جَزاء
(1)
|
كان كثيراً ما يتندَّر على زميله "أديب" في إدارتهما الحكومية، حيث يشتغلان معاً في قسم واحد، وفي عمل واحد بالتضامن إذا شئت، أو بالتناوب إذا شئت. وكان كثيراً ما يتحدث أعني "نسيباً" عن تخلف زميله المحظوظ. تخلفاً متوالياً في الدوام، وتخلفاً متوالياً في الإنتاج وفي كل مضمار. |
وكان "نسيب" هذا ابن وقته -كما يقولون- فهو لا يترك أية فرصة إلاّ ويستغلها أتم الاستغلال، وفي ذكاء عجيب، لحسابه الخاص، وعلى حساب من؟ على حساب الآخرين، من زملاء المصلحة في الأعمّ الأغلب ومن الأصدقاء وغير الأصدقاء كذلك، فأما حصة "أديب" من هذا الحساب الجاري باستمرار.. فقد كانت -ولا جدال- حصة الأسد، إن صح هذا التشبيه. |
حدَث في إحدى المرات أن أطال أديب غيابه في إحدى إجازاته المرضية، وكانت خطيئته التي ارتكبها بحق أنه لم يقم كما يجب بتجديد هذه الإجازة، وإذن فهي فرصة من الفرص جديرة بالاهتبال إن نسيباً وهو نموذج الرجال الذين يدينون بالفلسفة الواقعية في الحياة: هيهات أن يغفل أو ينام أو يفكر وهو ينشد الوصول إلى أهدافه العملية في أي عتب أو ملام.. وإذن فما كان منه إلاَّ أن يؤدي مهمته على أكمل الوجوه.. ها هو يشيع في الناس مختلف الأقاويل عن هذا الغياب وما يُخفي وراءه من أسباب.. أقاويل شتى وأسباب شتى، تُوجِد، أو هي قد أوجدت بالفعل من الحبة قبة.. أقاويل شتى وأسباب شتى، تحمل الجميع أو هي قد حملتهم فعلاً على أن يظنوا كل الظنون، في الزميل الغائب عن العيون.. وإذن فهو لن يعود وثُم ماذا بعد هذا؟ |
بعد هذا لا بد مما ليس منه بد.. لا بد من الرجوع إلى الروتين؛ لا بد من تطبيق المادة كذا والفقرة كذا؛ لا بد من عملية فصل تتلوها -بطبيعة الحال عملية- تعيين. |
وكان "أديب" بالنسبة إلى هذه العملية واحداً من اثنين، بل كان أديب الهدف المقصود أو كبش الفداء.. |
ويأبى الله إلا ما يريد، ففي اللحظة الأخيرة عاد "أديب" من سفره الطويل وما كان سفراً طويلاً بالقياس إلى سواه، ولكنه كان سفراً طويلاً حقاً بالقياس إلى الجو الذي يحتويه، وإلى المحيط الذي قدر له أن يعيش فيه. |
لم يكن "أديب" كما كان يصوره "نسيب" بالرجل الفدم، أو الرجل البليد، ولم يكن بالرجل الفاشل في عمله الرسمي، أو في أي عمل من الأعمال. ولكنه كان طيب القلب إلى حد السذاجة، وهذه هي إحدى أخطائه التي لا يد له فيها.. وكانت له جريمة كبرى في أحد الأيام، جريمة كبرى ارتكبها ضد القانون كما كان يقول. |
كانت جريمة "أديب" هذه هي أنه في السنة التي تخرج فيها "نسيب" من مدرسته الثانوية وتطلع إلى أن يكون موظفاً، فما كان من "أديب" الساذج، الذي لم يقرأ في علم النفس أي شيء! أديب الذي لم يكن يفهم حينذاك من حقائق الحياة إلاّ قليلاً من قشورها وإلاّ ما تقوله الكتب.. ما كان منه أن يعمل ثم يعمل، ثم يعمل من أجل ماذا؟ من أجل ترشيح نسيب للعمل الذي كان من حظه فيما بعد أن يؤول إليه. |
وليس هذا ويتم الفصل.. بل إنه -وهنا سر الجريمة- لم يتردد في أن يلعب الدور الهائل.. الدور الذي يمقته كل المقت، ويزدريه كل الازدراء، لم يتردد أديب في أن يسير -وللمرة الأولى- على طريقة الوصوليين.. فهو يدس جواباً رأى أنه من أجوبة الاختبار الصعبة، يدسه بين أوراق نسيب وفي غفلة من الرقيب بعد أن لاحظ عليه أنه يتصبَّب عرقاً، وأنه كاد أن يصبح من الرسوب قاب ساعتين أو أدنى. |
وقد كان أديب يسرُّ إلى أصدقائه دائماً أنها جريمته الوحيدة في الحياة من هذا القبيل، وكان يضيف بأنها لم تكن في الواقع إلاّ ضرورة من تلك الضرورات التي تبيح المحظورات.. أجل هي ضرورة من الضرورات يبررها أن هدفها كان إنسانياً محضاً. |
وأخيراً يفوز نسيب في الاختبار، ويرسب أولئك الآخرون التعساء، وما كان هو بأفضلهم وما كانوا هم بالراسبين لو أخطأ نسيباً نجاحه الموهوم. |
أهي جريمة حقاً؟ |
قد يقول الناس جميعاً: "لا. ليست هذه جريمة"! |
وقد تأتي الأخلاق هي الأخرى، فتقول أيضاً ما يقوله الناس! |
ولكنها خطيئة على كل حال؛ خطيئة لا شك فيها من ناحية القانون على الأقل، نعم إنها خطيئة قد لا تضر القانون "موضوعاً"، ولكنها أضرته "شكلاً" وقد لا تمسه في الصميم، ولكنها مسته في الروتين. |
هي خطيئة على كل حال مهما تكلفنا في تبريرها، وتحليل معاذيرها الإنسانية، أفتكون كفارته عنها أنه لقي في هذه الدنيا جزاءه عليها عادلاً؟ أم أنه لا يزال بعد يحسب في عداد الخاطئين، رغماً عما لقيه من جزاء، وما أمره من جزاء؟ |
|