شاعر الإسلام |
في كل عام تحتفل باكستان بذكرى شاعرها الكبير، وشاعر الإسلام دكتور محمد إقبال. |
والواقع أن الدكتور محمد إقبال، حقيق بأن يحتفل بذكره كل المسلمين، وينوهوا به ويرددوا سيرته في كل مناسبة، ذلك لأن إقبالاً لم يكن شاعراً عادياً، أو شاعراً محدود الأفق، أو شاعراً من شعراء الوطنية الإقليمية الضيقة، أو شاعراً من شعراء البرج العاجي من أصحاب نظرية الفن للفن.. لم يكن إقبال من هذا الطراز من الشعراء البوهيميين.. وإنما كان شاعراً، أبعد أفقاً من ذلك، كان شاعراً إسلامياً مؤمناً، وملتزماً، ومن أجل ذلك كان ظهوره في هذه الحقبة من تاريخ المسلمين حدثاً خطيراً، واستحق بشعره الذي طالما تغنى فيه بأمجاد الإسلام، وأشاد فيه بعظمة المسلمين -مما لم يعهد من شاعر آخر سواه- أن يلقَّب بشاعر الإسلام! |
ولم يكن شعر إقبال في تغنيه بأمجاد الإسلام وعظمة المسلمين من ذلك النوع من الشعر التقليدي.. ذلك النوع الذي قلما يخلو منه ديوان شاعر من شعراء المسلمين في العهود الأخيرة، أو قلما تخلو منه صحيفة أو مجلة من صحف ومجلات البلدان الإسلامية، كلا.. وإنما كان شعر إقبال من طراز آخر متميز، من أبرز سماته الصدق، كان إقبال في جميع شعره يصدر عن عاطفة قوية لا عن تقليد، وعن إيمان عميق وليس عن رياء، إن حب إقبال للإسلام أو المسلمين كان حباً صحيحاً، بل كان عشقاً وهياماً، وهذا هو سر عظمة إقبال! |
أما السر في هذه العظمة فهو أن إقبالاً كان -كما قلنا- صادقاً في هذا الشعر، وكان مخلصاً وكان مؤمناً بما يقول.. والميزة الأولى لكل شعر عظيم منذ أن عرف الناس الشعر هي صدق العاطفة، وصدق التعبير، وإخلاص الشاعر وإيمانه بما يقول. |
وكنتيجة لحب إقبال، وهيامه بالإسلام، وصدق عاطفته في هذا الحب، حب للأمة العربية، أمة الإسلام، فما أكثر ما أشاد بها في شعره، وما أكثر ما عبر في هذا الشعر عن إشفاقه مما آلت إليه في حاضرها المؤلم المرير.. فاسمعه يخاطب هذه الأمة في إحدى قصائده الشهيرة فيقول: |
أمة الصحراء يا شعب الخلود! |
من سواكم حلَّ أغلال الورى؟ |
أيُّ داعٍ قبلكم في ذا الوجود |
صاح: لا كسرى هنا.. لا قيصرا؟ |
من سواكم في حديث أو قديم |
أطلع القرآن صبحاً للرشاد؟ |
هاتفاً في مسمع الكون العظيم |
ليس غير اللَّه رباً للعباد؟ |
|
وفي هذه القصيدة، لا ينسى إقبال أن يشيد بالمسلمين وبدولتهم، وابتكارهم، وبمظهر عزتهم وملكهم الحصين حين يقول: |
لا تقل: أين ابتكار المسلمين |
وسل الحمراء.. واشهد حسن تاج |
دولة سار ملوك العالمين |
نحوها طوعاً يؤدون الخراج! |
دولة تقرأ في آياتها |
مظهر العزة والملك الحصين |
|
ثم يعود إلى خطابه للأمة العربية: |
وي كأن لم تشرقوا في الكائنات |
بهُدى الإيمان والمنح الرشيد |
ونسيتم في ظلام الحادثات |
قيمة الصحراء في العيش الرغيد |
كل شعب قام يبني نهضةً |
وأرى بنيانكم منهدما! |
في قديم الدهر كنتم أمةً |
لهف نفسي كيف صرتم أُمما؟! |
كل من أهمل ذاتيته |
فهو أولى الناس طرًّا بالفنا |
لن يرى في الدهر قوميته |
كل من قلد عيش الغربا! |
فكروا في عصركم واستبقوا |
طالما كنتم جمالاً للعُصُر! |
واملأوا الصحراء عزماً واخلقوا |
مرة أخرى بها روح عُمر! |
|
وكما يوجه إقبال خطابه إلى الأمة العربية في هذه الأبيات الرائعة نراه في مقطوعة أخرى يخاطب الرجل المسلم أينما كان.. مُنقَّراً على هذا الوتر الحساس، فيقول: |
إن هذا العصر ليل فأَنر |
أيها المسلم ليل الحائرين! |
وسيفنى الحق في لج الهوى |
لا يرى غيرك ربَّان السفين! |
ليس في الوقت فراغ فاعتزم |
واملأ الدنيا بأعمال شريفه! |
أنت نور الأرض تهدي أهلها |
لن يُرى غيرك في الأرض خليفه! |
|
ويقول: |
قم وانشر التوحيد في الدُّ |
نيا، ووحد الأمم! |
فأنت خير من دعا |
وأنت خير من حكم |
|
إن شعر إقبال كله يفيض بمثل هذه الحيوية، وبمثل هذه الروح الصافية، وهذا الإيمان المشرق، وهذا الحماس المتدفق، وهذا الحب الخالص لكل ما يمت إلى الإسلام بنسب.. لقد تغلغلت عقيدة الإسلام في نفس إقبال، ولذلك لا تجد في جميع آياته الشعرية الرائعة إلاّ كل ما يعبر عن معنى من معانيه، أو اتجاه من اتجاهاته، أو فكر من أفكاره.. انظر إليه كيف يعبر عن فكرة الحياة بعد الموت ويشير إليها في هذه الأبيات: |
حينما يسفر الصباح نديًّا |
ناصعاً في مواكب الإشراقِ |
يغسل النور في المشارق أد |
ران الدياجي من حلة الآفاقِ |
ويطير الكرى وينتبه العُشـ |
ـبُ وتصحو عزائم الكائنات |
ويهب الأحياء في البر والبحـ |
ـر ليستقبلوا عروس الحياة |
وإذا كان للخلائق نا |
موس يرينا الصباح بعد المساء |
فكذا تذهب الحياة ولكن |
بعد ليل الحمام صبح البقاء |
|
وقد ولد إقبال في وطنه الهند سنة 1873م وتوفي سنة 1938م ودرس أولاً في الهند، ثم في لندن ونال درجة دكتور في الفلسفة من جامعة ميونخ بألمانيا، واشتغل في أوائل حياته بالمحاماة، ومن هنا نعرف مدى مكانته من الناحيتين العلمية والثقافية، ثم مدى ما أفادته شاعريته الخصبة من هذه الثقافة الواسعة ذات الجوانب المتعددة، إلى جانب سياحاته المتكررة في أوروبا، واختلاطه بكبار أدباء وعلماء وفلاسفة الغرب مما كان له ولا شك أثره في حياته وتفكيره وشعره، ولعلّ من أهم ما يلفت النظر في هذه الناحية، أن إقبالاً رغم تضلعه في علم الغرب وأدب الغرب، وفلسفة الغرب، ورغم أنه عاش زمناً ليس بالقصير في كبريات العواصم الغربية، فقد عاد إلى الشرق بعد ذلك وهو أقوى إيماناً، وأقوى عقيدة، وأقوى إسلاماً.. وكان منه أخيراً ذلك الرائد المصلح المفكر، بل ذلك الشاعر الفذ: شاعر الإسلام! |
وقد ترك إقبال أحد عشر ديواناً كان أول ما نشره منها "أسرار خودي" سنة 1915م باللغة الفارسية وآخرها "أرمغان حجاز" باللغتين الفارسية والأردية. |
ومن دواوينه التي ترجمت إلى اللغة العربية "بيام مشرق" وقد صدر بالفارسية سنة 1923م ونقله شعراً إلى اللغة العربية المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام. |
وبيام مشرق أو رسالة المشرق يعتبر من أهم دواوين إقبال، ويقول عنه الوزير الباكستاني "جودهري نذير أحمد" في كلمته التي صدر بها الترجمة العربية: "إن بيام مشرق" خير مثال لفن إقبال وفكره.. وهو يعد في الجملة درة إنتاجه، وقد بلغ فيه إقبال مستوىً من الإبداع الفني لا نظير له في أية ناحية أخرى. |
وديوان "بيام مشرق" كتبه إقبال -كما يقول هو نفسه- جواباً لشاعر الألمان الأكبر "جوتيه" في ديوانه الشرقي. |
كما يصفه جودهري نذير أيضاً بأنه رسالة أمل، رسالة إلى عالم اليوم من قبل طبيب يعرف علله.. إن بصيرة إقبال في هذا الظلام الحالك، والضباب الذي يكتنف العالم الإسلامي قد رأت الفجر الموشك أن يبزغ في الأفق.. إن هذه البصيرة والإيمان اللذين يفيض بهما بيام مشرق لهما الميراث الذي خلفه لنا إقبال. |
وبعد فإن في شعر إقبال بصورة عامة سمات من الرمزية ومن التصوف.. غير أن رمزية إقبال تختلف عن غيرها.. كما أن تصوفه يختلف أيضاً، رمزية إقبال ليست رمزية الغموض أعني ليست من النوع الشائع المعروف.. كما أن تصوفه إنما هو تصوف الرجل المفكر المستنير نعم لم يكن تصوف إقبال من ذلك النوع الذي عرفه تاريخ المسلمين في بعض عصورهم المتأخرة، وكان من أكبر أسباب ضعفهم وتخلفهم.. إن شعر إقبال كله دعوة إلى الحياة وإلى العمل، دعوة إلى الإقدام وإلى التحرر من الكسل والتواكل والخمول، من الرق والعبودية.. ودعوة إلى المحافظة على الذات والتي هي روح فلسفة إقبال! |
امض في الدنيا كنهر في جبال |
واعرف الأغوار فيها والنجودا |
أو مثال السيل.. فاجرف كل شيء |
لا تباليه هبوطاً أو صعوداً! |
|
وقد كان من ثمار تفكير إقبال -كما هو معروف ومشهور- إنشاء دولة إسلامية كبرى في قسم واسع من تلك البلاد التي كان يطلق عليها الهند في عهد الاستعمار، ولم تكن سوى "باكستان" تلك الدولة الإسلامية الكبرى! |
هذا هو محمد إقبال شاعر الإسلام في هذا العصر.. وأكبر الظن أنه سوف تمر عشرات السنين قبل أن تهيئ الأقدار للشعوب الإسلامية شاعراً عبقرياً آخر من هذا الطراز الرفيع. |
|