محمَّد رضَا الشبيبي |
من المعروف أن النصف الأول من هذا القرن العشرين يعتبر عصر الازدهار للشعر العربي الحديث! |
وكانت اليقظة الفكرية في العالم العربي -أو في بعض أنحاء هذا العالم العربي على الأصح- من أهم العوامل التي سبقت هذا الازدهار. |
لقد كان بعثاً جديداً حقاً.. لاحت أضواؤه منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي وكان البارودي في مصر، وروّاد آخرون قلائل في كلِّ من الشام والعراق حاملي راية هذا البعث الجديد. |
وليس من المغالاة أن نقول إنها كانت أشبه بالطفرة وثبة أولئك الروّاد الأولين بالشعر العربي.. فإنه من الواضح أنه إلى ما قبل عهدهم مباشرة كان الشعر بل الأدب العربي عامة، بل الحياة العربية والإسلامية من جميع نواحيها قد وصلت إلى نهاية الحضيض. |
لقد بدأ العرب منذ أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين يشعرون حقاً بأنهم قد أقبلوا على عهد ناهض جديد، ومن ناحية الأدب والشعر خاصة بدأوا لأول مرة يقرأون شعراً ناضجاً قوياً يتميز بإشراق أسلوبه وجدِّية معانيه! |
ومنذ ذلك العهد عرفوا لأول مرة إبراهيم اليازجي ناظم أول قصيدة سياسية في الأدب العربي الحديث.. وما هو إلاّ أن ظهرت بعده في الميدان أسماء أعلام النهضة الشعرية الجديدة: شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران ومعروف الرصافي ومحمد رضا الشبيبي وبشارة الخوري وفؤاد الخطيب وغير هؤلاء. |
وفي الحجاز كان شاعر آخر يتابع هذه الحركة، ويساير هذا الوثوب ولعلّك ستقول معي دون أي تردد إنه شاعرنا: شاعر المدينة المنورة المعروف إبراهيم الأسكوبي. |
لقد أثبت شاعرنا الأسكوبي أنه خلافاً لمعاصريه من الشعراء الحجازيين شاعر متوثب، شاعر يعيش مع الأحداث، ولعلّ قصيدته السياسية وهي التي نظمها في أواخر عهد الدولة العثمانية، ناصحاً فيها تلك الدولة، والتي قام لها الحكّام العثمانيون وقعدوا يوم أن نشرتها إحدى صحف مصر الكبرى وأظنها "المؤيد" لعلّ قصيدته هذه من أقرب الأدلة على هذا الذي نقول. |
وفي الواقع كانت الأمور في أواخر العصر العثماني مجالاً خصباً لشعر الشعراء وكان الوعي القومي السياسي قد أخذ في الظهور شيئاً فشيئاً إلى ما قبيل الحرب العالمية الأولى. |
ولعلّ الرصافي والشبيبي والشيخ فؤاد الخطيب كانوا في طليعة الشعراء العرب ممن تصدوا لمناوأة أوضاع ذلك العصر التركي ونادوا بالحرية والاستقلال! |
وكان لشاعر العراق محمد رضا الشبيبي -وهو موضوع الحديث هنا- مواقف في هذا المجال تستحق الإشادة والتنويه. |
وللشبيبي في شعره ميزة خاصة بين باقي شعراء العربية من أنداده ومعاصريه تتركز في أسلوبه المشرق الرصين، أسلوبه الذي يذكر بشعر العصر العباسي الزاهر كما وصفه بذلك "أنطون الجميَّل" في مجلته الزهور يوم كانت تصدر في مصر في تلك الأيام وسنجد مصداق هذا الوصف في سائر شعر الشبيبي. |
ولا نذهب بعيداً فهذه إحدى قصائده بعنوان "في سبيل الشرق" وكانت نشرتها "الزهور" في عام 1331هـ -1912م وكما تقول الكلمة المصدرة بها هذه القصيدة في ديوان الشبيبي: "لقد توقع الشاعر في هذه القصيدة تمزق شمل الدولة العثمانية وانسلاخ القطار العربية عنها وذلك قبل الحرب العامة بعدة سنوات". |
يقول الشبيبي في هذه القصيدة: |
لم يبق لي إلاّ الشباب وإنه |
ديباجة ضمن الأسى إخلاقها |
نزلت بحيرتي الهموم فلم يطق |
حتى نزلن بكاهلي فأطاقها |
* * * |
وكرهتها.. ومن العجائب إنني |
لشديد ألفتها كرهت فراقها! |
أشتاق اطَّرح الهموم ويقتضي |
ظمأي إلى الآلام أن أشتاقها! |
* * * |
ولربما عرف المحبون التي |
تجني الشقاء فأصبحوا عشاقها! |
شأن الفراشة واللهيب فإنها |
تغشاه وهو مُسَبِّبٌ إحراقها! |
يشكو الصبابة كل يوم مُدَّع |
وأحقنا دعوى بها من ذاقها! |
* * * |
مرت بنا الأمم الطليقة وانثنت |
أخرى تعالج أسرها ووثاقها! |
هذي الجياد فمن تعاطى شأوها |
يا شرق فيك؟ ومن أراد سباقها؟ |
يا مشرق الشمس المنيرة إنها |
-وأبيك- شمسك فارقت إشراقها! |
|
إلى أن يقول وهو هنا يشير إلى هدفه في وضوح: |
وإذا أراد اللَّه رقدة أمةٍ |
-حتى تضيع- أضاعها أخلاقها |
ملك الضلال زمامها فإذا حبت |
أو أمسكت سبب المعالي عاقها |
رأت العدالة لا تروق لعينها |
فتلمسَت في الليل "ظلماً" راقها |
عجلت على البلوى فساقت نفسها |
للموت.. أو عجل البلاء فساقها |
ما عذر طائفة أضاعت "مصرها" |
أن لا تُضيع "شآمها" و "عراقها" |
|
الخ.. الخ.. |
ولعلّك تلحظ في هذه القصيدة، وهي كما رأيت لم يرد الشاعر منها سوى أن ينقد تصرفات الأتراك.. لعلّك تلحظ أن الشاعر يبدو في شعره متحفظاً حتى أنه لم يذكر لفظة عرب أو لفظة ترك أو أي اسم من أسماء من يعنيهم، أو أية عبارة من العبارات المثيرة، وتلك إحدى سمات الشبيبي في شعره السياسي والوطني وبالأخص ما كان نظمه في عهد العثمانيين. |
وفي قصيدته "الحب الطاهر" ترى مثالاً آخر لهذا الذي نقوله عن شعر الشبيبي، وهذه القصيدة هي -رغم عنوانها البعيد عن مادة ساس ويسوس- وإنما يشير الشاعر فيها إلى ما وصلت إليه البلاد أواخر حكم الأتراك العثمانيين وذلك سنة 1329هـ-1911م من ناحيتي السياسة وتصريف الشؤون العامة كما هو نص الكلمة المصدرة بها هذه القصيدة في ديوانه أيضاً.. استمع إليه يقول: |
أما لأسير في هواك جراحُ |
وهل لتباريح الفؤاد براحُ |
|
ثم يستطرد إلى أن يقول: |
خليلي ما أحلى الغرام سجية |
إذا كرمته عفة وصلاحُ |
وما أخطر العشق الذي ليس دونه |
على عاشق يأتي الهنات جناحُ |
* * * |
يقولون: إتيان الكبائر جائزٌ |
وفعل الخطايا المنكرات مباحُ |
أفي هذه الأخلاق للجنس نهضةٌ |
وللبشر الآتين منه فلاحُ |
* * * |
يريدون للدنيا ضماداً وإنهم |
بجثمان هذا الاجتماع جراح |
ويعتبرون الناس مرضى كأنهم |
-وهم كيفوا داء- النفوس صحاح |
* * * |
|
إنه نقد لاذع في الصميم لا يمكن أن يأتي شاعر بأشد منه تعنيفاً. ولكنه بطريقة تشبه الإيماء. ثم تمر الأحداث سراعاً. |
ويمضي العهد التركي بخيره وشره.. ولكن؟ |
ولكن سرعان ما رأى العرب أنفسهم، وقد تخلصوا من عهد الأتراك ليقعوا في شرك آخر جديد.. شرك آخر ما من شك في أنه أكثر سوءاً.. نستغفر الله فليس هنا للمقارنة مجال! |
رأى العرب أنفسهم وجهاً لوجه في أعقاب الحرب العالمية الأولى أمام من كانوا لهم بالأمس أصدقاء. رأوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام هؤلاء الأصدقاء، وقد لبسوا لهم جلد النمر.. رأوا أنفسهم وقد كشَّر لهم عن نابه استعمار إنجليزي، وآخر فرنسي.. يا لها من خيبة أمل! ويا له من إخفاق أليم! |
خيبة أمل ما كان أشدها وأقساها، عندما أعلن المنتصرون في الحرب لمن وقفوا إلى جانبهم في الحرب بأنه لا وعود ولا عهود ولا مواثيق.. وإنما هي المطامع.. وقد شاءت مطامع المستعمرين حينذاك غير ما شاءته أمة العرب عندما حالفت أولئك المنتصرين. |
لقد كان موقفاً مخزياً، وما أكثر ما سجله التاريخ، ولا يزال يسجله للآن لأولئك المنتصرين من أمثال ذلك الموقف المخزي! |
بطبيعة الحال لم يكن في وسع الشعر إلاّ أن ينتقص، وإلاّ أن يثور! |
وإذن فليعلنها شعراء ذلك الجيل حرباً ضروساً على الوضع الجديد. ليقاوموا الاستعمار فليس من ذلك بد. أو كما شاء المستعمرون أن يطلقوا عليه في ذلك الوقت "الوصاية" و "الانتداب". |
وكالعهد بالسيد الشبيبي عندما كان يقارع الحكم التركي القديم.. هب من جديد يقارع عهد الوصاية والانتداب. |
ولكنه في هذه المرة، يبدو شيئاً آخر.. شيئاً آخر غير ما عهدناه من قبل. |
إنه يختلف في أسلوبه هنا عن أسلوبه هناك. |
إنه هنا أكثر تحدياً وعنفاً، فلا هوادة، ولا مداورة، ولا تلميح ولا إيماء! |
وليت شعري ما الذي يدعو شاعراً عربياً إلى أن يداور ويجنح إلى ما كان يجنح إليه بالأمس القريب من حرص شديد على روابط وصلات مهما قيل عنها، فهي على كل حال روابط وصلات لها سند من عقيدة واحدة كانت تجمع بين الحاكم والمحكوم! |
والشبيبي وكل شعراء العربية إذ ذاك إنما كانوا يؤمنون بأنهم بالنسبة لأصحاب الوصاية والانتداب إنما يقاومون شيئاً اسمه الاستعمار مهما حاول أصحابه أن يجعلوه مقنعاً أو من وراء حجاب! |
من أشهر ما قيل من الشعر في تلك الفترة. قصيدة الشبيبي الثائرة "الشرق الناهض" التي يقول فيها: |
نفد الصبر فهبت جزعا |
وأبى السيف لها أن تضرعا |
ودعا للذود عن أحسابها |
شرفُ العرق فلبَّت إذ دعا |
أمة خرساء كم واشٍ وشى |
بنواديها وكم ساعٍ سعى |
أزمعت أن لا يراها "حملا" |
غاصب صال عليها "سَبُعَا" |
|
ثم يقول: |
جاهدي يا أمم الشرق الألى |
قتلونا، جاهديهم أجمعا! |
واذكري ما فعل الغرب بمن |
هذَّبوه، واصنعي ما صنعا |
|
ثم يقول: |
وثب "الريف" من الغرب بهم |
فأثار الشرق والغرب معاً! |
وتعالى في العراقين صدى |
من بني الأطرش حتى أسمعا |
|
وفي هذين البيتين الأخيرين يشير الشاعر الكبير إلى ثورة الريف التي قام بها الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب على الفرنسيين.. وإلى ثورة السوريين الكبرى على الفرنسيين أيضاً بزعامة سلطان باشا الأطرش في عام 1926م. |
وللشاعر محمد رضا الشبيبي في أكثر الأغراض الشعرية جولات أخرى.. فلم يكن شعره الوطني أو القومي مجاله الوحيد! |
وإنما في غيره من الأغراض أيضاً تراه صوالاً جوالاً وشاعراً من الطراز الأول! فليكن مسك ختام هذا الحديث أبياته هذه الذائعة وهي من قصيدة نظمها في أواخر إقامته في دمشق سنة 1339هـ-1920م وهي تعبر خير تعبير عن عاطفته العربية يقول: |
ببغداد أشتاق الشآم وها أنا |
إلى الكرخ من بغداد جم التشوقِ |
فما أنا في أرض الشآم بمشئم |
وما أنا في أرض العراق بمعرقِ |
هما وطن فرد وإن فرقوهما |
رمى الله بالتشتيت شمل المفرق! |
* * * |
|
|