شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
سؤال ما من شك في أنه يتردد منذ عشرات السنين بين الناس؟ ويجول في خواطر كل الواعين والمفكرين.
ومنذ أكثر من نصف قرن وجه أحد الشبان هذا السؤال إلى أحد رجالات الإسلام، إلى أمير البيان شكيب أرسلان.
وجهه إليه على صفحات مجلة (المنار) أشهر مجلة في عهدها وإلى الآن.
ولم يتردد الأمير الباحث المؤرخ في الرد، فكان رده آية في البيان، وفي نصوع البرهان.
قد نشرت الرد مجلة (المنار) بطبيعة الحال، ثم رأى السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار -يرحمه الله- أن يطبع هذا الرد في كتاب ليظل مقروءاً على مر الأيام، وتوالي الأعوام، ويتدارسه الشباب المسلم المثقف في كل زمان ومكان.
وكانت خلاصة السؤال هكذا:
ما أسباب ما صار إليه المسلمون من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معاً.. وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: 8).
فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعي أنه عزيز، وإن كان ذليلاً مهاناً، ليس عنده شيء من أسباب العزة.. إلاّ لأن الله تعالى قال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: 8).
ثانياً: ما الأسباب التي ارتقى بها الأوروبيون والأمريكيون واليابانيون ارتقاءً هائلاً؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا اتبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم الإسلام أم لا؟
وعلى عادة الأمير شكيب أرسلان في بسط الحقائق، وتسجيل الوقائع، وفي الإلمام بكل ما يمت إلى الموضوع بصلة، وفي دعم كل أبحاثه بالبراهين، أجاب على هذا السؤال، وبدأه بقوله:
إن الانحطاط والضعف اللذين عليهما المسلمون شيء عام في المشارق والمغارب لم ينحصر في مكان، إن حالة المسلمين الحاضرة لا ترضي أشد الناس تحمساً للإسلام، إن حالتهم الحاضرة لا ترضي من جهة الدين، ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المادة، ولا من جهة المعنى، وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنهم فيها غيرهم متأخرين متأخرين عن هؤلاء الأغيار لا يأمنونهم في شيء إلاّ ما ندر.
إلى أن يقول:
فبعد أن نقرر هذا.. وجب أن نبحث في الأسباب التي أوجدت هذا التقهقر في العالم الإسلامي بعد أن كان منذ ألف سنة هو الصدر المقدم، وهو السيد المرهوب المطاع بين الأمم شرقاً وغرباً.
وقبل أن يمضي الأمير شكيب في بحثه عن أسباب هذا التقهقر الذي يشير إليه، يحرص على أن يمهد بالبحث عن الأسباب التي بها ارتقى المسلمون في عهود ارتقائهم فيقول ونحن نلخص ما يقوله في هذا الصدد:
إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية، فعندما دانت قبائل العرب بديانة الإسلام تحولوا بها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحاً جديدة صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم لكانوا أكملوا فتح العالم ولم يقف في وجههم واقف!
على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن، أو ثلثي قرن قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين، وحيرت الفاتحين الكبار، وأذهلت نابليون أعظمهم، وله تصريح في ذلك.
فما السبب الذي به استطاع المسلمون في العصر الأول أن يحققوا كل هذه الفتوح؟ هكذا يتساءل الأمير شكيب، ثم يقول: يجب علينا أن نبحث هذا السبب، هل هو باقٍ في العرب، أم ارتفع من بينهم، ولم يبق من الإيمان إلاّ اسمه، ومن الإسلام إلاّ رسمه، ومن القرآن إلاّ الترنم به، دون العمل بأوامره ونواهيه إلى غير ذلك؟
إذا فحصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي به استقام هذا الأمر قد أصبح مفقوداً، بلا نزاع، وإن كان بقي منه شيء فكما في الوشم في ظاهر اليد.
فلو كان الله تعالى وعد المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لكان يحق لنا أن نقول: أين عزة المؤمنين من قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: 8).
ولكن النصوص التي في القرآن هي غير هذا، فالله غير مخلف وعده، والقرآن لم يتغير، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11) فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم.
كيف نرى في أمة ينصرها الله دون عمل؟
كلا. هذا مخالف لما عود به الله مخالف للعقل والمنطق.
وفي المقابلة بين حالة المسلمين وحالة الإفرنج اليوم يقول الأمير شكيب:
اليوم فقد المسلمون أكثر هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم، وقد تخلف بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها. فنجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقاً، وتتلقى الأسنة والحراب عناقاً، ولقد كان مبلغ مفاداتهم بالنفائس، وتضحيتهم بالنفوس في الحرب العامة الأولى فوق تصور عقول البشر، كما يعلم ذلك كل أحد، فالألمان فقدوا نحو مليوني قتيل، والفرنسيون فقدوا مليوناً وأربعمائة ألف قتيل.. والإنكليز فقدوا ستمائة ألف قتيل.. هذا من جهة النفوس، أما من جهة المال فإنكلترا بذلت سبعة مليارات من الذهب، وسبعة آلاف مليون جنيه، فليقل لي قائل أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس وإنفاق الأموال دون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم، حتى نعجب لماذا آتاهم الله هذه المنعة والعظمة والثروة، وحرم المسلمون "بضم الحاء" أقل جزء منها؟
ويمضي الأمير شكيب في التركيز حول هذه النقطة، في أكثر من ثلاثين صفحة من الكتاب، ثم يأخذ بعد ذلك في بحث أهم الأسباب في تأخر المسلمين فيقول:
من أعظم هذه الأسباب: "الجهل" ومن أعظمها: "العلم الناقص" الذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط.
ومن أعظمها: "فساد الأخلاق" بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة، وبها أدركوا ما أدركوا من الفلاح!
ومن أعظمها أيضاً "الجبن والهلع" بعد أن كان المسلمون أشهر الأمم في الشجاعة، وفي احتقار الموت!
وماذا أيضاً؟
ماذا من أعظم الأسباب -بين عشرات الأسباب- في تأخر المسلمين؟
يقول الأمير شكيب: وقد انضم إلى الجبن والهلع اللذين أصابا المسلمين: "اليأس والقنوط" من رحمة الله.. فمنهم فئات وقر في نفوسهم أن الإفرنج هم الأعلون على كل حال، وأنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه، وأن كل مقاومة عبث، وأن كل مناهضة خرق في الرأي، ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر في صدور المسلمين أمام الأوروبيين، إلى أن صار هؤلاء ينصرون بالرعب، وصار الأقل منهم يقودون الأكثر من المسلمين!
وعندما نتأمل نجد أن الأمير شكيب -يرحمه الله- لم يبالغ في هذا الذي يقوله عن اليأس والقنوط!
سبب آخر أيضاً:
سبب آخر لا يقل خطراً عن الجبن والهلع، أو اليأس والقنوط:
سبب آخر يذكره الأمير شكيب في جملة الأسباب لتأخر المسلمين.
هذا السبب هو ما يسميه "الجمود"!
ثم يتصدى للرد على بعض المزاعم مما يذيعه أعداء الإسلام، ومنها أن الإسلام لم يتمكّن من تأسيس مدنية إسلامية، والدليل على ذلك هو الحالة الحاضرة للمسلمين!
وفي هذا يقول الأمير:
خرافة يموه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج، وبعض جاحديه من الداخل، أما القسم الأول فلأجل أن يصبغوا المسلمين بالصبغة الأوروبية.. وأما القسم الثاني فلأجل أن يزرعوا في العالم الإسلامي بذور الإلحاد.
ثم ينتهزها مناسبة -وإنها لمناسبة حقاً- فيفيض في الحديث عن المدنية الإسلامية، وآثارها بما يدحض كل المزاعم، وكل الأراجيف.
وأخيراً.. ينهي الأمير جوابه القيّم لهذا السؤال بكلمة عن القرآن الكريم وحثه على العلم فيقول:
العالم الإسلامي يمكنه النهوض والترقي واللحاق بالأمم العزيزة الغالبة إذا أراد ذلك المسلمون، ووطنوا أنفسهم عليه، ولا يزيدهم الإسلام إلاّ بصيرة فيه وعزماً، ولن يجدوا لأنفسهم حافزاً على العلم والفن خيراً من القرآن الذي فيه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (الزمر: 9) والذي فيه: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ (البقرة: 247) والذي فيه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (آل عمران: 7) والذي فيه: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (آل عمران: 164) ثم يرد على أحد المبشرين زعمه أن المراد بلفظة العلم في القرآن هو العلم الديني فقط فيقول الأمير:
كل من تأمل في مواقع هذه الآيات المتعلقة بالعلم والحكمة وغيرها مما يحث على السير في الأرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على إطلاقه.. وأن المراد بالحكمة العلمية المعروفة عند الناس.
بالإضافة إلى ما تقدم يقرر الأمير شكيب أن على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا إلى مصاعد المجد، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم أن يؤدوا واجبهم في الجهاد وهو الذي أمر به الله في قرآنه مراراً عديدة، وهو ما يسمونه اليوم "بالتضحية"، فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقي إلاّ بالتضحية.
فالمسلمون يمكنهم إن أرادوا، وجددوا العزائم، وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم، أن يبلغوا مبالغ الأوروبيين والأمريكيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا على إسلامهم، كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي ينقصنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :441  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.