شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شيلوك الأخير (1)
شيلوك -كما نعرف- هو بطل رواية "تاجر البندقية" للشاعر الإنكليزي الأشهر وليم شكسبير.
وهو نفسه بطل رواية "شيلوك الجديد" للأديب المعروف علي باكثير.
وعلى رغم المئات من السنين. لا يزال شيلوك هو هو لم يتغير: الرمز الدائم البشع للأنانية والقسوة وسوء السلوك.
يجري الحوار هنا بين التاجر شيلوك وسكرتيره الذي عينه حديثاً ويشترك الخادم في جزء من الحوار:
شيلوك: مخاطباً سكرتيره وهو يقوم ويقعد ويرغي ويزبد في هياج مستمر: يا للخسارة الفادحة يا صديقي الأمين: إنها... إنها ثلاثون ألفاً عدًّا ونقداً؛ خسرناها اليوم؛ يا للخسارة! يا للمصاب! أبَيْنَ عشية وضحاها أخسر كل هذا؟ رباه! رباه! أين المفر؟ أين الخلاص؟
شيلوك أيضاً: يخرج من الغرفة ثم يعود وفي يده دوسيه: ربَّاه! ربَّاه! إنها ثلاثون ألفاً.. إنها ليست ثلاثة ولا ثلاثون ولا ثلثمائة ولا ثلاثة آلاف.. إنها ثلاثون ألفاً تماماً.. ليت شعري هل أنا موجود؟ كانت كما حسبناها صفقة من أربح الصفقات؛ لا.. لا.. بل كانت صفقةً اعتيادية لا أقل ولا أكثر؛ كانت صفقةً اعتيادية كأمثالها من ألوف الصفقات.. ولكنها الآن ماذا أقول؟ لقد قُضي الأمر؛ وانقلب الوضع؛ وأصبحنا أمام الشر الذي لا بد منه؛ إنها الخسارة! إنه الفقر! إنه الإفلاس الشائن المريع!
السكرتير: مشدوهاً مندهشاً -أيةُ خسارة يا سيدي هذه التي تتحدث عنها؟
شيلوك: يتقدم إليه الخادم بفنجان القهوة فيتناوله ثم يرده ثانياً: أية خسارة؟ أَلاَ تدري؟ عجباً إنه تجاهل ليس إلاَّ.. إنه هزل في موضع الجد! إنه...
السكرتير: صدقني يا سيدي إني لست بالمتجاهل؛ ولست بالهازل؛ صدقني إني لم أشعر بعد بأية خسارة ما..
شيلوك: حقاً! إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة!
السكرتير: متضاحكاً: وإن كنتُ أدري؟
شيلوك: فالمصيبة أعظم!
السكرتير: عجيب جداً يا سيدي هذا الذي تقول!
شيلوك: خسارتنا إن كنت لا تدري هي نزول الأسعار..
السكرتير: ولكن ما هو مصدر الخسارة ما دام أن نزول الأسعار هنا ناتج من نزول الأسعار هناك؟ وأين هي الخسارة ما دمنا نربح ولو قليلاً على كل حال؟
شيلوك: الخسارة؟ الخسارة هي أني قدَّرتُ فأخطأت التّقدير؛ وحسبتُ ربحاً معيَّناً قبل هذا النزول المفاجئ فأصبح هذا الربح سراباً في سراب..
السكرتير: لكنك رابح على كل حال؛ وما دام أن هنا ربحاً فالخسارة وحدها هي ذلك السراب..
شيلوك: هذا كلام؛ وعلى هذا الاعتبار فقط؛ على اعتبار أنه كلام أتقبله منك يا عزيزي السكرتير!
السكرتير: يتحرك من مقعده ويتقدم إلى سيده: مولاي ليس هذا كلاماً.. ثق يا سيدي أننا لم نخسر شيئاً أصلاً؛ وإليك الدليل -السكرتير يفتح دوسيه كان في يده- هذه فاتورة القيمة؛ وهذه وثائق الشحن، والسكورتاه؛ وهذه سندات الرسوم؛ مجموع كل ما فيها يا سيدي مائة وعشرون ألفاً؛ فإذا قارنا بين المجموع وبين أسعار البيع في هذا النهار؛ نجد أننا لم نخسر شيئاً أبداً؛ بل العكس نربح عشرين ألفاً..
شيلوك: مستمراً في هياجه -لا. لا. أبداً، أبداً، لا أصدق؛ لا أصدق أننا لم نخسر؛ هذه سفسطة.. هذا هراء.. إنها ثلاثون ألفاً؛ ثلاثون ألفاً خسرناها على التحقيق...
السكرتير: يعود إلى مقعده في ثورة مكبوتة هراء؟ سفسطة؟ يا للمغالطة المكشوفة لست أدري أين هي هذه الخسارة؟ يتقدم إلى سيده ثانياً: مهلاً يا سيدي؟ قد يختلف الناس في كل الأشياء إلاّ في الأرقام.. إن 2+2= 4 لا يمكن أن تكون هذه الحقيقة محلاً لأي اختلاف؛ إنها لغة الأرقام وهل أصدق من لغة الأرقام؟
شيلوك: لغة الأرقام؟ وهل أفهم أنا غير لغة الأرقام؟ إنها لغة الحقائق! إنها لغة الوضوح! إنها أكثر من أن تكون لغة! إنها كل شيء في هذا العالم!
السكرتير: متحمساً ومبتسماً: إذن اتفقنا يا سيدي أليس كذلك؟
شيلوك: اتفقنا.. هذا بلا شك.. إلاّ في..
السكرتير: إلا في ماذا؟
شيلوك: إلاّ في هذه الخسارة؛ إنها الأمر الواقع الذي لا شك فيه..
السكرتير: ألا يمكن عن طريق الإقناع أن نتفق في هذا؟
شيلوك: في هذه المسألة؛ قد اتفقنا يا عزيزي على أن لا نتفق مطلقاً!
الخادم: يدخل: واحد من التجار حضر الآن يريد مقابلتكم.
شيلوك: من هو؟ أهو ذلك الذي كان جاءنا بالأمس يساومنا في بعض الأصناف؟
الخادم: هو يا سيدي بالذات..
شيلوك: قل له إني مشغول؛ وإذا كان لا بد من أن يعود؛ فليحضر بعد أسبوع.
السكرتير: بعد أن يذهب الخادم -إن الذي أذكره يا سيدي هو أنكم وعدتم هذا التاجر..
شيلوك: وعدته بماذا؟ لعلّك تقصد أن نوافقه على أن يبتاع منا ما اتفقنا عليه من الأصناف؟
السكرتير: طبعاً؛ وهل بعد الوعد إلاّ الوفاء؟
شيلوك: يقهقه في سخرية ومرارة -أَتريد حقيقةً أن يكون ذلك بعد أن هبطت الأسعار هبوطها المعلوم؟ لا. لا؛ هذا لا يمكن أن يكون!
السكرتير: وهل ينتظر يا سيدي أن تعود الأسعار إلى سابق عهدها؛ لكي يبتاع منك هذه الأصناف؛ أو يبتاعها غيره بالأسعار التي تبتغيها؟
شيلوك: سواء أعادت الأسعار إلى ما كانت عليه أو لم تعد؛ فأنا أصر على أن لا أبيع..
السكرتير: حينئذ قد تكون الخسارة مُحققة؟
شيلوك: حينئذ قد تكون أكثر من خسارة.. ولكني لن أكون آسفاً!
السكرتير: يتمشَّى في الغرفة في جيئةٍ وذهاب -عجباً حينما تكون الخسارة ناتجة عن وهم؛ ومن بنات الخيال تكون مصدراً للشقاء النفساني.. وحينما تكون أمراً واقعاً لا ريب فيه لا تكون موجبة حتى للأسف!
شيلوك: لا تكون موجبة حتى للأسف!
السكرتير: قد يكون هذا صحيحاً افتراضاً على الأقل؛ أجل قد لا يهمك أنت أن تخسر حتى رأس المال؛ وهذا شأنك الخاص.. ولكن أليس للناس قسط من الحقوق في هذه الأشياء؟ أليس لهم أن يعطوا منها بمقدار ما تستحقه من ثمن بدلاً من أن يُحرموا منها، وهل التجارة في معناها شيئاً آخر غير هذا؟ هل التجارة سوى أن يستورد التاجر لكي يبيع ما يستورده للناس بأسعاره الواقعية لا أن يستبقيه؟ والتاجر من هو أليس هو فرداً من أفراد المجتمع له ما للمجتمع؛ وعليه ما عليه؟ أليس من واجبه أن يتبادل النفع على أساس التعاون لا الاستغلال مع الأفراد الآخرين؟ وهب أننا فقدنا الإنصاف يا سيدي شيلوك؛ فأين الرحمة إذن؟ الرحمة التي هي في هذه الأرض طريق الوصول إلى الرحمة في السماء؟
شيلوك: يطلب إلى الخادم كأساً من الليمون ويتضاحك: ما أذكاك! وما أبلغك متكلماً؛ بل ما أعظمك فيلسوفاً.
السكرتير: ما أقوله يا سيدي هو الواجب الإنساني الأكبر والأنبل.. وهذا الواجب هو القاسم المشترك الأعظم بين كل من يحملون صفة الإنسانية؛ الرحمة.. الرحمة.. هي الينبوع الدائم للسعادة البشرية؛ الرحمة هي العلامة على وجود الضمير؛ الرحمة للجميع؛ ومن الجميع؛ وبين الجميع هي السياج الأول؛ وهي السياج الأخير!
شيلوك: الرحمة؛ ما هي الرحمة؟ أليست هي خوراً في الطبيعة كما قال ذلك أديب شهير من أدبائكم الأقدمين؟ طبعاً هذا كلام لم اقرأه أنا.. لأني أربأ بوقتي أن أضيعه هكذا.. كما تضيعونه أنتم؛ بين هذه الكتب الفارغة الجوفاء.. هذا كلام سمعتهُ كثيراً، وحفظته كثيراً؛ لماذا؟ لأني أراه من صميم الأدب؛ إن كان للأدب وجود في هذه الحياة!
السكرتير: يخرج من الغرفة منفعلاً بعد أن يعلن أنه تارك للعمل ويتمتم: الرحمة خَور في الطبيعة.. هذا هو كل الأدب الذي حفظه شيلوك!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :621  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.