رامز
(1)
|
نشأ يتيماً فقد مات أبوه؛ وهو لما يزل طفلاً لم يجاوز عامه الأول، وتوفيت أمه وهو في الثالثة من سنيه؛ وكان خاله -وليس له من يكفله سواه- يتولى جميع شؤونه؛ ويرعاه طول أيام هذا العهد السعيد: عهد الطفولة الساذجة الغضَّة.. والحق لقد كاد يكون عهد طفولته سعيداً وسعيداً من كل الوجوه.. لولا أن الظلم من شيَم النفوس -كما يقول الشاعر العربي- ولولا أن من سجية الزمن أن يقسو ويقسو؛ في أغلب الأحيان؛ وأن يتصرف ويتصرف بشيء كثير من الحرية والانفراد بالمصاير والحظوظ. |
كان أمين بك -وهو خال هذا الطفل اليتيم رامز- رجلاً طيب القلب؛ متين الأخلاق؛ يملأ قلبه الإيمان الخالص والبر والعطف والحنان؛ ولم يكن هذا العطف وهذا الحنان محدودين يخص بهما ابن أخته وطفله الوحيد (رامزاً) فحسب؛ وإنما كان شاملاً عطف هذا الشيخ الكريم وحنانه وبره للجميع؛ وبخاصة أتراب رامز من أطفال البلدة؛ لقد كان رامز سعيداً بخاله كل السعادة؛ وكان المتصلون بهذه الأسرة من قريب أو بعيد؛ يحسون بذلك؛ وكانوا يعجبون له.. وكانوا يسرون له كل السرور؛ كانوا يسرون لهذا النوع من أنواع الحياة وأنواع البر والحنان والعطف؛ وكانوا يغبطون هذا الطفل اليتيم المحبوب بما حباه به الله في ظل خاله الرؤوم من سعادة الطفولة؛ بعد أن شاءت الأقدار حرمانه من عطف أبويه. |
* * * |
ويشاء الله أن يتزوج أمين بك -للمرة الثانية طبعاً- بعد أن قضى عهداً من عهود العزوبة لك أن تقول عنه إنه عهد طويل.. ولك أن تقول العكس.. لقد كانت عزوبة أمين بك طويلة وجد طويلة بالقياس إلى الفلسفة العملية للناس؛ ونظرتهم للحياة.. وكانت هذه العزوبة قصيرة وقصيرة جداً بالقياس إلى الفلسفة الخاصة لأمين بك.. لقد كان الرجل ألوفاً؛ وكان صورة من الوفاء، وكان لموت زوجته الأولى في سويداء فؤاده من عميق الآلام والشجون ما ظل يتجدد ويتجدد بتجدد الأيام والشهور والسنين.. وما ظل يحول بينه وبين الإقدام على إعادة التجربة كما كان دائماً يقول كلما فكر في موضوع الزواج؛ أو على الأصح كلما فكر له في ذلك أصدقاؤه ومحبوه. |
تزوج أمين بك إذن؛ وانضم إلى هذه الأسرة المتواضعة السعيدة عضو جديد من بنات حواء؛ وظل أفراد هذه الأسرة شهوراً عديدة والسعادة الكبرى ترفرف عليهم بجناحيها والصفاء الكامل يشملهم بظله الوارف الظليل شأن كل زواج في بداياته الأولى، وبالأخص حينما يبرز (كيوبيد) في الميدان.. ويمثل دوره الخطير.. ويلعب لعبته المعروفة.. ويقذف بسهامه المشهورة.. على طريقته الخاصة: طريقته التي كلها لباقة؛ وكلها ظرف؛ وكلها إغراء! |
* * * |
بدأ رامز منذ أن ولدت زوج خاله (سهام) طفلها (نعيم) يشعر بالغيوم.. بدأ يلاحظ هذا النفور الظاهر في كل حركة وسكنة من حركات وسكنات تلك الزوج؛ بدأ يشاهد هذا الازدراء الذي أصبحت توجهه إليه في كل اللحظات؛ وعند كل المناسبات؛ بل بدأ رامز يحسُّ بهذا البغض الشديد الذي يحمله نحوه قلب تلك المرأة؛ وكانت صدمة الألم في نفسه تجاه هذا الانقلاب بالغة منتهاها العنيف.. |
أما خاله فقد كان بنجوةٍ عن كل هذا؛ لأن ما كانت تتظاهر به زوجه أمامه؛ وما كانت تتصنعه من حب زائف؛ وعطف مكذوب نحو رامز الوديع؛ وما كان يخفيه رامز عن خاله من مظاهر الانقلاب الجديد وقد كان يعاني من جرائه كل عسف وقسوة وألم؛ كان كل ذلك حائلاً بين خاله وبين أن يعلم الأمر الواقع؛ وأن يواجه الحقيقة المرة؛ وأن يكتشف السر الجديد!! |
استمرت المرأة فيما بدأت فيه من ظلم وعسف وكَيْد؛ واستمر رامز فيما آلى نفسه عليه من صبر وجلد وكتمان؛ وإذن فقد استمر رب الأسرة وكبيرها.. استمر خال رامز فيما كان عليه من جهل بحقيقة ما هو كائن في داره.. تلك التي كانت فيما مضى وكراً للسعادة؛ ومرتعاً للصفاء! |
كان رامز قد دخل في العقد الثاني من حياته؛ وكان قد عرف في مدرسته الابتدائية بأنه من أوائل الممتازين؛ ولذلك كان مدير مدرسته وأساتذته جميعاً يشملونه برعايتهم الخاصة؛ وينظرون إليه بغير النظر الذي ينظرون به إلى سواه من التلاميذ العاديين.. وليس غريباً فقد ورث رامز عن أبويه كل ما كان يبدو عليه من مخايل النجابة والذكاء.. وكل ما كانت تتسم به سيرته من سمات الاستقامة والاتزان؛ ورث عن أمه حساسيتها وحزمها وذكاءها.. وورث عن أبيه متانة خلقه؛ وصبره وجلده؛ ونظرته الواقعية للأشياء. |
وأراد الله أن يفجع هذا الفتى بخاله ومربيه الوحيد؛ لقد مات أمين بك على أثر مرض قصير؛ وإذن فقد خلا الجو الآن.. وإذن فقد آن أن يشف ثوب الرياء عما تحته؛ وأن تنتزع سهام من يدها ذلك القفاز الحريري الناعم الذي ظلت تخدع به زوجها طيلة هذه السنين، حيث أعلنت سهام عداءها الصريح لرامز؛ وأخذت تعامله لا باعتباره فرداً من أفراد هذه الأسرة له ما لها وعليه ما عليها؛ بل كانت معاملتها له أبلغ في الشدة والعنف مما لو كان خادماً للأسرة وخادماً حقيراً منبوذاً. |
ويأبى رامز أن يتحمل كل هذا الشقاء. وبعبارة أصح كل هذا الضيم؛ وكل هذا الهوان؛ فالشقاء يهون أمره؛ والشقاء يمكن احتماله.. ولكن الضيم والهوان أمران لا يقيم عليهما إلاّ الأذلاء! |
غادر رامز دار خاله إذن؛ وصادف ذلك هوى في فؤاد سهام؛ بل لقد فكر هذا الفتى البائس في أن يغادر حتى بلده الذي لم يعرف حتى ذلك اليوم غير أرضه أرضاً؛ وغير سمائه سماء؛ ولكن مدرسة رامز تأبى ذلك.. مدرسة رامز تأبى أن يغادرها هذا الطالب النجيب؛ فما هو إلاّ أن قررت هيئتها الإدارية قبوله في القسم الداخلي للمدرسة مجاناً وبصورة استثنائية. |
وتمر السنون سراعاً؛ فما هو إلاَّ أن يفوز رامز بالشهادة الثانوية؛ وهي الشهادة النهائية للمدرسة؛ وكان أول الناجحين جميعاً.. وعملاً بالنظام الداخلي لمدرسته فيما يختص بأوائل الناجحين، فقد ابتعث رامز إلى إحدى كليات الخارج لإكمال الدراسة العالية والتخصص في فن من الفنون. وبعد سنوات قضاها رامز في دراسة الطب فاز بالشهادة النهائية.. وما هو إلاّ أن يعود إلى وطنه مرفوع الرأس؛ مثلج الفؤاد؛ مرتاح الضمير؛ تبسم له الحياة؛ ويرمقه المستقبل المجيد! |
أصبح صيت الدكتور رامز ذائعاً في بلدة.. وهي خلاف بلدته الأولى التي نشأ بها.. واشتهر بعطفه على مرضاه. وبخاصة الطبقات الفقيرة البائسة من هؤلاء؛ فقد كان يحوطهم بعنايته؛ وكان يذهب بنفسه لمعالجة من لم يستطع الوصول إلى عيادته منهم؛ يذهب إلى دورهم معالجاً ومواسياً؛ ومستفسراً؛ يذهب إلى دورهم ليقوم -كما كان يرى ذلك- بواجبه نحوهم كطبيب وكإنسان يقوم بواجبه كطبيب من ناحية الفحص والعلاج؛ ويقوم بواجبه كإنسان من ناحية أخرى؛ ناحية أعمق؛ وهي ناحية المواساة الإنسانية؛ وكثيراً ما كانت تصاحب هذه المواساة الإنسانية مواساة من نوع آخر.. |
* * * |
في ليلة من هذه الليالي الكثيرة التي تمر على رامز الطبيب، كانت الساعة الثامنة عربية؛ والناس جميعاً نائمون، جاء غلام إلى دار الدكتور يدعوه بحرارة وألم ويأس، إلى الذهاب معه لمعالجة أمه التي أصبحت منذ يومين تعاني أمر الأهوال من اشتداد وطأة الداء.. ذهب الدكتور رامز مسرعاً مع الغلام الحزين فإذا هو في حارة ضيقة مظلمة.. وإذا هو في وسط دار صغيرة متهدمة أقرب إلى أن تسمى كوخاً من الأكواخ.. وإذا هو أمام المريضة البائسة يفحصها ويعاينها.. |
يا للموقف الرهيب! |
لقد وقف الدكتور رامز وجهاً لوجه أمام تلك التي لم تخنه ذاكرته بعد عما كانت تمثله نحوه من الأدوار.. رأى الدكتور رامز نفسه أمام زوج خاله سهام تلك التي لم تحسن إليه قط في يوم واحد من أيامها الماضية؛ بل كانت مواقفها كلها سلسلة إساءات إليه حينما كانت تتحكم في دار خاله أمين بك كما يتحكم الدكتاتور! |
رأى رامز نفسه أمام تلك المرأة الجبارة.. وما كان يدور في خلده قط أنه سيقف منها هذا الموقف؛ بل ما كان يظن أن هذه المرأة التي أساءت إليه واضطرته إلى الفرار من دار خاله ومربيه؛ ما كان يظن أنها تعيش الآن في نفس البلد الذي يعيش فيه؛ أنها قد انتهت إلى هذه الحال من البؤس والشقاء. |
في هذه اللحظة توالت في ذهن رامز كل الذكريات؛ وتجمعت في وسط حشاه كل إحساسات الألم الشديد؛ وكل عواطف الإحسان النبيل.. حقاً لقد تألم رامز أمام هذا المنظر الأليم؛ وحقاً لقد تألم رامز لهذه النهاية المريرة التي وصلت إليها سهام؛ وقد كانت هي يوم أن كان هو في عداد البائسين؛ لا تعرف ما هو البؤس؛ ولا تعلم ما هو الشقاء! |
ولم يستطع الطب أن يصنع شيئاً؛ فقد كانت المريضة على فراش الاحتضار؛ وكانت تعاني سكرات الموت في تلك الدقائق التي أبى القدر إلاّ أن يكون رامز حاضراً فيها.. وما هي إلاّ ثوانٍ معدودات حتى لفظت سهام نفسها الأخير. |
* * * |
بعد ست سنوات من هذا التاريخ، كان الطالب نعيم نجل أمين بك وأحد أفراد أسرة الدكتور رامز، يطلب العلم في إحدى كليات الطب الشهيرة على نفقة عميد الأسرة طبعاً؛ وكانت نفس الكلية التي تلقى دروسه فيها ابن عمته رامز؛ ذلك الطبيب العصامي العظيم؛ والذي كانت شهرته ملأت سائر أنحاء البلدة؛ وأصبح اسمه على كل لسان! |
|