعناه من فم الأجيال!
كيف أصغت للمجد من كل صوت
نفحات النفوس دون اختيال!
إلى أن يقول:
ذاك عهد مضى، وولى حميداً
هو فخر لنا، وفخر الأوالي
زعم الناس والمضلون كثر
أن حلم الماضي بعيد المنال!
ذاك عجز.. فما لحاضر قوم
أي فخر بغير ماضٍ مثال!
فانظر اليوم وارجع الطرف واسأل
أي حال تبدلت بعد حال؟
واسأل اللَّه في خشوع وذل
أن يقي المسلمين سوء المآل
أبيات فرائد.. لا أشك في أن القارئ يشاركني الرأي في سموها وإبداعها.
إنها تثير فينا كل معاني الطموح
بل تثير فينا العزم وتثير فينا الإقدام
تثير فينا: إرادة الحياة قوية عزيزة كريمة. وتهيب بنا أن نثق بأنفسنا وأن نؤمن بوجودنا وأن نستلهم من ماضينا المجيد كل الحوافز للعمل وللبناء.
نعم.. وهذا هو الشعر الذي نريد.
أن يكون -كما أسلفنا- نابعاً من حياتنا. ومن أجلها! أن يكون مهمازاً لنا وحافزاً!
أن يكون الصدى لكل ما تهجس به نفوسنا. ونتوق إليه من معالي الأمور.
لقد أصبحنا في زمن كله صراع وتنازع على البقاء. زمن لم يعد يحتمل حياة الضياع.
زمن لم يعد فيه أي مجال لشعر اللهو، أو شعر الترف، أو شعر الفراغ.
زمن.. لم يعد فيه أي مكان لضعيف. أو متواكل أو "متقوقع" سادر في الأحلام.
زمن.. لم يعد فيه المجتمع الحديث -كما يقول أحد الباحثين- يرضى للشعر أن يكون كالآنية المرصعة تسر الناظرين برونقها، وتثير إعجابهم بعجيب صنعها. فالعربي اليوم، يطمح إلى أن يجد في الأدب صدى وجدانه وحياته وواقعه. ويأمل أن يقع في الفن على ما يغذي روحه ويتجاوب مع أفكاره ومنازعه، ومع آلامه وآماله باعتباره إنساناً قبل كل شيء.. ومواطناً ينتسب إلى شعب هو منه كالخلية من الجسم، كما لم يعد بوسع الأدب العربي أن يستمر في عزلته المديدة عن المجتمع وما يضطرب فيه دون أن يساير الحياة، وأن يؤثر فيها ويتأثر بها.
وبعد فيا قارئي العزيز: أراني قد أطلت.
ترى أيشفع لي في ذلك إغراء الموضوع، وانفساح مجال القول فيه وتعدد نواحيه؟
مهما كان الأمر فإني لا أخفي ولا أستطيع أن أخفي أني لم أوف بعد في كلمتي هذه ما أردته لها من استقصاء وشمول:
وقد كنت أحرص ما أكون على أن أخص العديد من القصائد في هذا الديوان ببعض الحديث فما استطعت. ومن هذه القصائد -على سبيل المثال "الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة" وقصائده عن نسورنا الأبطال من جنود المظلات -وإنشاء الجامعة الأهلية، وتحيته للفتاة السعودية، وتحيته لأول صحيفة سعودية -وأنشودة الحج -والراحمون -وسائلوا نجداً -ونهضة الشرق -وجمال بلادي -ومجد الوطن -وثورة سياسية -ومهلاً أغادير -ومن وحي بغداد -ووقفة على أمجاد القيروان -والشعر في حقيقته -وملحمة الحرب الكبرى وغيرها.
فإن يكن فاتني ذلك، لأن الموضوع أوسع من أن تستوعبه مقالة.. فمعذرة لك وللأخ الصديق الشاعر صاحب "وحي الفؤاد" تحيتي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :621  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.