شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أحداث تاريخية في الحج
وما أكثر الأحداث التاريخية في الحج!
ومن غير شك أن استعراض هذه الأحداث في مقال.. أمر بعيد المنال.
لكن ما العمل، وقد اختار هذا الموضوع لي الصديق رئيس تحرير جريدة المدينة المنورة السيد عثمان حافظ لعدد الجريدة الخاص.
ما من بُدّ -إذن- من الامتثال لما يريده الصديق. وبقدر ما يتسع المجال هنا وفي هذا المقال سأحاول أن أستعرض من الأحداث ما يبدو لي أنه "الأهم" وما يفيد القارئين.
ثم لا مناص لي من أَن أقول: أن من بين الأحداث التي وقعت في مواسم الحج، ما لا يمت بأية صلة إلى الحج، وإلى قدسية الحج، والحكمة التي أرادها الله من الحج، وهي أن يكون هذا البلد الأمين مثوى عبادة وطهر؛ ومكان أمن واستقرار، وأن يكون الحج إلى بيته المحرم وسيلة لشهود المنافع، لا أن يؤول الأمر فيه إلى العكس.. على نحو ما شهده تاريخ الحج في عصور مضت من فقدان للأمن، ومن فتن دامية كفتنة القرامطة -مثلاً (1) - ومن خلاف ونزاع وصدام ينشأ كله لأتفه الأسباب.
ولم تكن موجة الفتن في معظم تلك العصور، قاصرة على بلاد الحرمين بل كانت تشمل معظم الأقطار.
وقد رأيت أن أتجنب في هذا المقال الإشارة إلى أحداث "الفتن" إذ ليس فيها ما هو جدير بالذكر، وليس فيها سوى ما يثير الأشجان!
* * *
والحديث عن الأحداث التاريخية في الحج، أو عن أحداث تاريخية في الحج -كما هو عنوان المقال- يحسن -كما أرى- أن يسبقه حديث موجز عن الحج نفسه.. أعني كيف بدأ؟ ومتى؟
بدأ الحج -كما هو معروف ومشهور- منذ عهد الخليل إبراهيم عليه السلام، وذلك بعد أن أتم بناءه مع ولده إسماعيل، للبيت الحرام.
وكان الحج بداية عهد جديد ليس بالنسبة لمكة وحدها؛ بل بالنسبة لسائر الجزيرة العربية.
وكانت دعوة الخليل لربه عندما غادر مكة تاركاً بها زوجته "هاجر" وولده "إسماعيل" بعد بنائه للبيت هي كما حكاها لنا القرآن الكريم:
رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم: 37).
واستجاب له ربه، وأوحي إليه بالأذان في الناس بالحج، ونفذ الخليل الأمر، ودعى الناس كافة من جميع العصور، من ولد منهم ومن لم يولد.. إلى حج البيت الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً، واختاره لأكبر تجمع إيماني.. وروحاني تضامني على مر الأحقاب والزمان!
فأول حج هو حج الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام.
* * *
وكان الحج إلى مكة منطلق عمران، وعامل رخاء، ووسيلة تقارب وتفاهم ووئام!
وقد مرت العصور تلو العصور بعد عهد إبراهيم وإسماعيل.
مرت العصور تلو العصور، ومكة تستقبل الوافدين من كل فج عميق.
وعام بعد عام.. وجيل بعد جيل، والإقبال على الحج يزداد، والتجمع فيه يستمر، والعرب من كل أطراف الجزيرة العربية لا مطلب لهم أثير سوى أن يكون لكل واحد منهم في أداء هذه الشعيرة إسهام!
ولم ينقطع الحج في أية فترة من الفترات.
إلاّ أن بعض التحريف والتبديل في أواخر هذه الفترات وقع في شعائر الحج عندما نشأت الوثنية بين القبائل العربية فأخل ذلك بالحج، وخرج به عما كان عليه في عهد إبراهيم.
وقد كانت فترة ظلام خيمت في الجزيرة العربية وقتاً طويلاً، غير أنها ما لبثت أن انزاحت بإشراقة الإسلام!
جاء الإسلام؛ وأطلت على الأكوان رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء الإسلام، وجاء رسول الرحمة، لينقذ العالم كله من ضلال الوثنية والانحراف، ويدعو إلى توحيد الله، وإلى مكارم الأخلاق وإلى العدل والإحسان، وإلى إزالة كل ما أدخلته الوثنية على الحج من تحريف وتبديل.
وفي السنة التاسعة للهجرة نزلت آية الحج.. قال تعالى.. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 97).
وبذلك أصبح الحج فرض عين على كل مسلم ومسلمة -للمستطيع- مرة في العمر، وصار الحج ركناً من أركان الإسلام.
وفي هذه السنة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يحج بالناس، فكان أول أمير للحجيج في الإسلام.
وفي السنة العاشرة حج الرسول عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، وكانت حجة الوداع أعظم الأحداث في تاريخ الإسلام! وسميت هذه الحجة.. حجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة التمام والكمال، لأن الرسول ودع الناس فيها، وذكر لهم ما يحل وما يحرم، وقال لهم: هل بلغت؟ ولأنه بلغ الناس قولاً وفعلاً، ولأنه لم يحج من المدينة غيرها بعد أن فرض الحج، ولنزول قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِينًا (المائدة: 3) والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة (2) .
وقف مع الرسول في هذه الحجة مائة وأربعة عشر ألف من المسلمين في أرجح الأقوال؛ وكان خروجه من المدينة في يوم السبت لخمس بقين من شهر ذي القعدة ووصوله إلى مكة في يوم الأحد لأربع مضين من ذي الحجة بعد أَن مضى عليه في الطريق ثمانية أيام.
وقد فصلت كتب الصحاح والسيرة حديثها عن حجة الوداع وفيها نص خطبته صلى الله عليه وسلم.
وبعد انتقاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى، حج بالناس خليفته الأول أبو بكر الصديق. وكان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم يحجون بالناس في أكثر سني خلافتهم ما عدا الإمام علي بن أبي طالب، فهو لم يحج في خلافته لانشغاله بحرب الجمل وصفين.
وفي عهد الأمويين حج بالناس من خلفائهم معاوية لعدة سنين، وحج عبد الله بن الزبير في خلافته في الحجاز ثمان حجج وفي سنة 72هـ وفي أول ليلة من ذي الحجة حاصره في مكة قائد عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف.
وحج من خلفاء الأمويين عبد الملك بن مروان، وأبناؤه الوليد وسليمان وهشام. وحج من الخلفاء العباسيين، أبو جعفر المنصور ست حجج آخرها سنة 158هـ وفيها توفي في مكة في اليوم السادس من ذي الحجة في بئر ميمون قبل دخوله مكة. ثم حج ابنه المهدي في خلافته سنة 160هـ وكان معه ابنه هارون قال المؤرخون: فلما قدم مكة نزع الكسوة عن الكعبة عندما رفع إليه سدنة البيت أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، وكانت الكسوة لا تنزع من الكسوة كل سنة، بل تلبس كل سنة كسوة فوق تلك الكسوة (3) .
وأنفق المهدي في حجته هذه مالاً عظيماً قدم به معه من العراق يبلغ ثلاثين ألف ألف درهم سوى ما وصل إليه من مصر وهو مبلغ ثلاثمائة ألف دينار عيناً.. ومن اليمن مائتي ألف دينار عيناً فرق ذلك كله ومعه مائة ألف وخمسون ألف ثوب (4) .
ووسع المسجد الحرام، وأمر ببناء القصور بطريق مكة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منها، وحفر الآبار.
وفي سنة 166هـ أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة ولم يكن هناك بريد قبل (5) .
وحج ابنه هارون الرشيد في خلافته تسع حجج، وكان يغزو عاماً ويحج عاماً، ولم يحج بعده خليفة من بغداد.
وفي إحدى حججه في سنة 179هـ مشى من مكة إلى منى فعرفات، وشهد المشاعر كلها ماشياً.. وحجت زوجته السيدة زبيدة ماشية أيضاً.. ومن آثارها الخالدة العين المعروفة باسمها في مكة وقد أنفقت عليها ألف ألف وسبعمائة ألف مثقال من الذهب على ما ذكره المؤرخون.
وحين حج الرشيد في سنة 186هـ جمع القضاة والفقهاء، وكتب كتاباً أشهدهم فيه على ابنه الأمين بالوفاء لأخيه المأمون، وكتاباً آخر أشهدهم فيه على المأمون بالوفاء للأمين وعلّق الكتابين في الكعبة المشرفة.. وكما يروي لنا التاريخ فقد خولف فيما بعد هذا الاتفاق، أو هذه الوصية إذ ما لبث الخلاف أن وقع بين الأمين والمأمون بعد موت الرشيد!
* * *
وفي سنة 366هـ حجت جميلة بنت الملك ناصر الدولة بن حمدان، قال المؤرخون، وصار حجها يضرب به المثل.. وحج الناس معها من أقطار الأرض، وأنفقت بمكة عشرين ألف دينار؛ وبالمدينة مثلها. بل قيل أنها أنفقت في حجها ألف ألف دينار ومائة وخمسين ألف دينار (6) .
وفي سنة 556هـ حج السلطان نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد.
ومن أعماله المبرورة في حجته منحه لأمراء العربان إقطاعات لحفظ الحاج فيما بين دمشق والحجاز، وأكمل سور المدينة وأخرج لها العين (7) .
ومن آثار السلطان صلاح الدين الأيوبي في مكة إبطاله في سنة 572هـ ما كان يؤخذ من المكوس على الحجاج، وتعويضه أمير مكة على ذلك ألفي دينار وألف أردب قمح؛ وكانت هذه المكوس حدثت في مدة دولة العبيديين.
وفي سنة 655هـ وإلى سنوات بعدها انقطع الحج العراقي بسبب فتنة "التتار" الذين تم استيلاءهم على بغداد في سنة 656هـ.
ومن الأعمال التي تتصل بالحج ما أجراه السلطان الملك الأشرف قايتباي صاحب مصر من إصلاحات في مكة كان من أهمها إبطاله جميع المكوس. وفي آخر سنة 874هـ والتي قبلها بني مسجد الخيف، قال القطبي في تاريخه. "فهذا المسجد أثر عظيم باقٍ إلى الآن من آثار المرحوم السلطان "قايتباي"".
وعمر "قايتباي" مسجد نمرة في عرفة، وجدد العلمين الموضوعين لحد عرفة والموضوعين لحد الحرم.
وفي سنة 892هـ أمر وكيله أن يحصل له موضعاً ليبني له مدارس يدرس فيها علماء المذاهب الأربعة، ورباطاً يسكنه الفقراء، ويعمل مكتباً للأيتام وغير ذلك من جهات الخير، وأنشأ مأذنة وأرسل خزانة كتب وقفها على طلبة العلم وجعل مقرها المدرسة المذكورة، وجعل لها خازناً.. قال القطبي.. وقد استولت عليها أيدي المستعير، وشيعوا منها جانباً كبيراً، ولم يبق منها سوى ثلاثمائة مجلد. إلى آخر ما قال:
وكان قايتباي قد حج في سنة 884هـ.
* * *
وللسلطان الأشرف قانصوه الغوري أحد ملوك الجراكسة في مصر مآثر كثيرة في مكة وجدة من أهمها بناؤه وسور جدة في سنة 917هـ وإرساله أحد أمرائه لدفع خطر البرتغال عند بدء ظهورهم في المحيط الهندي إلى البحر الحمر. وأمره له بدفع الفتنة التي وقعت في جدة إذ ذاك..
ولبعض السلاطين العثمانيين مآثر وإصلاحات -وإن كان يلاحظ أنه لم يحج منهم أحد ومن أعظم مآثرهم مما يتصل بالحج إجراء عين عرفات إلى مكة المشرفة في عهد السلطان سليمان بن سليم.
ومن آثار سليمان "المدارس الأربعة السليمانية التي أنشأها في المسجد الحرام لدراسة الفقه على المذاهب الأربعة. بدأ في بنائها سنة 972هـ وعمل لها مأذنة وعين لها المدرسين والطلبة والمعيدين؟ وتم إكمال هذه المدارس في عهد ابنه سليم الثاني.
وفي هذه المدارس أو في بعضها كان يدرس "الطب" إلى جانب العلوم الدينية" (8) .
* * *
وممن حج غير الخلفاء والسلاطين؛ أمراء وأميرات ورؤساء كانوا يفدون إلى الحج على توالي العصور وإلى عصرنا الحديث.
ولبعضهم من المآثر وأعمال الخير ما أبقى لهم ذكراً حسناً في التاريخ.
وقد شهد تاريخ الحج عبر امتداده الطويل توافد الآلاف من أكابر العلماء إلى الحرمين، من سائر أنحاء البلاد الإسلامية مشرقاً ومغرباً، وكان منهم من يطيب لهم أن يسكنوا في مكة أو المدينة أعواماً تقصر أو تطول حيث يلقون الدروس في الحرمين بل إن منهم من كانوا يتلقون العلم على شيوخ الحجاز، ومنهم من صنف أشهر كتبه بها، كالإمام البخاري صاحب الصحيح.. والإمام الزمخشري صاحب الكشاف.. والجويني إمام الحرمين، والزبيدي صاحب تاج العروس في شرح القاموس.. وابن عربي والسخاوي المتوفي في المدينة المنورة، ومئات غيرهم.
* * *
وكانت الرحلات الشهيرة يقصد أكثر أصحابها -أول ما يقصدون الحضور لأداء الحج. ثم يرحلون بعد ذلك لإتمام رحلاتهم في البلدان الإسلامية الأخرى.
ومن أشهر هؤلاء الرحالين: "ابن جبير" و "ابن بطوطة" و "الشريف الإدريسي" و "ناصر خسرو" و "العبدري الحجبي" نسبة إلى عبد الدار وأصله من بلنسية أدى الحج في سنة 688هـ وكتب رحلة لا تزال مخطوطة؛ توجد منها نسخ في لندن وباريس والأسكوريال.
ومنهم السمعاني صاحب كتاب الأنساب، والبلوي الذي فرغ من رحلته في سنة 767هـ وعبد الغني النابلسي وغيرهم وغيرهم.
لقد كانت بلاد الإسلام كلها كأنها "بلاد واحدة" فلا فواصل تفصل بينها أبداً.. ولا قيود ولا سدود.. وكانت الصلات وخاصة بين العلماء والأدباء على أتمها مهما كان من تباعد الديار، والفضل الأعظم في هذا التقارب وهذا الاتصال يعود إلى الحج دون مراء (9) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :605  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.