عن الغزو الفكري |
موضوع الغزو الفكري للبلاد العربية ليس موضوعاً جديداً يحتاج إلى بيان! إنه موضوع قديم تصدى له كبار المفكرين الإسلاميين منذ بدأت آثاره تظهر للعيان في مختلف أرجاء الوطن الإسلامي، وخاصة في بلدانهم التي مُنيت باستعمار الغرب منذ ما يقرب من مائتي عام. وما يزال المفكرون إلى اليوم يتناولون هذا الموضوع سواء عن طريق ما يخرجونه من الكتب أو عن طريق محاضراتهم ومقالاتهم وبحوثهم في الصحف والمجلات. |
وها نحن نرى صحيفة "البلاد" تتابع هذه الأيام مشكورةً نشر آراء كبار الباحثين حول هذا الموضوع. والحق أن ما قرأناه حتى الآن في صحيفة "البلاد" قد أحاط بالموضوع كل الإحاطة، فهؤلاء السادة الأفاضل، وهم نخبة العلماء والكتّاب في بلادنا، لم يدعوا مقالاً لقائل. لقد استوفوا موضوع الغزو الفكري كل الاستيفاء وتطرقوا لمسائله من كافة نواحيه. |
والواقع أن الغزو الفكري الاستعماري لبلاد المسلمين هو من أخطر الأسلحة في محاربة الإسلام والمسلمين. |
لقد تنبه ساسة الاستعمار ودهاقينه وفلاسفته منذ أول يوم تمكنوا فيه من استيلائهم على أقطار العالم الإسلامي -تنبهوا إلى هذه الحقيقة- وهي أن استعمارهم السياسي والعسكري لتلك الأقطار لا يمكن أن يحقق لهم غرضهم البعيد -وهو القضاء نهائياً على الإسلام- ما لم يعملوا بكل الوسائل الممكنة لإقصاء المسلمين عن دينهم، عن عقيدتهم وشريعتهم وثقافتهم، وبذلك يضمنون لأنفسهم الإبقاء على سيطرتهم ونفوذهم في البلاد الإسلامية حتى ولو زال عنها استعمارهم العسكري. |
وفي هذا السبيل صنعوا الأعاجيب. وكان أول ما تمخضت عنه سياستهم هذه هو إلغاء الأحكام الشرعية في المحاكم وإبدال القوانين الوضعية بها. |
الشيء الثاني وهو لا يقل خطورةً عن الأول: إفسادهم للتعليم بما غيروا وبدلوا فيه من برامج وأساليب، وأهم نقطة في هذا التغيير والتبديل أنهم جعلوا التعليم العام "علمانياً" أي (لا دينياً) وبذلك نفذوا أهم الأهداف السياسية الغزو. وهي العمل المستمر الدائب على تنشئة الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين على منهج جديد: منهج غربي بحت ليس فيه من معنى الإسلام سوى الاسم، وبذلك استطاعوا أن يجعلوا الكثيرين من هؤلاء المتخرجين من مدارسهم مؤمنين بهم.. مقلدين لهم.. ومنهم مع الأسف من استمرأوا أن يكونوا أتباعاً للمستعمرين.. ثم هناك أشياء أخرى كثيرة معروفة.. جلبها الاستعمار ضمن منهاجه في الغزو مما كانت نتيجته هذا الذي نشهده اليوم في أكثر البلاد الإسلامية من مظاهر الضعف والتخلف في كل ميدان.. ثم هذا الذي نلاحظه من انحراف الشباب إلاّ من رحم ربك.. |
وأخيراً وليس آخراً: هذا الذي نراه الآن من ترويج لمذاهب مستوردة هدامة.. ومن دعوة للجنس، وتركيز على الاختلاط، إلى آخر ما هناك مما لا يحتاج إلى إشارة.. واستطاع الاستعمار أن يجعل من جميع وسائل الإعلام أدوات فعّالة يستخدمها في التأثير على عقول الناس واستطاع أن يجعل من عملائه الكثيرين منفذين ناجحين لمخططه الرهيب. |
ومن المعروف أن للصهيونية العالمية في هذا المجال: مجال الغزو الفكري الاستعماري دورها الكبير، وليس عجيباً أن يكون لليهود دورهم التخريبي في هذا المجال وهم الذين أخذوا على أنفسهم منذ عهودهم الطويلة أن ينشروا الفساد في الأرض. |
ولا أنسى أن أخص التبشير بالذكر هنا، وما تبذله دوائر الاستعمار في الغرب من أموال طائلة تفوق الحصر لا من أجل نشر المسيحية فقط كما يزعمون، وإنما من أجل إبعاد المسلمين عن عقيدتهم في المقام الأول إذا استعصى عليهم أن يحيلوهم إلى نصارى. |
وفي هذا يقول كبير المبشرين "زويمر": "ليس غرض التبشير إخراج المسلمين من دينهم ليكونوا مسيحيين.. إن المسلم لا يمكن أن يكون مسيحياً مطلقاً.. ولكن الغاية هي إخراج المسلم من الإسلام فقط". |
ولا أنسى أيضاً دوائر الاستشراق وما أخذته على عاتقها من تشويه دنيء لمحاسن الإسلام ومن تعريضهم بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، ومن تحريفاتهم للمعاني القرآنية بطرق ملتوية، إن قلنا إنها تدل على الفهم السقيم.. فهي من غير شك تدل أكثر.. على سوء النية وعلى رغبة متعمدة في التشويه لمجرد التشويه. وكم أدخلوا من شبهات على الإسلام، وكم أذاعوا من ترهات وسفسطات رد عليها ودحضها بأوضح أسلوب كتابنا الإسلاميون، والكثيرون منا يذكرون في هذا الصدد ما كتبه الإمام محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي، ثم سيد قطب ومحمد قطب والمودودي والندوي. |
وهؤلاء المستشرقون والمبشرون، حينما نراهم يتعرضون للقرآن الكريم في محاولة منهم فاشلة لإضعاف أثره المضيء في النفوس، فهم إنما يفعلون ذلك لأنهم يرون القرآن هو كل شيء في حياة المسلمين: عنه يصدرون وإليه يثوبون ومنه يستمدون الهدى، وعلى أساس من شريعته الوهاجة يقيمون بناء حياتهم، سواء في مجال العقيدة أو مجال الحكم أو مجالات العلاقات الاجتماعية أو مجال الأخلاق. |
ولم ينكر المستعمرون موقفهم العدائي الحاقد هذا من القرآن.. فهذا واحد منهم وهو "غلادستون"، رئيس وزراء بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر، يقول بكل تبجح وهو يحمل في يده المصحف أمام أعضاء مجلس العموم: "ما دام هذا الكتاب باقياً في الأرض فلا أمل في إخضاع المسلمين". |
وهذه كلمة حق.. لا شك في ذلك، قالها هذا الاستعماري الشهير.. بالرغم من أنه قالها بدافع من حقده الصليبي الدفين، ولغرض سيئ هو الحث على المزيد من التحدي، والمزيد من محاربة الإسلام ومحاربة القرآن.. تنفيذاً لبرنامج الغزو الاستعماري الفكري. |
هذه هي أهم الوسائل التي ما فتئ الاستعمار يمارسها إلى اليوم في ميدان تحديه للإسلام.. والعلاج لم يعد خافياً بعد أن بحثه علماؤنا وكتّابنا.. العلاج معروف وهو وجوب مقاومة هذا الغزو بكل الطرق والوسائل الإيجابية الفعّالة دون هوادة ودون توان. |
وليس من شك في أن أول ما يجب الاهتمام به هو قضية التعليم وإعادة بنائه من جديد على أساس من التربية الإسلامية. |
وهذا عمل كبير يحتاج إلى جهود وإلى زمن، ويحتاج قبل كل شيء إلى أن يتوحد حوله الرأي في جميع البلاد الإسلامية، فما لم يتفق على ذلك كل المسلمين وكل حكوماتهم ثم يخرجوه من حيز القول إلى حيز العمل والتطبيق بكل عزم وبكل صدق وإخلاص.. فسوف تبقى المشكلة قائمة لزمن أطول وهذا هو ما نخشاه. |
ولعلّه مما يدعو إلى الأمل أن نرى الندوات أخذت تتابع انعقادها من أجل هذا الغرض وهي تضم النخبة من الرجال المصلحين وغيرهم من خبراء التربية والتعليم في مختلف العواصم الإسلامية. |
وقد كانت آخر ندوة إسلامية عقدت في المدينة المنورة في شهر شوال 1392هـ. |
ومن الحق أن نقول: إن ما توصلت إليه هذه الندوة من نتائج وقرارات يبشر بكل خير. كما كانت ندوة الشباب العالمية للدعوة الإسلامية التي انعقدت في الرياض بدعوة من وزارة المعارف بتوجيه من جلالة الملك فيصل خطوة بناءة أخرى في هذا السبيل. |
ولن أطيل في هذا الموضوع ولن أتعرض لباقي الأمور من كل ما له علاقة بقضية الغزو الفكري ويعرفه الجميع، وأشرت إلى بعضه آنفاً. لن أطيل في ذلك لأني أؤمن أشد الإيمان بأن حجر الأساس فيما يحاوله المسلمون الآن من مقاومة لهذا الغزو إنما هو إصلاح التربية والتعليم أولاً وقبل كل شيء.. والعودة بهما إلى المنهج الإسلامي. |
ولا أعني بذلك إهمال الأمور الأخرى وإنما أعني أن نولي عنايتنا أكثر بالتربية والتعليم، فالتربية والتعليم هما الأساس، ومتى صلح الأساس وبدأ قوياً كان ضمان النجاح لمسيرتنا كلها في هذا الطريق مؤكداً بإذن الله
(1)
. |
|