شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة معالي الأستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد))
بسم الله الرحمن الرحيم. حق علي، في بداية هذا الجو الذي غمرني بما أعتقد أني لا أستحقه -وأنا ممن يتبعون قلبهم أحياناً أكثر مما يتبعون عقلهم، والناس تحتاج إلى تواصل إنساني أخوي ودود قبل أن تتبادل الحوار- أن أقدم لهذا اللقاء بشيء من الود، وهذا مما تعلمته في عالم المحاماة لكي تستقيم العلاقة مع هيئة المحكمة، ويمتد الحوار غير مشوب بما لا نعلمه من الأسباب: دخلت مرة قاعة محكمة بالكويت، وكان القاضي كويتياً فاضلاً، ذكياً جداً، وأنا درست له في الكلية، لكنها كانت المرة الأولى التي أترافع فيها أمامه، وكان الوضع يبدو معقداً قليلاً، فوجدته على غير ما أعرفه عن طبيعته، حاداً جداً في مخاطبة جمع المحامين الموجودين، وزاد الطينة بلة -كما في تعبيراتنا المصرية- أن الذي كان يترافع ضدي ممثلاً لحكومة الكويت، هو أحد أبنائي الذين درست لهم أيضاً في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، وزكيته حتى لحكومة الكويت لأنه متميز جداً مهنياً وقانونياً، فبدأ مرافعته قبل أن أتكلم، وكانوا يطعنون في موقف معين، وقال كلمة لا لزوم لها، قال: أنا أطلب العفو من أستاذي لأني سأخالفه، فقد خشيت أن تضيع القضية، فقلت له: لا، العفو يطلب من المنصة، ولا يطلب من أحد قط، وأنت هنا تمثل جهة وأنا أمثل جهة، وبهذين الأمرين تتكامل الصورة لدى المحكمة. فأحدث هذا راحة عند القاضي، وانفرجت أساريره، واستمع إلينا.. وأنا هنا أطمئن المحكمة خصوصاً في مصر، حيث القضايا كثيرة جداً، وأقول لهم: مرافعتي لن تزيد عن خمس عشر دقيقة بل قد تنقص، لأن القاضي مطلع على القضية، إنما يبقى أن أنبه إلى أمور أخشى أن تفوته، أو أن يغلبني عليها عنده مرافعة الطرف الآخر، فأنا في كل مناسبة أقدم فيها للناس -والناس منهم من قرأ لي ومنهم من لم يقرأ، ومنهم من تعرّف بي ومنهم من لا يعرفني- أريد دائماً حتى يقيم السامع أو المشاهد حديثي، أن أقول له من أنا.. أنا أقف أحيانا من نفسي موقفاً نقدياً، لماذا أنا مشغول بقضية معينة؟ هل في حياتي شيء خاص دعاني إلى هذا؟ فبنتيجة هذا البحث، في سجلي بيني وبين نفسي، اكتشفت أني في مرحلة مبكرة جداً من حياتي عشقت أمرين: الأمر الأول الحرية؛ فأنا أضيق بأي قيد عليها مهما كانت بواعثه، لذلك لم أنخرط قط في أي تنظيم، حتى وأنا في المدرسة الثانوية، كانت هنالك أحزاب سياسية، وكان بها إخوان مسلمون، وقد دعوني لأن أكون عضواً مشاركاً، فقلت لهم: "أرفض أن أكون برعماً ضامراً في إبط حزب أو جمعية، فاغفروا لي هذا، وما وراء ذلك ندخل في حوار كما تحبون". ظل هذا الأمر يلازمني، الأمر الأول: الاعتقاد في الحرية بميل قلبي لها، ثم بعد أن درست كثيراً آمنت بأنها مدخل لخير كبير؛ فالحرية أشبهها برب أسرة له ذرية عديدة، إذا دخل رب الأسرة دخلت معه سلسلة من الفضائل: الصراحة، الشجاعة، المسؤولية.. أما إذا خرجت الحرية من باب هرولت في إثره كل هذه الحقوق وكل هذه الفضائل، وبالتالي يخطئ خطأً كبيراً من لا يفهم جيداً تداعيات الحرية، وإلا ألم نسمع بكلمات: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ اثنان لا يصلحان لبناء النهضة: مَن في قلبه عبودية لأحد أو لشيء، ومَن في قلبه وعقله خوف من أحد أو من شيء، أو المكتئب الحزين الذي يفيء على المجتمع من حوله كآبة وحزناً. إن الداعية الناجح لأي فكرة، ينبغي أن يتمثل بهذه الأمور: أن يؤمن بالحرية للآخرين وأن يمارسها بنفسه مع استعداد لدفع ثمنها، وأيضاً أن يكون ودوداً مع الناس؛ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: 159) وأخيراً أن يكون عارفاً بالعصر؛ فأنت -أردت أو لم ترد- لا تنزل النهر الواحد مرتين أبداً على قول الفلاسفة اليونانيين -لأن المياه تحركت بين الغطس الأول والغطس الثاني، فعلى الإنسان أن يعي في كل لحظة أن الدنيا من حوله تتغير وتتبدل، وأن من مسؤولياته أن يتعرف إلى الجديد وأن يتعامل معه، ومن فاته ذلك فليعلم علم اليقين أن الخريطة القديمة للكون لم تعد موجودة، وأن هنالك خرائط تتجدد وعليه أن يجدد رؤيته.
القضية الثانية الأكثر خصوصية -وهنا أتوجه بشكر مركب شخصي وموضوعي لفضيلة الأخ الحاج العظيم الدكتور عبد المقصود خوجه، لأنه استخرج مما كتبت أهم ما أعتز به- هي هذه المسألة: في حياتنا الثقافية قضايا كثيرة لكنها معلقة، حولها كلام كثير لكن أهلها لا يحسمونها أبداً: تقرأ في القرن الرابع الهجري تجد الكلام نفسه معاداً في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجريين. إذن هنالك خطأ ما في الموضوع لأن أمة تجمد على هذا النحو تحتاج إلى علاج. فمن القضايا المعلقة ما أسميه أنا -لكي أبسط المسائل- فساد الخطاب السياسي وفساد الخطاب الديني.. فساد لا يقتصر على الخطاب، لأن الخطاب في نهاية المطاف وسيلة اتصال، تنقل فكرك وتأخذ من فكر الآخرين، والأفكار تتكامل وتتلاحق، وتصطدم أحياناً وتتجمع أحياناً أخرى، إنما القضية في المفاهيم نفسها؛ فرز المفاهيم يؤدي إلى تقرير موضوعي هادئ أن خطابنا السياسي يحتاج إلى إعادة نظر، من ألفه إلى يائه، وأن خطابنا الديني أشد حاجة إلى هذا الأمر، لأن في الحوار الديني من السهل على خصمك أن يسكتك قبل أن تبدأ الكلام، بأن يحيل إليك تهمة الفسق، الفجور، الإضرار بالأمة، الخروج عن ثوابت الملة، فتجد نفسك محاصراً في قفص صغير، ولا يمكنك أحياناً من أن تقارع الحجة بالحجة. إذن الخطاب الديني له محاذير كثيرة، لأننا أمة أمية، نسبة الأمية في العالم العربي كبيرة جداً لذا فغسيل الأدمغة وارد تماماً، وهذه قضية كبيرة جداً، وهي مستقبل النظام العالمي في موقفه من مسألة حرية التعبير، وضرورة وضع ضوابط تحمينا من غسيل الأدمغة، والناس تحوقل وتذكر الله إزاء كلمات كلها سم وكلها ضرر، فالمحافظة على الملكة النقدية هي إذاً مدخل الخروج من عنق الزجاجة. إذاً لدينا قضيتان، أقول كلمات قليلة في كل منهما: ما هي مظاهر الفساد في الخطاب السياسي السائد؟ كلنا نعلم أن التعميمي صحته نسبية، ليست هناك قضية فيها تعميم، مثل أن تقول: كل العلماء هكذا، كل الخطباء هكذا، كل الساسة كذا.. لا، إن فيهم أناس صالحون، وفيهم من أخطأ، لكننا نتحدث عما نسميه الغالب الأكثر اعتباراً في العلوم كلها: اعتبار العام القطعي، وأن النادر لا حكم له. الخطاب السياسي يحتاج إلى ثلاثة عناصر لا تزال غائبة: العنصر الأول توفير الجماهير، كثرة الناس في المشاركة، بشكل أو آخر، بآلية أو أخرى، في اتخاذ القرارات التي تخص المجموعة.. هذه الوسائل تطورت. في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، كانت الوسيلة بدائية، ونحن لدينا في القانون ما نسميه فرقاً بين العلم والصياغة؛ أي قاعدة قانونية سواء أكانت في قانون وضعي أو في الشريعة الإسلامية، لها محتوى: هذا المحتوى هو العلم، أو الجوهر المضموني للقاعدة. أما صياغتها في عبارة أو في نص، فهذه عملية تابعة وخادمة للمحتوى ولذلك، ألّف في فرنسا كتاب مشهور اسمه "العلم والصياغة في القانون الفرنسي".. هذا التمييز ضروري جداً لفهم الشريعة وللتعامل معها في هذا الزمان، إذن القضية الأولى هي قضية المشاركة السياسية الحرة، بعيداً عن كل ترهيب وعن كل ترغيب وعن كل تزوير، لأن لدينا صوراً كثيرة توصف بأنها ديمقراطية، ومواعيد للانتخابات، لكن إذا تأملت في الصورة، تجدها صورة بغير مضمون، وفي كل الشرائع، فإن العبرة بالمقاصد والمعني، وليست بالألفاظ والمباني.. إذن ينبغي توفير المشاركة الحقيقية، والمشاركة لا تعني قيام حرب أهلية، ويؤسفني أن الغرب قد سبقنا في هذا كله سبقاً بعيداً. أنا كنت في لندن وقت إجراء انتخابات معينة، وفاز فيها حزب العمال فوزاً ساحقاً، وكنت أشاهد محطة CNN وقد كانت جديدة نسبياً وقتذاك: تمر الكاميرا على المقار التي جرى فيها الاقتراع، والسؤال الذي يسأل لكل مرشح ناجح من حزب العمال هو عن مدى سعادته بالنتيجة، بلا تنسيق وبغير استثناء واحد، كلهم أجابوا: "نعم لقد سررت على المستوى الشخصي لكن لدي قلق موضوعي شديد، لأن نظامنا يقوم على توازن السلطات، وعلى وجود حكومة قوية ومعارضة قوية، وأنا أخشى أن تصبح المعارضة ضعيفة في المجلس الجديد". هذا هو الفهم الصحيح لدور المعارضة؛ فيما نجد في الوجدان العام لدينا، وفي الخطاب السياسي والصحفي أن المعارضة نقص وفاء ونقص ولاء ونقص وطنية، من قال هذا؟ إلى حدٍ يؤسفني أن أقول إنه في الانتخابات الأخيرة في مصر، وقد جرى فيها ما جرى وأدى إلى فوز الحزب الحاكم بما يزيد عن 90%، فوجئ الذين دبروا التخطيط إذ لم يتصوروا أنه سيأتي بمثل هذه النتيجة، فأرادوا أن يفتعلوا معارضة، إلى حد أن الجرائد حملت العنوان التالي: "الحكومة تبحث عن معارضة"، فاختاروا رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وقد وصفت الأمر في حوار بأنه نكتة سخيفة، يعني تغطية غير مقبولة. ما المانع أن تأتي الحكومة بنسبة 50% أو 56%؟ هنالك أحزاب حكمت وتولت رئاسة الدولة وهي فائزة بـ 52%.. هذا هو النظام، يسمى عندنا في القانون: حق الأغلبية في الحكم أو سلطة الأغلبية، وحقوق الأقلية في المعارضة. هذا هو التوازن. البعد الثاني، لكي لا أطيل عليكم: سيادة القانون. إنه ليست كلمة تقال، إنما معناها أن الأمة كلها حاكمها ومحكومها، يخضعون جميعاً لقاعدة قانونية، وثمة حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها التقطها، لقد تعمدت أن لا أذكر حديث "اطلبوا الحكمة ولو في الصين"، لأنه يوجد قطعاً بين الجالسين متخصصون من أهل الذكر في علوم الحديث، وقد تحدثوا في سند هذا الحديث، فاخترت حديثاً لا خلاف حوله، وتلقته الأمة بالقبول. فإذن أنت نفسياً لا يجوز أن تتردد في الأخذ بما ينفع ولو كان مصدره دولة كافرة.. ألم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام وبعد الوحي في دار بن جدعان حلفاً، فقال: ما أحب إن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت، وهو حلف الفضول تناصر على الخير وتساند في نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، فلم يجد حرجاً. هل تتصور أن أي نظاماً يتبنى نظاماً كان سائداً في العهد البائد؟ إنما هذا وحي يوحى وعدل يراد وما أرسل الرسول إلا رحمة للعالمين، فهو يبحث عما ينفع الناس والقاعدة القرآنية كَذَٰلِكَ يَضْربُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ (الرعد: 17) والشرائع كلها وسائل وأدوات لإقامة العدل والرحمة وإفشاء السلام. إذاً، الأول: المشاركة الشعبية، الثاني: سيادة القانون، الثالث: احترام الحقوق والحريات، لأن المواطن إذا ما عاش مقهوراً، مظلوماً مهمشاً، لا يمكن أن يكون له ولاء لمجتمعه وأمته وإن أظهر غير ذلك، ولقد قلت ذات مرة: إن الذي تعامله الدولة معاملة القهر والاستبداد ثم يظل على ولائه الكامل، فإن لديه حالة غفلة وسوف يبعث يوم القيامة في جمهور المغفلين، طالما أنه كانت لديه وسائل للإصلاح.. والإصلاح ليس بالعنف فحسب، الإصلاح بالكلمة -مكتوبة أو مقروءة- وبالجهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غير غلظة. إن استفزاز الأطراف الأخرى، لا هو من أمانة الدعوة، ولا من كياسة السياسة، وهذا ما تعلمناه في علم المناظرة، وعلى فكرة، فإن من العلوم التي هجرت عندنا أدب المناظرة، مع أن فيه كتب لو كتبت بالإبر على أجفان البصر لما كفاها هذا. أدب المناظرة ينص على عدم استفزازك للطرف الآخر، ولقد تعمدت في إحدى المقالات بمجلة العربي -وأظن ذلك قد ضمن في كتاب "حوار لا مواجهة"- أن أضع بين يدي الناس خطابين تبادلهما إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، وفقيه مصر الأشهر الليث بن سعد. الإمام الليث بن سعد أرسل رسالة للإمام مالك يقول فيها: "بلغني أنك تفتي الناس بكذا وكذا وأنا أخالفك في الرأي"، فيبدو أن الإمام مالك تأخر في الجواب على هذه الرسالة، فتوقف الليث بن سعد عن متابعة الأمر، فلما سأله الإمام مالك في ذلك، رد: "خشيت أن تكون استثقلت ما كتبت به إليك، أما والأمر كذلك، فأحب أن تعلم أن ما حملني للكتابة إليك سوى المحبة لك والحرص عليك، وخوفي على الناس من ذهاب أمثالك من العلماء"، ويقول له: "هذا مقامك عندي، فاستيقنه"، ثم يختم بقوله: "وإن كانت لك أو لأحد من أصدقائك حاجة فحدثني بها وسأكون أسعد الناس بأدائها لك"، وامتد الحوار بعدها بصراحة وأدب حوار. في هذه الأيام تجد جميع المقالات كلها تهاجم، وتغتال، وتتهم بكل التهم، من المقاتل إذن؟ ذات مرة، كان لأستاذنا الشيخ أبو زهرة رأي فقهي غريب بعض الشيء، كان به مزاح وطرافة وعلم غزير جداً، وكان يتعلق بعقوبة المرتد. كان له رأي انفرد به، ولم يعد منفرداً بعد ذلك، فمازحته قائلاً: لماذا لا تقول فضيلتك بذلك؟ فردّ ممازحاً: فلتقلها أنت ولننظر ماذا يجري لك، لأن الجو غير مهيأ، فلا بد أن نطمئن العلماء، إنهم لا يلبسون خوذاً للدخول إلى معركة.. لا بد أن تحافظ الناس على كرامتها، خصوصاً إذا كان الطرف الآخر بيده صحيفة تنتج خمسة ملايين عدد كل يوم، يقرؤها خمسة ملايين، وأنا لا أملك إلا رسالة أكتبها إلى رئيس التحرير ولا تسلم من تغييره لها، هذا ليس حواراً، "هذا استبداد بالرأي". إذن هذه القضايا الثلاث، في الفقه السياسي، المشاركة السياسية، سيادة القانون، احترام الحقوق والحريات، وكثيراً ما أشعر بالحرج، حينما يأتي زائرون من المنظمات الدولية ويتحدثون عن حقوق الإنسان، لأنني مصمم على أن الأمة الإسلامية ترى ولا تكاد ترى، فهم يدرون بأشياء عن مجتمعاتنا لا نعرفها نحن، فلا نستطيع تحسين الصورة إلا إذا حسنّا الأصل. أما الخطاب الديني، فالأمر فيه أشد خطورة ولكنه أيسر علاجاً: أن يكف العلماء عن مجاملة العلماء، لأن الحقيقة ستظل مخفية من دون ذلك.. هذا يجامل ذاك والأمة كلها تضار، القضية الأولى هي الخطأ المنهجي الذي وقعت فيه الأمة مبكراً: القضية التي تفضل أستاذنا الكريم وذكرها في أول الحديث: قضية العقل والنقل. لقد استقر في وجدان المسلم والعربي أن هناك تصادماً وأن عليه أن يختار: أهو من أهل العقل أم النقل؟ فإن كان من أهل العقل، يطالبه مطالبون بأن يستخف بالأديان السماوية، وبالقيم الروحية، وبكل أمر ورد في كتب قديمة، أما إن كان من أهل النقل، فعليه رفض العقلاء جملة وتفصيلاً، سواء أكانوا بيننا أم في بلاد أخرى. لذا فهو في أزمة: كيف يوفق بين الاثنين؟ وينزعج جداً إذا مجد أحدهم العلم، بينما الإسلام يأمر بعكس هذا، قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ (الأنعام: 11) وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (الذاريات: 21)، الحكمة ضالة المؤمن، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تدعو إلى الله عن طريق العقل، ولنذكر أن الله تعالى أسجد الملائكة لآدم وليس فقط للمسلمين، لأن الله أودع في هذا المخلوق عقلاً وإرادة تختار، وما دام أوتي الأمرين معاً، بدأت مسؤوليته، بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (القيامة: 14-15)، وموقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قبض ابنه إبراهيم، وتصادف أن تعاصر هذا مع خسوف القمر أو كسوف الشمس، لا أذكر، والناس قالوا: لقد كسفت الشمس لموت إبراهيم، يقول رواة الحديث: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، غضباناً كأن فقئ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده. فهل هناك عقل أكمل من هذا؟ لقد قمت بإحصائية تقريبية للمرات التي ذكر فيها العقل والمرات التي ذكر فيها النقل، فوجدت العقل مرة يشار إليه بالعقل، مرة بـ (يعقلون)، يفهمون، يفقهون، إلى آخره، لماذا؟ لأن العقل نعمة الله عليك، والنقل رحمة الله بك؛ قال لك: هنالك قضايا معقدة، سأوجد لك فيها حلاً وأنت أكمل الباقي. هذا دور النقل، ولذلك قال علماء الأصول: الاجتهاد مفروض، لأن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، ولذلك يعجبني في الفقه المالكي نظام الأحجية، يقول: سألت أستاذي مالكاً: أرأيت لو كان لديه كذا أو كذا؟ ولقد مررت بتجربة معاصرة تبين أهمية هذا المنهج: كنا في أكاديمية الرباط، وكان معنا عالم من موريتانيا، قليل الحديث، لا تستطيع سبر غوره ومعرفة مدى علمه، وكنت منشغلاً بقضية تتعلق بالغزو العراقي للكويت، كانت أسرة الخرافي قد التزموا ببناء مطار في جزر المالديف، وجمعوا كل الأدوات والآلات والمواد الخام في ميناء الشويخ، ثم جاء الغزو العراقي، فنُهب هذا كله وسُلب، وكان مدير المشروع مصرياً، فذهب إلى الإمارات وأرسل خطاباً إلى جزر المالديف يطمئنهم على تنفيذ العقد بعد زوال هذه الغمة.. المهم نفذوا العقد، وبني المطار، وصاروا يلحون على جزر المالديف بضرورة التعويض عن ما هلك، ولا يتلقون رداً، فرفعت دعوة تحكيمية، وطلب مني تقديم رأي فيها: هل حكومة جزر المالديف ملتزمة بدفع تعويض أم لا؟ فالمحامون عن جزر المالديف كانوا لبنانيين مسيحيين، لم ينصروا شركة الخرافي، فكنا نتناول العشاء في الرباط ومعي الأستاذ عيديد من موريتانيا، فقلت له: يا مولانا، لدي قضية كذا وكذا فهل هناك في الفقه الإسلامي ما يقابل عقد المقاولة المعروف؟ وقبل أن أكمل قال لي: أنا طريقتي في الفتوى أنه إذا جاءتني أرد بأبيات من الشعر أضع فيه الأمر، ولذلك أنا عندي بخط يده، فتوى وآخرها: "وارجع إلى الجزء الخامس من مالك". فرجعت أنا للمدونة، الجزء الخامس، فوجدت أنه ذكر الآجر والجص، بمعنى وجدت عقد المقاولة، عرفه العرب والمسلمون. أريد أن أقول بأن الحكمة ضالة المؤمن في العملية التشريعية، وتطبيق الشريعة.. ومما تصادف، أن من أحسن من كتب في هذا الموضوع، ابن القيم الجوزية، وهو حنبلي، ومن عنايته بما يقول -وأنا أزعم، وأنا دارس للقانون المقارن- فإني لم أر في فقه آخر دقة ولا إحكاماً، مثلما وجدته عنده، وسأقوله لكم بسرعة: كتب باباً مرتين؛ مرة في كتاب الطرق الحكمية، ومرة في كتاب السياسة الشرعية، اسمه: باب في المصلحة، يبدأه: "هذا مقام صعب ومعترك ضنك، وهو مذلة أقدام ومضلة أفهام، فرّط فيه أقوام، فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، فسدّوا على أنفسهم بذلك وعلى الناس طرقاً كثيرة من طرق الحق والخير، ولعمر الله إنها لم تناف الشريعة وإنما نافت ما فهمه هؤلاء من الشريعة"، ويتجاسر ويقول: "والذي أحدث لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الحق ومعرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى الناس أن حياتهم لا تستقيم إلا بشيء وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضاً، وأعرض بعضهم عن جملة الشريعة"، ثم يلخص قائلاً: "أعلم أن الشريعة عدل كلها، وقسط كلها ورحمة كلها، وأن كل مسألة خرجت من العدل إلى الظلم ومن القسط إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل". وجدنا علماء الأصول يقولون: القياس أحياناً يفسد لانخرام العلة؛ يعني: علة الحكم إباحة أو تحريماً أو إيجاباً، انخرمت: لم تتحقق، فالحكم يدور مع علته. نتأمل النبي صلى الله عليه وسلم، حين يسأل عن كذا مسألة في الحج: وكان عدد الحجيج قد بدأ يزداد، فكان يقول: "افعل ولا حرج"، فهو قد بعث ميسراً، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة: 185)، ففي الفكر الديني نريد أن نحارب أموراً.. تصور أنك لكي تقيم الشريعة لا بد من هدم كل ما هو قائم: هذا هديهم.. وما وجدناه صالحاً نأخذ به، بغير حساسية. ثانياً التشديد: لماذا تصعب على الناس. ثالثاً: ثلاثة أرباع الفقه هو تنزيل للنصوص على الوقائع، ولذلك ينبغي التثبت من الوقائع، وأن تقيم الدليل عليها، خصوصاً في مسائل الجريمة، لأن الأصل في الإنسان براءة الذمة، حتى تقيم النيابة العامة الدليل عليه، لننتقل من يقين البراءة إلى يقين الإدانة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادرؤوا ‏‏الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، إلى حد أني قرأت في رواية تحتاج إلى تثبت، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -على شدته- كان إذا أتاه السارق، قال له بصوت عالٍ: هل سرقت؟ ثم يقول له بصوت خافت: قل لا، لأن لا مصلحة لأحد في أن تشيع فرضية فساد المجتمع بكامله. طبعاً الأمر مرهون باختيار الشخص، فمن يريد أن يتطهر يعترف بالسرقة، ولكن المهم أن تطبيق الشريعة يقتضي أن تدخل العصر قبل دخول العصر، ومعرفة ما يجري فيه، ويجب أن يكون المفتي مؤهلاً للفتوى، وإلاّ فإنه سيخطئ وسيدفع الناس إلى ترك جملة الشريعة. الأمر الأخير: العزلة لا تنفع.. لا بد من التواصل مع الدنيا، مع من أحببناه ومن كرهناه وإلا فسيسبقنا غيرنا إليه. من يسمع متحدثاً عربياً هذه الأيام؟ لي قريب شاب -بعد أن درس الهندسة بأمريكا درس القانون- من كثرة ما رأى من اضطهاد المسلمين، حكى لي، قال: إن هناك اثنان من المصريين، كانا يتناوبان، لارتفاع المصاريف الجامعية، على سيارة بيع مثلجات، ففوجئا ذات يوم بوجود خمسين جندياً يشهرون أسلحتهم، فيعتقلونهما ويقيدون أيديهما إلى الأرض، ويصيحون بهما بصوت عال: تحدثا، هل أنتما عرب؟ هل أنتما مسلمين؟ حتى فض بعض المارة هذا النزاع، فتركوهما مقيدين وانصرفوا، ثم أتى الجمهور وفك قيودهما. هنالك حملة ضد الإسلام، وأنا لا أستطيع أن أجلس في منزلي وأطالب من بعد.. سأعطيكم مثلاً آخر: كيف يعمل اليهود في أمريكا؟ هنالك هيئة تدعى هيئة اليهود الأمريكان، ومن أعضائها كيسنجر وآخرون. تابعت منشورات هذه الهيئة، فوجدت أنها تأتي بقائمة بأنصار إسرائيل في الولايات المتحدة وعناوينهم وأرقام تليفوناتهم، وقائمة مماثلة بخصوم إسرائيل، ثم قائمة ثالثة -غريبة- بمن لم يلتزموا بعد بأي من الموقفين، بأرقام تليفوناتهم وعناوينهم، ثم نصائح موجهة: كيف يخاطَب الفريق الأول وكيف يخاطَب الفريق الثاني. هذا العمل، لا تنفع فيه جمعيات إسلامية تأتي مخالفة للعرف يوم العيد فيذبحون الذبائح على الرصيف، والناس ترى منظر الدماء وهي تسيل، فيصفونهم بالتوحش.. لا بد من أن نتعايش مع الواقع، لا كما تحب أن يكون، بل كما هو كائن. أختتم بالقول بأننا نحتاج إلى ثلاثة أمور:
أولاً: نية العمل للإسلام والمسلمين، والنية محلها القلب لكن "إنما الأعمال بالنيات".
ثانياً: بعد هذه النية، تعلم -أنا تعلمت حقوق الإنسان من الأجانب-: كيف تزور سجناً (كنا نزور السجن بحسن نية)، كيف تراقب انتخابات؟ ومما أكرمنا الله به، أننا دربنا فريقاً على مراقبة الانتخابات، ثم أتينا بعشرين معاقاً، ودربناهم على هذا. لا تتصوروا مقدار السعادة وارتفاع المعنويات حينما تحولوا من كونهم موضع إحسان ورثاء إلى فاعلين إيجابيين في المجتمع؛ فالعمل المجتمعي يتطلب مواكبة العصر، إنما أن تمكث في قريتك فقط، يكون الأمر خسارة.
يبقى في النهاية أننا في هذه المرحلة نحتاج إلى إحياء الهمة، لأنه بغير الهمة لا حركة، ودائماً ما أضرب مثلاً بكلمة جميلة جداً للشاعر المسلم محمد إقبال، يتحدث فيها عن النسر، فيقول: إن علو الهمة ينقذ الأمة. ويقول: ألا ترى إلى النسور وهي ملوك الطير، لا تُرى أبداً محلقة في السفوح والوديان، وإنما تُرى عند القمم العالية والذرى الرفيعة. ولذلك حينما ذهبت إلى أمريكا اشتريت صورة نسر مكتوب تحتها: "النسر هو الطير الوحيد الذي لا يحلق في جماعة"، وإنما ترى النسور واحداً في كل مناسبة.. هذا التفرد نتيجة علو الهمة، ومباشرة الأمر بالذات، فنحن نحتاج اليوم إلى من يخرجنا من الانقسام على النفس، وهو جار في مجتمعاتنا. لقد أحسنا الحروب الأهلية ولم نحسن الحروب مع العدو، وأخيراً البهجة.. البهجة.. البهجة، فإن البهجة تملأ النفس علواً وقدرة وحافزاً، وتجنبوا الاكتئاب فإنه يقضي على الطاقة، وإذا قضي على الطاقة، انتقلت الكآبة إلى من حولنا، والخيار لنا، والسلام عليكم ورحمة الله.
عريف الحفل: شكراً لك دكتور أحمد، والحديث لا يمل منه، وجزيتم خيراً في ما قلتم ونتمنى إن شاء الله أن نسعد دائماً بالاستماع إليكم في مناسبات قادمة.
الآن نبدأ الأسئلة من الإخوة والأخوات، ليمتد الحوار أيضاً مع ضيفنا الكريم. قبل أن نبدأ فقرة الأسئلة، نود أن نذكر بمبادئ الاثنينية التي نتمنى إن شاء الله أن يتقيد بها الجميع، وهي عدم التطرق للأمور السياسية والمذهبية وهذه من المبادئ التي نركز عليها دائماً في طرحنا ونقاشنا في منتدى الاثنينية. لنبدأ من قسم السيدات، ونرجو أن يتقيد الجميع بطرح سؤال واحد مختصر لكل سائل وسائلة، تفضلوا قسم السيدات.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :628  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 193 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.