تصدير |
|
بقلم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري |
|
صاحب ورئيس تحرير مجلة المنهل الغرّاء |
الكاتب... |
ليس الصديق الأستاذ محمد سعيد العامودي مؤلف هذا الكتاب ومحبر هذه البحوث، بالكاتب المجهول في عالم الأدب والثقافة في بلادنا حتى يحتاج إلى تقديم أو تعريف، إنه في طليعة الروّاد بالنسبة للأدب الحديث في هذه البلاد.. هو من بُناته الأوائل وواضعي أسسه ورافعي راياته في الآفاق، وهو مخلص لفنه وفكره وثقافته، لا يقول إلاّ ما يراه حقاً، ولا يلج موالج الزيف مهما تكن البواعث والدوافع قوية أو ملزمة... يرضي ضميره وتفكيره ويتعمق في مطالعاته، ويستلهم كل ذلك فيما يكتب.. وبذلك كله استوى له ما أسميه (كفتي العمق والاتزان) وقد استطاع بما وهبه الله من مران أدبي مصقول، أن يقول كل ما يريد.. وفي الحق أن بحوثه في ميادين التاريخ والاجتماع والصحافة والثقافة بحوث ممتعة مفيدة، تجمع إلى جمال الأسلوب، وبهاء الاستعراض، جمال الدقة، وبهاء التمحيص، وهو في ذلك موفق، وقلما يتأتى ما وفق إليه -للأدباء الباحثين، والباحثين الأدباء. |
والأستاذ شاعر بعيد النفس عريق الشاعرية، ولكنه بوصفه "رائداً وبنّاء" رأى أن الشعر لم يُخلَق في العصر الحاضر ليوجه وليكيف الأمة إلى هذا الحد البعيد المدى الذي هُيِّئ (النثر) له باتساع آفاقه لأن يجول فيه، فطلَّق الشعر قولاً لا ذوقاً، ونادى بكفرانه به. وله الحق في ذلك فإن أدب اليوم، هو أدب السرعة والانطلاق وأدب التحرر من مختلف القيود وهذا ما لا يتسنى لأدب مقيد بالوزن والقافية.. وبغير الوزن والقافية.. إن لأدب اليوم رسالة كبرى هي التغلغل في أعماق الحياة إلى أبعد حد، لضمان إيقاظ خامدها، وإنهاض جامدها، وتعديل معوجها وتقويم منآدها، وتبسيط معقدها، وكبح جماح متطرفها وترقية منحطها وتقديم متأخرها.. وهذا ما كان الأستاذ العامودي من العاملين المخلصين في حقله، المجيدين فيه الثابتين فيه.. |
ولعلّي لا أكشف سراً إذا قلت: إن الأستاذ الكاتب من الأدباء القلّة الذين لا يتركون أية مناسبة عالمية تمر، أو أية عاصفة تهب في أرجاء الدنيا، أو أي حدث كبير يقع إلاّ ويجيل فيه فكره ثم يشرع قلمه، فإذا به يحبر ويدبج المقالات التاريخية أو الأدبية، وإذا به يدمج التوجيه الذي يرى توخيه لمواطنيه ووطنه في طيَّات مقاله، إدماجاً سداه ولحمته اللباقة في الاستعراض. وكل قارئ لما كتب يفطن بطبيعته إلى هذا السر، وإلى هذا الهدف وهو يصل من ذلك إلى مبتغاه بأسلوب ليس رمزياً، وليس صريحاً، إنه أسلوب الكاتب القدير في فنه الذي يراعي الأجواء ويفهم اتجاهات الرياح، ويعرف كيف يسيّر سفينة بحثه وتوجيهها بين التيارات المتضاربة والجو المغبر المكفهر، حتى يصل بها آخر الأمر إلى ساحل السلامة والنجاح.. |
وهذه الغاية لا يوفي إلى ذروتها إلاّ كل كاتب موهوب.. ولا أقول غير الواقع، إذا ما أنا سلكت الأستاذ العامودي في هذا الصف من الباحثين القلائل عندنا وهم الذين نحن أحوج إليهم من سواهم وبخاصة أدباء (الفن للفن)... |
الكتاب: |
لقد ظل الأستاذ يمد الأدب في الصحافة الوطنية بمختلف بحوثه في ميادين الأدب والبحث في الفترة الأولى من حياته الأدبية، ثم رأى أن أدب (الفن للفن) لون من طرف الحياة والأدب ومن ثم انصرف إلى (البحث العلمي) يطعمه بأسلوبه وبذوقه الأدبي الرفيع فكان ثاني اثنين من أدبائنا الذين اتجهوا هذا الاتجاه الحميد؛ أو حاولوا أن يوجهوا الأدب الوطني إلى هذا النحو من الاتجاهات، وقد وفق الأستاذ وانكب على المطالعة وواظب على كتابة البحوث التاريخية التي لحمتها البحث التاريخي وسداها إيقاظ الوعي الوطني إلى تبني الطريف من طريق إيقاظ ذاتيته واستعراض مميزاته العريقة أمامه على شريط فني ممتاز من القول الجميل، وجاء هذا الكتاب نتيجة ذلك الاتجاه، ونتيجة لجولاته في الصحافة في هذا المجال. |
ويتألف الكتاب من تسعة بحوث وكل بحث يصح أن يسمى كتاباً بمفرده لأن المعلومات مبسطة فيه تبسيطاً جميلاً، ومضغوطة فيه ضغطاً جميلاً، فهي كما قال شاعر العراق الكبير محمد رضا الشبيبي: |
وأجمع أقوال الرجال أسدها |
معانٍ كبارٌ في حروف قلائل! |
|
فهذا بحث (سياسة المال في عهد عمر بن الخطاب) هو من البحوث النادرة الموفقة. |
ولا نريد أن نمر بهذا البحث الطريف دون أن نعلق عليه، فإن الأستاذ الفاضل أماط لنا اللثام عن مبدأ تدوين الدواوين في الإسلام بأمر عمر، وأبدى لنا أن هذه الدواوين كتبت في مصر والشام بالقبطية والفارسية حتى حولها عبد الملك الأموي إلى اللسان العربي.. فيا ترى بماذا دونت دواوين الحجاز ونجد والجزيرة العربية في عهد عمر بن الخطاب؟ |
ونمضي قدماً إلى بحث (الضمان الاجتماعي في عهد عمر) فإذا البحث ممتع شائق. يكشف فيما يكشف عن ناحية عظيمة من مفاخر الإسلام بتقرير الضمان الاجتماعي فعلياً وبدون تزويق ولا بطء من قبل ألف وثلاثمائة واثنين وسبعين عاماً.. |
و (أوليات عمر) بحث قيم يشهد لكاتبه بالإخلاص لفنه وبالتوفيق في درسه.. فقد استعرض لنا فيه باقات عطرة خالدة من أوليات هذا الخليفة الموهوب الملهم.. فإذا بها أوليات تضع على مفرق تاريخنا أكاليل الفخار الخالد.. والتوجيه إلى هذا الماضي الذهبي هو من أهداف الكاتب اللبق، حتى لا يأخذ بهرج المدنية الغربية فتعمى بصائرنا عن فضائلنا الخالدة. فإذا تجاوزنا إلى ما وراء السطور في هذا البحث القيم الفريد، نجد الأستاذ كاتبه إنما يريد التوجيه إلى أن يقتفي المعاصرون الأواخر من بناة الممالك العرب بالأوائل.. فذلك علامة نجاحهم الصحيح. |
* * * |
وهناك بحث (العناصر النفسية في سياسة العرب) إنه بحث دقيق استعرض فيه الكاتب مؤلفاً للأستاذ شفيق جبري
(1)
في هذا الموضوع، استعراضاً لم يخل من الكشف عن مآخذ صحيحة دقيقة في أسلوب متأدب رزين ولكنه عميقٌ قوي ناضج.. وقد كان مجلى هذا النقد الحصيف يتمثل في موضوع عدم استخلاف عمر.. واستخلاف معاوية رضي الله عنهما.. |
وقل مثل هذا في مقال (العرب: تاريخ موجز) فهو استعراض ونقد وتمحيص لكتاب الأستاذ فيليب حتي؛ الذي يحمل هذا العنوان. ومن أجمل النقدات في هذا المقال موضوع اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وصنيع الحسن بن علي في تنازله عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما.. لقد وفَّى العامودي هذا النقد حقه، فله شكر التاريخ والتحقيق. |
فإذا جئنا للبحث الخاص بنقد كتاب (الموالي في العصر الأموي) فإننا نجد الأستاذ يكتفي باستعراض بحوث الكتاب، ولم نره كدأبه يحلل ويعلق وينقد. |
أما بحثه "من نوادر المخطوطات" فهو من نوادر البحوث التي يحسن العناية باستيعابها وامتثالها فيما يكتبه الكاتبون، لأنه، بحث تاريخي تحليلي مركز، لكتاب مخطوط يتعلق بالتاريخ القريب المجهول عن بلد الله الحرام.. |
و "من تاريخ الصحافة في بلادنا" بحث ممتع هو الثاني من نوعه في هذا الميدان، والأول هو بحث الأستاذ المحقق رشدي الصالح ملحس الذي استند إليه الأستاذ العامودي في بعض النقاط.. وقد سجل هذا البحث تكملة ما انتهى إليه الأستاذ رشدي، فوصل حاضر الصحافة في هذه البلاد بماضيها. |
و "هل الحروب تطوي الحضارات؟" بحث اجتماعي مركز جالت فيه براعة الأستاذ جولة الباحث المتعمق، ومن الجدير بالذكر أننا كنا نتخوف حين بداية الحرب العالمية الثانية أن تنهار الحضارة الحاضرة على عروشها فكان توجيه (المنهل) لذلك الاستفتاء إلى الأدباء أثراً من آثار الشعور بمرارة ما سيحدث أو ما نتخوف أن يحدث للعالم أجمع نتيجة للحرب المدمرة... وقد كان جواب الأستاذ الذي نتحدث عنه حصيفاً مطابقاً لما حدث، فلم تنهر الحضارة بسبب الحرب، بل مضت قُدُماً إلى الأمام.. |
مكة المكرمة |
عبد القدوس الأنصاري |
|