شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شاعر المدينة المنورة
إبراهيم الأسكوبي
1264-1331هـ
ليست هذه ترجمة لحياة الشيخ "إبراهيم الأسكوبي" شاعرنا المديني المشهور.
إنما هي لمحات.. أتناول فيها إحدى نواحي شاعر جهير؛ أعتبره -بحق- على رأس شعرائنا الحجازيين في أواخر العصر العثماني.
باختصار؛ سأتحدث هنا عن الأسكوبي والسياسة، أو السياسة في شعر الأسكوبي.
إنها قصيدة واحدة، من قصائد الأسكوبي، هي التي أعنيها في هذا المقال القصير.
قصيدته المدوِّية -كما وصفها في بحثه المطوّل عن هذا الشاعر صاحب المنهل- وقال عنها: إنها أول قصيدة سياسية في الشعر الحديث على ما نعرف.. أنشأها ناظمها في آخر العهد العثماني، وقبيل الحرب العامة الأولى بقليل، ووجّهها إلى الدولة العثمانية صيحة إرشاد وتنبيه.
قصيدة فريدة حقاً، من شعر الأسكوبي.
بل، لعلّي لا أبالغ إن قلت إنها فريدة حقاً في الشعر العربي الحديث.
إني أقولها في إعجاب، إن هذه القصيدة الأسكوبية، هي في الحقيقة -وبالنسبة لمحيطنا في العصر الذي نظمت فيه- حدث أدبي رائع مثير...
فكيف ظهر الأسكوبي؟
كيف ظهر في ذلك العصر "أواخر العصر العثماني"؟
كيف ظهر في عصر، كلنا نعرف أنه لم يكن قد وجد فيه بعد، أدب نابض بالمعنى الصحيح؟
بعبارة أوضح: كيف أُتيح للأسكوبي أن يخرُج عن "القوقعة".. أعني كيف استطاع أن ينظم هذا الشعر، في أواخر العصر العثماني؟
وفي وقت لم يكن فيه ما يشغل شعراءنا -بصورة عامة- في جيل ما قبل الحرب العالمية الأولى سوى التشطير والتخميس.. وفي أعلى المستويات: قصائد، لا تخرج عن موضوع التغزل التقليدي في أغلب الأحوال.
لقد كان العصر الذي عاش فيه الأسكوبي -وهذا ما لا ينكره أحد- عصر التراجع بالنسبة للدولة العثمانية.
وما أكثر ما كان الشعراء والكتّاب، يندّدون بسوء الأحوال آنذاك.. ولكن دون جدوى.
وما أكثر ما كان المعتدلون من دعاة الإصلاح يناشدون الدولة.. أن تتدارك نفسها... ولكن لسوء الحظ، لم يكن يومها من يسمع، أو يعي..
وكان الأسكوبي، شاعر المدينة المنورة، واحداً من أولئك الدعاة..
وكانت قصيدته هذه.. إحدى الصيحات.
لكنها -مع الأسف- كانت في واد، والدولة في واد..
والظاهر أن الأسكوبي، كتب قصيدته، أثناء الغزو الإيطالي لطرابلس الغرب، قبيل الحرب الأولى.
وقد كانت نتيجة هذه الحرب، احتلال إيطاليا لطرابلس، وانهزام الجيش العثماني.
وقد كانت هذه الهزيمة، وكان هذا الاحتلال: مأساة، آلمت كل النفوس، وأدمت كل القلوب.
* * *
وماذا عن الأسكوبي شاعرنا الكبير؟
لقد مات الرجل، منفياً عن بلاده، بسبب هذه القصيدة، مع أنها لم تكن سوى صيحة إرشاد وتنبيه!
لم يكن الرجل يحمل في أطواء نفسه، إلاّ حباً وإخلاصاً لدولته العثمانية.
وإذن فهو عندما يخاطب دولته عن طريق الشعر.. إنما يخاطبها كأي عثماني صميم يرجو لها الخير والفلاح.
فلنستمع إليه في قصيدته المدوية.. يبدأها بقوله:
يا آل عثمان، فالمغرور مَنْ غُرَّا
بأهل أوروبا.. أو عهدهم طُرّا
أتأمنون لموتورين، ديدنهم
أن لا يروا منكم، فوق الثرى حُرّا
تمالئوا، فخُذوا حذراً، فإنهمو
يرون إبقاءكم، بين الورى، ضُرّا
فهذه دولة الطليان، حين رأت
أسطولكم ليس يُغني، فاجأت غدرا
وشقّت البحر بالأسطول، معجبة
تختال تيهاً به، مغرورة سكرى!
ثم يقول:
دون الدنيَّة، إيثار المنيَّة في
قوم من البغض، ودّوا محوَكم مكرا
لا تحسبوا أنهم ناسون ما فعلت
أسلافكم بهمو، في سالفٍ مرّا
أيقظتموهم بضرب الهام، فانتبهوا
من نومهم.. ورقدتم أنتمو، الدهرا
فليتكم ما خطوتم نحوهم قُدُماً
وما أغرتم على أملاكهم شبرا
نبهتموهم، فشدّوا عزمهم حنقاً
كأنهم، قد أقلتم منهم العثْرا
فجدَّدوا عُدَداً للحرب فاتكة
براً وبحراً، فجاسوا البر والبحرا
* * *
هذه هي صيحة الأسكوبي.. تنبض كلها بحرارة الصدق.. حرارة الإيمان بأن الدولة للجميع: للترك والعرب معاً.. لقد كان الشاعر أبعد ما يكون عن أية نزعة انفصالية من دولة العثمانيين!
وأحسب أنه لن تفوت القارئ الأديب، إشارات الشاعر اللبقة، في هذه الأبيات إلى وقائع التاريخ...
إشاراته إلى ما كان من ولوع السلاطين الأوائل بالحروب يشنونها باستمرار -دون سابق تخطيط- متحدين أكثر من دولة أوروبية تضمر كلها العداء لدولة الإسلام. فهي إذن، لا تترك أية فرصة تؤاتيها لأن ترد.. ترد التحدي بمثله أو أشد... وهذا ما كان!
صحيح.. لقد سجلت جحافل العثمانيين في حروبهم المتتابعة في شرق أوروبا أروع ما عرفه تاريخ الجيوش من بسالة عسكرية.
وصحيح أيضاً: لقد كان النصر يمشي في ركاب هذه الجيوش في البداية... لكن ما معنى أن يظل استمرار الحروب هو وحده الهدف، خصوصاً بعد أن تطور -فيما بعد- مجرى الأحداث، ولم يعد مفتاح النصر بيد العثمانيين وحدهم، بالإضافة إلى عدم تنبه الدولة نفسها إلى ضرورة الأخذ بالأساليب الحديثة في الحرب، على النحو الذي بدأ في أوروبا...
ولقد حدث فعلاً، ما كان لا بد أن يحدث.. بحكم المنطق التاريخي!
تنبهت أوروبا.. تحررت من ظلمات قرونها الوسطى.. أخذت حكوماتها تستعد.. تستعد بسلاح جديد، وعِلم جديد.. ووقفت دولة العثمانيين ساكنة لا تتحرك.. فما هو إلاّ أن تكتلت هذه الحكومات في وجه دولة الخلافة.. وحقاً لقد أعادوها "صليبية" من جديد!
تنبهت الحكومات الأوروبية، فكانت هذه "نقطة البدء" في تغيير مجرى التاريخ!
تنبهت.. وشدَّت عزمها -كما يقول الأسكوبي- حَنَقاً.. "جاسوا البر والبحرا".. واستمروا كلما واتتهم الفرص، يأخذون هذه القطعة، أو تلك من ديار الإسلام!
وينتهي الأمر بدولة الخلافة.. دولة الإسلام.. أن يتحكم فيها جماعة اللادينيين من أقطاب حزب الاتحاد والترقي. ولم يكن يتردد هؤلاء -ولماذا يترددون- في أن يقولوا عن الإسلام إنه دين تأخر.. وأنه السبب في هزائمهم المتوالية.
وفي هذا يقول الأسكوبي، مخاطباً الاتحاديين:
ظننتموا أن دين اللَّه أخَّركم
عنهم، وهم حمدوا كفراً، به المسرى
لا تظلموا رحمة للعالمين أتت
هَدَت إلى حِكَم عُظمى، جرت نهرا
فلو عملتم بها ما فاتكم أحد
يوماً، ولا أحد يوماً، لكم أزرى
تذكّروا كم خطيئات لكم سلفت
-بها تأخرتموا عنهم- أبت حصرا!
تقريع شديد.. يوجهه الأسكوبي على طريقته، وبأسلوب عصره.. ولعمري إنه أسلوب مهما يرى فيه الناقدون الجدد له أصالته على أي حال!
ولنعد إلى شاعرنا، نستمع إليه، يتأوّه من أعماق فؤاده، ويصرخ قائلاً:
تاللَّه تاللَّه، إن لم تسمعوا الذكرى
مالوا عليكم، فلم يُبقوا لكم: ذِكرا
نعم الشفاء بقرآن الإله، إذا
قبلتموه.. وإلاّ فاسكنوا القبرا!
إن تنصروا اللَّه، ينصركم، فكم فئة
قليلة، غلبت أضعافها كُشْرا!
* * *
يا للرجال! ثقوا أن ليس ينفعكم
إلاّ ثباتكمو، أن تركبوا البحرا
وأن تخوضوا غمار الموت مترعة
من كل أغلب.. من ليث الثرى أجرا
مسلحين بما وافى العدو، به
من السلاح، وإن توفوا، له صبرا
فهذه العُرب والأتراك قاطبة
ما عندهم عُدَد تكفيهم قدرا
فرخّصوا، لجميع المسلمين، به
بل اكشفوا لهمو، عن صُنعه السرَّا
كي يصنعوه بأيديهم فيغتنموا
حياتهم، ويفوا مولاهم صبرا
إلى أن يقول:
اللَّه يسألكم عنهم، وعن بِدعٍ
جهلاً، رضيتم بها في دينهم تُجرا
عليكم وزرهم، إن أصبحوا هدفاً
يُرى، وليتكموا استعظمتم الوزِرا
لو ألف عام طلبتم عِلم أوروبة
وحاكم هكذا.. لم تبلغوا العُشرا
لم يكفِ ما طار من صيت لهم خبراً
حتى يطيروا، فصاروا فوقكم خبرا
وهكذا.. إلى آخر ما أفرغته جعبة هذا الشاعر من نصحه الخالص، وتأنيبه المرير!
فهل نبالغ، إن قلنا إن الأسكوبي، قد سبق عصره بعشرات السنين؟
نعم.. لقد سبق الأسكوبي عصره الذي كان محجوراً فيه على أي شاعر، أو أي صاحب قلم في البلاد التي كانت مرتبطة بالسلطنة.. أن يبدي أي نصح أو أي ملام.
* * *
وبعد: ما أجدر الأسكوبي -وقد علمتُ أنه يوجد له ديوان مخطوط وفيه الكثير من فرائده الشعرية- ما أجدر الأسكوبي أن يُطبع ديوانه هذا، وأن يوضع عنه كتاب!
إني أتوجه بهذه الرغبة -وكلي ثقة وأمل- إلى كل من الأديبين الكبيرين عبيد مدني، وعبد القدوس الأنصاري.. إذ هما الوحيدان -في اعتقادي- الجديران بأن يقوما بهذه المهمة الأدبية، إحياء لذكرى شاعر جهير استطاع في عهد يسوده الكبت، ويسيطر فيه على النفوس الهلع.. أن يقول كلمته ويمشي!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :634  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.