شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مِن أوليات عمَر
ما أجمل ما كتب الكاتبون، ويكتبون، عن سيرة عمر بن الخطاب، وعن أعماله الجليلة ذات الأثر الخالد في تاريخ الإسلام!
فبعد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه لا أظن عظيماً في الإسلام، أفاض المؤرخون والكاتبون في الإشادة بما كان له من قوة الشخصية، وخالد الآثار كما أفاضوا في الكتابة عن عمر؛ وعن شخصية عمر، وقد حفل تاريخه بكل عظيم ورائع وجليل!
والحق لقد ملك عمر من إعجاب المفكرين والمؤلفين والباحثين والشعراء في الشرق والغرب ما لم تملكه أية شخصية عظيمة أخرى، وأكبر الظن أنه لن تنفد مادة الحديث عن كل ما يتناول هذا الجانب أو ذاك.. من جوانب الفاروق العظيم!
ذلك لأن العظمة النفسية ذات الجوانب المتعددة، والشخصية الكاملة القوية، المتأصلة فيها أدق المعاني الحيوية والخصائص الإنسانية الراقية، وأسمى المواهب والملكات والميول، وأشرف النوازع إلى الخير وإلى إتيان كل ما هو جليل وحميد مما ينفع الناس، ويرتفع بحياة الأفراد والجماعات على السواء. هذه العظمة لا يمكن أن يكون الكلام عنها معاداً أو مكرراً لأن البحث فيما تتميز به من خصائص وتنفرد به من آثار، إنما توحيه خصائص العظمة نفسها وآثارها، قبل أن يوحيه أي حافز آخر من حوافز المناسبات..
وما أكثر النواحي والسمات العمرية ذات الطابع الخاص. وما أكثر ما كان يبدو عمر (أمير المؤمنين) مصلحاً ومجدداً ومنشئ دولة كأعظم ما يكون أولئك القلائل المصلحون، أولئك الذين أنشأوا دولاً كبرى في القديم والحديث!
لقد كان شعاره التجديد دائماً.. لهذا لم يكن من الغريب أن ينشأ في عهده من النظم الإدارية والمالية ما كان بعضه مقتبساً من أنظمة الفرس والروم، حينما اقتضت مصلحة الإسلام هذا الاقتباس.
ومن مآثر عمر، وهو ما كان بالطبع نتيجة من نتائج نزوعه إلى التجديد وإلى كل ما من شأنه أن ينأى بالمسلمين عن مواطن الركود والجمود، أقول من مآثر عمر أو ابتكاراته كما يجب أن توصف بحق: هذا الذي اصطلح المؤرخون فيما بعد على أن يسموه "أوليات عمر".
هذا الشيء الذي أسماه المؤرخون (أوليات عمر) إنما هو صفة ناصعة مجيدة من تاريخ ابن الخطاب لأنه عدا ما تميزت به من وصفها بالأولية، فقد كانت هي في حياة عمر وفيما بعدها ذات أثر كبير في تطور حياة المسلمين الاجتماعية وغيرها، على توالي العهود والعصور.
فما هي هذه الأوليات؟ إنها أشهر من أن تذكر، ونحن.. إذ نحاول في هذا المقال السريع أن نشير إلى بعض هذه الأوليات فإنما نرمي إلى أن نأتي بأمثلة منها.. في شيء من الإيضاح، وفي شيء من التبويب، وفي شيء من التفسير للظروف التي أحاطت بها، والعوامل التي أوجبت إحداثها.
كان من أول أعمال عمر في السنة الأولى من خلافته إجلاؤه نصارى نجران من الجزيرة العربية. بعد أن ثبت أنهم نقضوا عهدهم، وخالفوا ما نصت عليه معاهدتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما اشترط عليهم في هذه المعاهدة من الامتناع عن تعاطيهم للربا خصوصاً وأن ضرر تعاطيهم لهذه التجارة المحرمة في الإسلام، وما كان يسلم منه بحال أولئك المجاورون لهم من العرب والمسلمين، ولم يكن يجرؤ هؤلاء النجرانيون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن يرتكبوا هذه المخالفة الصريحة لما عاهدوه عليه، وإنما بدأوا بذلك في حياة الصديق، ولم يكن يغيب عن بال أبي بكر رضي الله عنه وهو ذلك الخليفة البعيد النظر ما في هذا العمل من خطر من كيان الدولة الناشئة، وما في هذا النقص المشين لمعاهدة كفلت لهم كل حقوقهم، من عدوان وبغي ومن إسراف في الشر.. ولكنه لانشغاله في مدة خلافته القصيرة بما هو أكبر أهمية، وأشد خطراً.. لم ير من الحكمة أن يتعجل الأمور، وأن يبادر إلى إجلائهم من الجزيرة على النحو الذي تم فيما بعد في خلافة الفاروق.
وهنا يجب أن نتأمل، كيف تم هذا الإجلاء، وكيف كان عمر المملوء قلبه إيماناً وحناناً وعطفاً.. كيف كان عمر حريصاً كل الحرص على أن يكون هذا الإجلاء في أروع صورة مثالية، على ما كان يحتمه الموقف إذ ذاك من شدة قد تكون هي في حالة كهذه الحالة ضرورة من الضرورات السياسية لو أن غير عمر كان هو الذي نفذ هذا الإجراء.
بعث عمر في السنة الأولى من خلافته "يعلي بن أمية" إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران؛ وأن يعاملهم بالرقة ويشتري أموالهم ويخيرهم عن أرضهم في أي أرض شاءوا من بلاد الإسلام.
ويزيد عمر في وصيته بأهل نجران.. فيكتب إلى يعلي بن أمية: "إئتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجْلهم من أقام منهم على دينه واقرر المسلم وامسح أرض كل من تجلى منهم، ثم خيرهم البلدان وأعلمهم أنّا نجليهم بأمر الله ورسوله أن لا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرجوا من أقام على دينه منهم ثم نعطيهم أرضاً كأرضهم إقراراً لهم بالحق على أنفسنا ووفاءً بذمتهم فيما أمر الله من ذلك، بدلاً بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف".
على هذه الصورة السمحة الرحيمة تم إجلاء النجرانيين من قِبل عمر.. فأي فارق عظيم بين هذا الأسلوب من أساليب السيطرة والحكم، وبين شتى أساليب الحكم الأخرى في دول ما زالت تزعم اليوم أنها وحدها واضعة مبادئ الحرية والديمقراطية والمساواة؟!
وكان إجلاء النجرانيين أول أوليات عمر، ومن أهم أوليات عمر!
* * *
ومن أهم أولياته -وهو ما يتصل بسياسته المالية، وحياة المسلمين الاقتصادية والاجتماعية- أنه حين تم له فتح سواد العراق طلب إليه المحاربون أن تقسم أراضي سواد العراق بينهم باعتبار أنهم فتحوها عنوة بسيوفهم أبى الفاروق أن يقبل ذلك منهم، ذلك لأنه فكّر في أمر عظيم ذي بال.. فكر بعد أن تغيرت الظروف وبعد أن رأى ما رأى من اتساع رقعة المملكة وتكاثر الغنائم وما تستدعيه الأحوال الجديدة من تعديل لبعض الأوضاع، وأحداث لبعض الأنظمة.. فكر في أن يلغي هذا التقسيم وأن يوجد بدلاً من ذلك تقسيماً من نوع آخر.. تقسيماً يكون أبلغ وأبعد في تحقيق فكرة المساواة.
وكان رأي فريق كبير من أقطاب المسلمين إذ ذاك إنه لا مانع من تقسيم هذه الأراضي، غير أن عمر أبى ذلك بعد أن فكر طويلاً في هذا الأمر الجلل. وبعد أن اقتنع أتم الاقتناع بأن المصلحة العامة للمسلمين تقضي عليه بهذا الإباء..
وقف عمر أمام أولئك الأقطاب وعلى رأسهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقفته الخالدة المعروفة وتحداهم؛ وقال لهم قولته المشهورة: "فكيف بمن يأتي بعدكم من المسلمين فيجدون الأرض قد اقتسمت بمن عليها وحيزت إرثاً عن الآباء.. ما هذا برأي!".
ويطول الحديث، ويطول النقاش، ويستمر الجدل بين عمر من جانب.. وبين أكثرية الزعماء من جانب آخر.. حول هذا الموضوع.. وأخيراً ينتصر عمر بعد لأي، وبعد طول إقناع، وبعد استمرارٍ في الأخذ والرد، ويوافق المسلمون بالإجماع على ما ارتآه عمر من إبقاء هذه الأراضي مملوكة لأصحابها من السكان الأصليين بعد أن فرض على رؤوسهم الجزية وعلى أرضهم الخراج.
وعلى هذا، كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص بعد أن تم فتح العراق: "أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم ما أفاء الله عليهم. فإذا أتاك كتابي هذا، فانظر ما جلب عليه أهل العسكر بخيلهم وركابهم من مال أو كراع فاقسمه بينهم، بعد الخمس، واترك الأرض والأنهار لعمالها فيكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين حضر لم يكن لمن يبقى بعدهم شيء".
وكان أول ما بدأ به عمر بعد أن أتم الله على يديه ما أراده من إحداث لهذا النظام.. أن فرض نظام العطاء للمسلمين كافة فأمر بإحصاء الناس، وبدأ بالعباس ومن يليه من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بأهل السابقة والذين شهدوا المشاهد، وشاركوا في الفتوح على حسب درجات كل منهم في الجهاد، ثم بعامة المسلمين.
ومن أوليات عمر: إحداثه للتاريخ الهجري فقد كان العرب إلى أوائل عهد خلافته لا يؤرخون وكانت أحداثهم الشهيرة كحرب الفجار، أو حادثة الفيل، وغيرها.. هي الأساس الذي عليه يعولون في توقيت أحداثهم ووقائعهم كبراها وصغراها، فإذا ولد مولود قالوا إنه ولد في عام الفيل مثلاً أو في العام الذي تلا ذلك العام، أو في العام الذي وقعت فيه حرب كذا وهكذا.. إلى أن جاء الوقت الذي رأى فيه عمر بنظره الثاقب، وعبقريته الملهمة أنه لا بد من إيجاد نظام للتوقيت بعد أن تضخمت الدولة، واحتاج الأمر فيها إلى الدقة في كل شيء.. فما هو إلاّ أن جمع -على عادته- كبار الصحابة واستشارهم في هذا الأمر. وكان قد سألهم من أي يوم نكتب التاريخ؟ فأشار عليه علي بن أبي طالب "رضي الله عنه" بأن يجعل التاريخ من السنة التي هاجر فيها الرسول إلى المدينة، ففعل، وكان هذا في السنة السادسة عشرة للهجرة...
وطبيعي أن يعقب إيجاد هذا التوقيت، حادث آخر من نوعه، له صلته الوثيقة، بتركيز أعمال الدولة وتنظيم أمورها المالية على وجه الخصوص، فلقد أحدث عمر لأول مرة في تاريخ الإسلام "نظام الدواوين" على مثال ما كانت عليه الدواوين في دولتي فارس والروم.
شيء آخر أيضاً أحدثه عمر، وجاء متمماً لما أحدثه من قبل، من وضعه للتاريخ الهجري وتدوينه للدواوين؛ ذلك هو ضربه للنقود.
فالعرب في عصرهم الجاهلي، ما كانوا يعرفون لهم نقوداً خاصة، ولأمر ما.. أو لارتباط تجارتهم بما كان يتاخمهم من الأقطار الخاضعة للنفوذين الفارسي والرومي، كانوا يتعاملون فيما بينهم بالنقود الفارسية والرومية من درهم ودينار، واستمر هذا الوضع إلى عهد النبوة وعهد الصديق وأوائل عهد عمر، ثم في السنة الثامنة عشرة أمر عمر بضرب الدراهم على نقوش الدراهم الفارسية، وزاد في بعضها (الحمد لله) وفي بعضها (محمد رسول الله).
وفي عهد عمر مصرت "البصرة" و "الكوفة" الأولى في السنة الخامسة عشرة، والثانية في السنة السابعة عشرة هجرية.
وفي عهده أُنشئت دور الضيافات، قال ابن سعد، "اتخذ عمر دار الدقيق فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب وما يحتاج إليه ليعين به المنقطع، ووضع فيما بين مكة والمدينة في الطريق ما يصلح من ينقطع به، وفي بعض الروايات أنه فعل مثل ذلك أيضاً بالطريق بين الشام والحجاز".
وعمر أول من عيّن القضاة ورتب لهم الرواتب. وأول من عس بالليل وأول من حمل الطعام من مصر إلى المدينة بحراً، وأول من أقام والياً للحسبة وأول من شق الترع وأقام الجسور وأول من وضع المرابطين من الجند لحماية الثغور.. إلى غير ذلك من الأوليات (1) ..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :643  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج