في المقالة الأدبيَّة |
ما هي المقالة الأدبية أولاً؟ |
يبدو لنا أنه لا مناص في هذا المجال، من أن نعود أولاً إلى ما كتبه في هذا الصدد الكتّاب الغربيون. |
والسبب: أن المقالة الأدبية، أو المقالة بصورة عامة، في إطارها الحديث تعتبر -فيما يشبه الإجماع- غربية المولد.. منذ أن وضع نواتها في القرن السادس عشر: الكاتب "مونتيني". |
وسواء صح هذا، أو لم يصح.. فإن هذا هو الرأي الأكثر ذيوعاً في الأوساط الأدبية! |
ولقد كتب الكثيرون من الكتّاب، ومن مؤرخي الأدب، حول المقالة الأدبية. |
وبرغم كثرة ما كتب حولها.. فآراء الكاتبين تكاد تكون متقاربة في وصفها وتعريفها. |
فأول ما يصفونها به، إنها لا تخرج عن كونها تعبيراً عن إحساس الكاتب، وعن آرائه الخاصة في الحياة. |
دائرة المعارف البريطانية تذكر عن المقالة الأدبية أنها قطعة مؤلفة، متوسطة الطول. وتكون عادة منثورة في أسلوب يمتاز بالسهولة والاستطراد، وتعالج موضوعاً من الموضوعات، ولكنها تعالجه -على وجه الخصوص- من ناحية تأثر الكاتب به
(1)
. |
ويصفها أحدهم -وهو الكاتب آرثر بنسن- بأنها تعبير عن إحساس شخصي، أو أثر في النفس، أحدثه شيء غريب، أو جميل، أو مثير للاهتمام، أو شائق، أو يبعث الفكاهة والتسلية.. ثم يسترسل في كلامه، فيقول: وهكذا تكون المقالة قريبة الصلة بالقصيدة من الشعر الغنائي! ولكنها تمتاز إلى جانب ذلك بما يتيحه النثر من الحرية، وباتساع الأفق وبمقدرتها على أن تتناول نواحي يتحاماها الشعر.. ثم يستطرد "بنسن" فيصف لنا كاتب المقالة بأنه شخص يعبر عن الحياة، وينقدها بأسلوبه الخاص.. إنه لا ينظر إلى الحياة نظرة المؤرخ.. أو الفيلسوف.. أو الشاعر.. أو القصاص.. ولكن في فنه شيئاً من هذا كله.. إنه ليس يعنيه أن يكشف نظريات جديدة، أو يوجد الصلة بين أجزائها المختلفة، إن طريقته في العمل أدنى إلى ما يسمى الأسلوب التحليلي: يراقب.. ويسجل.. ويفسر الأشياء كما تبدو له.. ثم يدع خياله يمرح في جمالها ومغزاها، والغاية في هذا كله أنه يحس إحساساً عميقاً بصفات الأشياء.. وبسحرها، ويريد أن يلقي عليها كلها نوراً واضحاً رقيقاً، لعلّه يستطيع بذلك أن يزيد الناس حباً في الحياة، وأن يعدهم لما اشتملت عليه من المفاجآت المفرحة والمحزنة
(2)
. |
على هذا النحو نجد المؤرخ "هـ.ب تشارلتن" أستاذ الأدب في جامعة مانشستر يقول عن المقالة الأدبية: إنها في صميمها قصيدة وجدانية. سيقت نثراً.. لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم! ثم يضيف: إن الأسلوب الجيد في المقالة يجب أن يكون "ذاتياً" لا ينبني على أساس عقلي، ولا يبسط حقائق موضوعية
(3)
! |
تلك هي -في إجمال- آراء الغربيين في تعريفهم للمقالة الأدبية. |
وهذه الآراء -أو الأوصاف- نفسها نصادفها عندما نستعرض ما كتبه عنها بعض المعاصرين من الكتّاب العرب.. كالدكتور محمد يوسف نجم -مثلاً- أو الدكتور محمد عوض محمد، أو الأستاذ العقاد، أو غيرهم من الباحثين. |
فالدكتور نجم يعرف المقالة الأدبية بأنها قطعة نثرية محدودة في الطول والموضوع، تكتب بطريقة عفوية سريعة، خالية من التكلف والرهق، وشرطها الأول أن تكون تعبيراً صادقاً عن شخصية الكاتب
(4)
. |
والدكتور عوض يذكر فيما يذكره، في محاضرة من محاضراته أن المقالة الأدبية الموفقة تشعرك وأنت تطالعها أن الكاتب جالس معك يتحدث إليك.. وإنه ماثل أمامك في كل عبارة وكل فكرة
(5)
. |
أما الأستاذ العقاد فيرى أن من شروط المقالة الحديثة أنها ينبغي أن تكتب على نمط المناجاة، والأسمار، وأحاديث الطرق بين الكاتب وقرائه، وأن يكون فيها لون من ألوان الثرثرة، أو الإفضاء بالتجارب الخاصة، والأذواق الشخصية
(6)
. |
وتقول الكاتبة نعمات أحمد فؤاد في دراستها لأدب المازني الذي ترى فيه كاتب المقالة الأول.. في الأدب العربي الحديث.. تقول نعمات فؤاد في حديثها عن المقالة: إنها ليست دراسة.. ولكنها كلام ليس المقصود به التعمق والتركيز، وهي في مدلولها الحديث ثرثرة بليغة محببة.. يبدأ صاحبها ولا يعرف كيف ينتهي
(7)
. |
أما عن موضوع المقالة الأدبية.. فيمكن القول: إن كل ما يوصف به -في كلمة موجزة- موضوع المقالة الأدبية، هو "اللاحدود" إن جاز هذا التعبير! |
إن كل موضوع، بالنسبة للمقالة الأدبية، ملائم لها.. أو كما يقول الدكتور أحمد أمين: كل شيء في الحياة صالح لأن يكون موضوعاً: من الذرة الحقيرة إلى الشمس الكبيرة، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن كوخ الفلاح إلى قصر الملك، ومن الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ومن أقبح قبيح إلى أجمل جميل، ومن الحياة إلى الموت، ومن الزهرة الناضرة إلى الزهرة الذابلة، ومن كل شيء إلى كل شيء
(8)
. |
-بعد هذا- ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الأقوال، ومن هذه الآراء؟ طبيعي سنستخلص أن المقالة الأدبية، هي قبل كل شيء: نمط يختلف عن غيره من أنماط المقالات. |
إنها فن قائم بذاته، له ملامحه، وله طابعه الخاص. |
فهي أولاً: لا تتقيد بموضوع، لأن كل موضوع صالح لها.. وترحب به كل الترحيب! |
وهي ثانياً: تنفرد بأسلوبها السهل، غير المتكلف، العفوي، البسيط! |
ولأنها ليست دراسة.. ولأنه ليس من طبيعتها العمق.. كان لا بد لها أن تسير في غير خط المقالات السياسية، أو العلمية، أو الاجتماعية، أو غيرها. |
ومن أجل ذلك كان بديهياً أيضاً أن لا يحاول كاتب المقالة الأدبية، بأي حال، أن ينهج في صياغته لها نهج الكاتب الاجتماعي، أو الكاتب المؤرخ، أو الكاتب الفيلسوف. |
إن نهجه -كاتب المقالة الأدبية- مختلف جداً. |
إنه إنسان.. أو شخص -كما يقول عنه ذلك الكاتب الغربي- يعبّر عن الحياة، وينقدها بأسلوبه الخاص. |
إنه يراقب.. ويسجل.. ويفسر الأشياء كما تبدو له.. ثم يدع خياله يمرح في جمالها ومغزاها. |
فلا غرو أن نرى الجمهرة من الكاتبين يسبغون على المقالة الأدبية وصفهم لها بأنها تشبه القصيدة الغنائية!! |
والقصيدة. أو الشعر من حيث هو.. من أهم شروطه: العاطفة والخيال! |
وإذن.. فإن الذي يبدو -في ضوء كل ما ذكر- أنه مما ليس عنه غناء في كل مقالة أدبية أن تتسم بما يلي: |
أولاً: العنصر الشخصي، ويقصد به شخصية كاتب المقالة نفسه التي يجب أن تكون أكثر وضوحاً وبروزاً طالما أنه ليس للمقالة الأدبية من هدف سوى أن تعبر -في صدق- عن أحاسيسه ومشاعره، وتجاربه الذاتية، وآرائه في الحياة! |
ثانياً: العنصر العاطفي.. ثم الخيال.. لأنه دون العاطفة والخيال تفقد المقالة أهم خصائصها، وأبرز سماتها! |
ثالثاً: السهولة والبساطة وعدم التكلف.. بحيث تبدو أمامنا المقالة -وهذا ما ينبغي أن يكون- كما لو كانت حديثاً خاصاً بين الكاتب وأصدقائه من القرّاء! |
إنه من حق الكاتب ألاّ يحفل وألاّ يهتم بالناحية البيانية للمقالة.. أو أنه من حقه إهدار قواعد اللغة.. وبالتالي إهمال ما يفرضه عليه الفن الكتابي الأصيل.. من وجوب عنايته -إلى جانب بلاغة الفكرة- ببلاغة المعنى وبلاغة التعبير! |
|