((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور عاصم حمدان علي))
|
الرائد حمزة شحاتة.. نسيج وحده شعراً وفكراً ونقداً |
لن يكون في مقدور أي باحث يتناول سيرة الرائد والشاعر الكبير الأستاذ حمزة شحاتة -رحمه الله- أن يفصل بين منتجه الإبداعي وأسلوب حياته التي عاشها، فثمة خلال كثيرة في حياته تبرز بصورة جلية في سياق ما أنتجه من أدب توزّع بين الشعر والنقد والكتابات الأخرى المتفرقة.. غير أننا نلحظ بوضوح وجلاء ولعه الكبير بالشعر، بوصفه الجنس الأدبي الذي كان محل الحفاوة والاهتمام في الفترة التي عاشها، وقد أشرنا إلى ذلك باستفاضة وإيضاح في كتابنا الموسوم "قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري"، وتناولنا فيه بالبحث والتمحيص المقدمة الرائعة التي كتبها مقدماً لكتاب الأستاذ عبد السلام بن طاهر الساسي "شعراء الحجاز في العصر الحديث". ففي ثنايا تلك المقدمة تبرز رؤى شحاتة وموقفه من الشعر، فقد ربط في تلك المقدمة بين الشعر والفنون الإبداعية الأخرى من نثر ونحت وخطابة، بعبارات موجزة ذات دلالات عميقة ومؤثرة، وهو يعقد جملة من المقارنات بين الشعر وفنون القول العديدة، منحازاً بشكل كبير إلى الشعر على حساب الفنون الأخرى، مرتئياً أن الشعر هو الجنس الأدبي الوحيد القادر على التعبير عن خلجات النفوس أصدق تعبير بما يقدمه من صور لماحة، بما يشي بأنه كان ميّالاً لمدرسة الطبع في الشعر العربي.. وذلك يتجلّى في رأيه المضمن طي مقدمته الشهيرة والذي يقول فيه: "فالشاعر -إذن- صاحب صناعة فنية مثالية، رفيعة، تتصرف في مادة البناء الأُولى في أبنيتها، وصورها، تصرّفاً يتيح لها تعبيراً أغنى وأروع وأحفل بالفكر والإشارة، والرمز والمعنى، والمضمون، أو تصرّفاً أوسع مدىً من تصرّف المتحدث والخطيب والكاتب..". |
إن هذا القول ينبئ عن فهم عميق لماهية الشعر، مع انحياز نبيل له؛ فالإشارة إلى مادة البناء الأولى تحيل قارئها إلى صلصال اللغة المتاح لبناء جسد القصيدة وفق الرؤى والأخيلة والصور التي يبدع فيها الشاعر، لتبقى الجودة من ثمّ قرينة بملكة الشاعر المعني، وقدرته على الاستفادة من هذه المادة الأولى في بناء معماره الشعري الذي يميزه بفرادة عن غيره من الشعراء الآخرين، وعند هذا يكون التفاضل، والنظر إلى المنتج الشعري.. |
وإذا ما ذهبنا بعيداً في استقصاء ولع الأستاذ حمزة شحاتة بالشعر، فإننا سنجد ذلك ماثلاً أيضاً في كثير من عباراته التي أوردها طي مقالاته؛ خذ مثلاً قوله: "والشعر على ما يبدو أنه الصحيح، كلاماً وصناعة وفنًّا، ولكنه في كل صورة من هذه الصور، الترف الحافل بمعاني القدرة المعبرة وذخائرها النفيسة، في أبهى الحُلل والأثواب، حتى بساطته، وهي من أسمى صفاته وغاياته، إنما تكون ترف البساطة الغنية بالمذخورات، لا فقرها العادي أو المتكلف..". |
وفي ضوء هذه الرؤية تتجلى رؤية شحاتة للشعر، وسمته المماثل في البساطة الغنية بالمذخورات، والمجانبة لفقر العادي والمتكلف.. وهذا ما يحيلنا مباشرة إلى الاجتهادات الكثيرة التي حاولت وضع توصيف جامع للشعر، ومن بينها الإشارة إلى أنه القدرة على قول أمر غير عادي بلغة اعتيادية متداولة وميسورة، بحيث ينأى عن الاستغراق والانغلاق اللفظي القاموسي، بحيث تصبح الفكرة والرؤية والصورة الفارقة المميزة هي مدار البحث، وليس المفردة المعاظلة الحوشية التي يتخم بها بعض الشعراء قصائدهم، بما يجعل منها مسرحاً لتقليد العبارات الدارسة والمنقرضة، مع فقر واضح في الخيال، وضمور في الرؤية، ومتى كانت القصيدة على هذا النحو من غريب اللغة، وحوشي الألفاظ فإنها ستنأى عن ساحة الشعر، ويكون صاحبها "ناظماً" وليس شاعراً بأي حال من الأحوال، وهو عين ما تجنبه الأستاذ حمزة شحاتة في منتجه الشعري، وعبّر عن ازدرائه له في سجالاته النقدية.. فالمتتبع لرؤى شحاتة النقدية، وبتركيز أكثر في مقدمته المشار إليها، يلحظ بوضوح كذلك ثقافته الواسعة في فنون الأدب وما يتصل بها، وفوق ذلك فإن تلك المقدمة تكشف كذلك عن ولع شحاتة بالمقولات الفلسفية العميقة، والتنظيرات المنطقية السليمة، مسنوداً في ذلك بدراسته في مدرسة الفلاح الشهيرة في مكة المكرمة وجدة، التي كانت تعنى بمثل هذه الدراسات في مقرراتها، ولهذا فقد كان شحاتة يمزج بين الشعر والفكر والمنطق، دون أن تميل كفته ميلاً يفسد قصيدته، فلو أن القصيدة كانت فكراً صرفاً لعزّ على سامعها أن يضعه في ميزان الشعر الرصين الخالد، فالشعر ليس فكراً محضاً، فذاك ميدان آخر تجول فيه اللغة جولاته فيه، وليس الشعر منطقاً صرفاً، فتجاوزات الخيال في الشعر الأصيل تجافي المنطق بما يستعذب من صور يتجاوز فيها الخيال النواميس المنطقية المعروفة، ولا يجد السامع لها في ذلك حرجاً أو استنكاراً، بل هي عنده من حميد القول ومستطابه.. ولكن القصيدة مزيج من كل ذلك في قالب متزن الخلطة، ولا يقدر على ذلك إلاّ الحذّاق من الشعراء، ذوي المكنة والدربة التي لا يمكن الوصول إليها بالمران وحده، وإنما تستند أول ما تستند إلى "الملكة" المودعة في خاطر صاحبها، وهنا يكون الفرق بين الشاعر المطبوع، والناظم المتدرب. ولا شك أن حمزة شحاتة لمتابع مسيرته وإنتاجه الأدبي والشعري له مكان الصدارة في قائمة الشعراء المطبوعين؛ فهو نسيج وحده في هذا المضمار، استطاع بكل التفرد أن يهرب بشعره من قبضة تأثيرات المدارس الشعرية التي كانت تلقي بظلالها على تلك الفترة من النهضة الأدبية، فقليل من الشعراء استطاع الفكاك من شراك مدرسة الديوان، أو المهجر، بكل ما لهما من سطوة وعنفوان.. لكن شحاتة استطاع ذلك، وقدّم نموذجاً لشاعر يعتد بنهجه، وينحاز إلى طريقته، غير مهموم بما يشل جموع الناس، وكأني به يرفض جملة "ثقافة القطيع" -إن صحت هذه العبارة في هذا المقام- وهذا الموقف تعبّر عنه كلماته أصدق تعبير إذ يقول: "وربّ سائل يسألني عن المدرسة الأدبية التي أنتمي إليها، وفي هذا المجال أحب أن أوضح أنني قرأت الكثير، كل شيء وصل إلى يدي.. تأثرت وانفعلت بكل ما كان له صدى في نفسي وفكري.. ولم ألتزم منهجاً معيّناً ففاتني التخصص في أي شيء.. كما فاتني الاحتراف، وربما كان أثر من آثاري الأدبية يعكس لوناً من ألوان المدارس الأدبية والفكرية في شكل من أشكالها، ولكن هذا لا يعتبر انتماءً، لأن الانتماء الموسع اعتباري من طراز اللامنتمي.. ربما كان الكلام عن نفسي بهذه الصورة يعتبر تكبيراً لصورة بالغة الصغر، بالنسبة لي إنه ليست لي آثار مجموعة تحدد وجودي الأدبي..". |
ولئن كان الفكر والمنطق والفلسفة قد ظهرت في شعر شحاتة بصورة واضحة، فإنه يربط كذلك بين الشعر والغناء، بل يرى أن بواعث الشعر هي بواعث الغناء ذاتها، مفرقاً في ذلك بين غناء يُقصد من ورائه تحقيق المتعة الشخصية المحضة، وبين الغناء للحياة، ويكشف شحاتة عن هذا التفريق بقوله: "وباعث الغناء يقر في نفس كل إنسان -تقريباً- فكان إنسان يغنّي لنفسه بكلام ذي معنى بصنعه ويستعيره، أو يدندن بشيء يقل أو ينعدم نصيب المعنى وأثره فيه، وما في ذلك ضير ولا به غرابة، فهو طبيعي بل ضروري في كثير من الأحوال، فلو سأل سائل لماذا يُغنّي الإنسان لنفسه، لما كان هذا السؤال إنكاراً أو اعتراضاً، وإنما يكون تقصّياً للأسباب والبواعث والعلل..".. ومصداق هذه الرؤية "الشحاتية" الرابطة بين الفن الشعري وفن الغناء والإنشاد أننا نجد في أدب أي أمة من الأمم رابطاً محكماً بين هذه الأجناس والفنون. وفي ضوء هذه الإشارات المضيئة لفكر ورؤى الرائد الأديب الشاعر حمزة شحاتة، فإن من الإنصاف القول بأنه كان أديباً وشاعراً يتميز بعمق الثقافة، وبعد المرمى في القول، متسع الأفق، مالكاً لناصية القول بكل فنونه، استطاع أن يدمج دمجاً فلسفيًّا بين جميع عناصر الصورة التي يقتضيها الإبداع الشعري، وزيّن كل ذلك بحسن ديباجة، وروعة لفظ، واعتداد بنهجه، ميّزه وأفرد إبداعه عن التأثر بالآخرين، فكان نسيج وحده شعراً وفكراً وإبداعاً ونقداً.. |
ولئن كانت الساحة في زمن العوّاد قد تفرّقت في بحثها عن مرجعية للريادة في الأدب الحديث، حيث هناك من نسبها إلى الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة، فإن تجربة الشاعر الكبير حمزة شحاتة كانت حرية بأن تعطيه القدر من النسبة؛ فمشروعه الأدبي يمثّل ظاهرة في تاريخنا الأدبي، قدّم أدباً حديثاً بكل معاني الحداثة والتجديد، وفق رؤى راسخة، ونظر ثاقب. |
وفي خاتمة هذا الإيجاز في سيرة الشاعر الكبير والأديب الرائد حمزة شحاتة، لا بد من إشارة إلى معاركه الأدبية الكبيرة التي خاضها بقلمه السيّال؛ فمن أشهر تلك المعارك ما دار بينه وبين الأستاذ الرائد محمد حسن عواد -رحمه الله- والتي لم تخلُ من مخاشنات لفظية تجاوزت في بعض فصولها إلى التجريح الشخصي، وهو الأمر الذي اعتذر عنه شحاتة في ما بعد.. ومهما كان الموقف من تلك المعارك والمشاحنات إلاّ أن في اعتذار شحاتة ما يوجب الاحترام وهو يفصح عن ذلك قائلاً: "إن المعارك الأدبية التي خصها، كما سمّاها البعض معارك، لم تكن في رأيي سوى مشاجرات تغلب عليها صبيانية الفكر قبل أن يذبل، وكانت أسبابها في غاية التفاهة، وكذلك موضوعاتها، ولأنني مجرد من الذكاء، كانت تفرض على المثقفين في صورة دفاع عن حرماتهم الأدبية..".. |
ما أحوجنا إلى مثل هذه الروح الطيبة في نقد الذات في ساحتنا اليوم، ورحم الله روّادنا الأدباء والمبدعين جميعاً فقد تركوا لنا إرثاً أدبياً خليقاً بالاحتفاء، وقميناً بالدراسة، وحفياً بالاعتزاز والمفاخرة. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
عريف الحفل: شكراً للأستاذ الدكتور عاصم حمدان علي وقد قدم لنا قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري. |
نستمع الآن إلى كلمة من سعادة الأستاذ عبد الله خياط فليتفضل مشكوراً. |
|