مع القلائد |
ما أروع الشعر يجيئنا تعبيراً صادقاً عن الشاعر في بيان ناصع، وفي أسلوب مشرق مبين! |
أو بعبارة أخرى: "ما أروع الشعر -كما يقول صديقنا صاحب المنهل- ينبع من عاطفة شاعر متمكّن في اللغة، جامع لأعنة الأسلوب العربي الرائع مع سعة أفق وذهن، وإخلاص مبدأ، وصدق عاطفة، وصحة بيان". |
نعم لأنه دون هذه الميزات كلها لا يمكن لأي كلام يسميه صاحبه شعراً أن يهزنا عند سماعه -على رأي الزهاوي- أو يترك في نفوسنا أي أثر، أو أي انفعال! |
والشعر قبل كل شيء موهبة، تولد مع الشاعر دون أن يكون له في وجودها أي فضل، اللَّهم إلاّ فضل التفوق والامتياز فيما بعد عن طريق الدرس، وعن طريق التأمل والمران! |
الدرس والتأمل والمران، ثم شيء آخر أيضاً ما منه بد، وأعني به حرص الشاعر دائماً أن يكون صادقاً فيما يقوله للناس. |
فمتى توفرت كل هذه الصفات لشاعر فما من شك في أنها ستجعل منه شاعراً ملحوظاً بحق، يحترمه القارئ ويستأهل التقدير! |
ولئن كان الأستاذ الأنصاري قد قالها في المنهل في صدق ودون محاباة أن ما عناه من هذه الصفات قد احتشد كله في ديوان "القلائد" فإني أقولها لا مزيد عليها إن شاعرنا السنوسي قد أبدع في الكثير من هذه القلائد إبداعاً يستحق عليه التهنئة والإعجاب! |
ولست أريد في هذه الكلمة أن أكرر ما سبق أن كتبه الكاتبون عن قلائد السنوسي، غير أنه لا بد من أن أشير هنا إلى أن ما ظفر به ديوان القلائد من إجماع الناقدين على التنويه بشأنه تنويهاً لم يحظ به غيره -فيما يبدو- هذا الإجماع أعتقد أنه وحده الدليل على أن شاعرنا محمد بن علي السنوسي قد اجتاز تجربة إخراج باكورة دواوينه للناس في نجاح بارع موفق مرموق! |
وربما يسأل سائل: ما سر هذه الحظوة، وهذا الإقبال؟ وأنا لا أتردد في الإجابة هنا: إنه الصدق: صدق الشاعر في شعوره أولاً، ثم صدقه في تعبيره عن هذا الشعور! |
ولعلّ أول سمة من سمات هذا الديوان إنك لا ترى في أية قصيدة من قصائده تكلفاً، أو تبدلاً، بل إنك لتجد نفسك بإزاء شاعر متمكن جامع لأعنة البيان، متحرر ومحافظ في آن.. متحرر في أفكاره، محافظ في أسلوبه العربي الأصيل! |
ولقد ضم ديوان "القلائد" قصائد في المديح، إلى قصائد في الرثاء، ولكنك تقرأ هذه القصائد كلها فلا ترى في واحدة منها ما نعهده من مبالغات الشعراء في معظم ما ينظمونه في المديح والرثاء! |
بل إنك على العكس تشعر بأن السنوسي سواء في مديحه أو رثائه إنما يعبر عن شعوره في صدق وإخلاص! |
ومن أروع ما تقرأه في ديوان القلائد قصائد الشاعر حول القضايا العربية وما تعانيه هذه القضايا من تحكم الاستعمار، وإرهاب الاستعمار! |
فقصائده "أم القرى" و "حطم المارد القيود" و "العالم العربي" و "لمحات من التاريخ" و "تأميم وتصميم" و "بطولة الجزائر" و "اليقظة العربية" و "جنكيزخان" كلها تفيض حماسة ووعياً.. وإخلاصاً في متابعة قضايا العروبة، وقضايا الحرية في نضالها المستميت مع أعدائها المستعمرين! |
وهو في قصيدته "لمحات من التاريخ" يعود بنا إلى الماضي البعيد، للأمة العربية، مشيداً بما تميزت به بين الأمم من أخلاق الوفاء والبر بالعهد ولا ينسى أن ينوّه ببعض المواقف المشهورة في التاريخ العربي القديم مما يثبت بعض ما اتسمت به سجايا العرب من حب للخير، وميل إلى نصرة الحق أينما كان كحلف الفضول مثلاً.. ثم يهيب بأبناء قومه قائلاً: |
بني العروبة إن الحادثات وإن |
جلَّت هي الريح نستشري بها لهبا |
و "القوة" اللغة الفصحى، وعصركمو |
أصم لا يسمع الشعَّار والخطبا |
هزوا الجزيرة من أركانها حرداً |
وأشعلوا الشرق من أقطاره غضبا |
ذودوا عن الحق، إيماناً بقوته |
من غالب الحق عدواناً به غلبا |
|
إلى أن يقول: |
إن الحياة جهاد والجدير بها |
من غالب العاصفات الهوج والنوبا |
وفي الخضم لمن شدت سواعده |
سبح يهون به التيار مصطخبا |
واليأس أقتل داء دب في أمم |
تعاورتها الليالي فانثنت نصبا |
|
وفي قصيدة "تأميم وتصميم" وكان قد نظمها أثناء العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1965م يندد الشاعر بالاستعمار والمستعمرين تنديد رجل يؤمن بعروبته وإسلامه إيماناً واعياً وعميقاً، ويرى في هذا العدوان الغاشم حرباً صليبيةً أخرى، أما عن إسرائيل فلم تكن سوى ذريعة لمن شنوا تلك الحرب الصليبية الأخرى! |
ولم تك إسرائيل إلاّ ذريعةً |
قد اتخذوا منها لأهدافهم جسرا! |
|
أما قصيدته "بطولة الجزائر" فالحق أنها من أقوى ما نظمه شاعر عربي في هذا المجال. |
فلنستمع إليه يقول فيها: |
أهابت فغدا هادم وأهاب |
ونادت فلباها شباً وشباب |
تفجر واديها وفاضت جبالها |
ودمدم بالموت الزؤام سحاب |
وصاغت من النير الفرنسي صارماً |
عنت منه للمستعمرين رقاب |
ودارت على أرض الجزائر ثورة |
يشيب عليها الدهر وهي كعاب |
كتائب فيها "خالد" وأسامة |
و "سعد" وفيها "خولة" و "رباب" |
إرادة شعب كبل القيد ساقه |
فصمم لا يثني قواه عقاب |
وكانت إرادات الشعوب ولم تزل |
أحد وأمضى، والحياة غلاب |
أيستعمر الشرقي والشرق كله |
عرين يدوِّي بالأسود وغاب |
لقد مات عصر الذل والخوف وانقضى |
وهيل على ذاك الزمان تراب |
هنا جبهة التحرير والحق والهدى |
تخر النواصي عندها وتصاب |
هنا العصبة الأحرار أما سماؤهم |
فرعد وأما بحرهم فعباب |
|
إلى آخر هذه القصيدة الرائعة. وقد بلغت أبياتها سبعة وخمسين. |
ولنستمع إليه مرة أخرى في قصيدته "اليقظة العربية" صارخاً في وجه دعاة السلام أو من يطلقون على أنفسهم وصف "دعاة السلام" يقول السنوسي: |
يا دعاة السلام تلك فرنسا |
تتحدى مشاعر البشرية! |
|
وأي تحدٍ أشد من تحدي هذه الدولة في حربها الظالمة ضد الجزائريين الأحرار، فيما يزيد عن ست سنوات إلى جانب دعواها المزعومة الباطلة: "الجزائر قطعة من فرنسا". |
تحرق الأرض باللهيب وتشـ |
ـويها جهاراً، وتصلب الحريه! |
وهي في ظلم تروح وتغدو |
أفلا تزجون تلك الشقيه! |
أتقيمون مأتماً يملأ الكو |
ن ضجيجاً لكلبة روسيه! |
يا لها دعوة يصلي لها الذئـ |
ب إماماً بين الصفوف التقيه! |
أين نزع السلاح يا أيها القو |
م؟ وأين المبادئ العالميه؟ |
أين حرية المصير وإقرا |
ر المواثيق والعهود الجليه؟ |
أفما آن للحقيقة أن تحـ |
ـيا حياة لا تعرف "البندقيه"؟ |
أفما آن للسلام المفدى |
أن يسود الورى ويلقي عصيه؟ |
يا إلهي ماذا؟ أينتحر المسـ |
ـلم على مذبح من المدنيه |
الأساطيل والقنابل والألـ |
ـغام والطائرات والمدفعيه! |
كل هذا على الجزائر ينصبْ |
وينقض بكرة وعشيه! |
ودعاة السلام يلهون بالأ |
وراق فوق الموائد الدائريه! |
|
وبعد فلأكتف بهذا الذي أوردته من شعر "القلائد" كأنموذج يدل على قيمته ونفاسته لا من ناحيته الفنية فحسب.. وإنما من ناحية محتواه الملتزم أيضاً. |
* * * |
|