((كلمة سعادة الأستاذ عبد الله عيسى السلامة))
|
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ونبيه وعلى آله وصحبه أجمعين. أشكر سعادة الشيخ الكريم الأستاذ عبد المقصود خوجه الذي أكرمنا جزاه الله خيراً وكرمنا، والذي يبذل من وقته وجهده وماله ما ترون. كما أشكر الإخوان جميعاً -الحضور الكرام- الذين أسعدونا بحضورهم كذلك. والحقيقة ليس لدي الكثير لأقوله عن نفسي إلا بعض المحطات القصيرة الموجزة، يعني هناك نبذ موجزة، والنبذة التي ظهرت أظنها من حيث المبدأ كافية، لكن ربما هناك بعض النبذ الأخرى القصيرة التي يمكن أن تغني إلى حد ما. |
ولدت في قرية قبلية في منطقة عشائر (قبائل)، وينسبوننا إلى قحطان، وطبعاً يسعدني أن ألتقي بنسبي مع الدكتور عبد المحسن في هذه الحالة. ينسبوننا إلى قحطان مناطق قبلية في شرق حلب، مناطق الفرات هناك هي مناطق عربية أصيلة، ولا تزال لغتها أقرب إلى الفصاحة، وتكاد تكون مفرداتها فصيحة كلها أو جلها، إلا ما فيه شيء من العجمة من بعض المفردات التي وردت عن طريق تركيا أو غيرها، فالمنطقة قريبة من تركيا. فبشكل عام منطقة القبائل منطقة فسيحة ولعل هذا ساعدنا قليلاً، أو ساعدني في أن أكتسب شيئاً قليلاً بعد أن درست اللغة العربية، وصرت أجد الكثير من لغة قومي في بطون المعجمات. درست المرحلة الابتدائية على يد مدرس فلسطيني لاجئ رحمة الله عليه، وهي مدرسة خاصة، والحمد لله سبحانه وتعالى الذي أكرمنا، وأكرم أهلي في حينها لأنهم استطاعوا في تلك المرحلة أن ينفقوا علينا، فدرسنا وتابعنا دراستنا في حلب ثم في دمشق. أذكر من أساتذتي في المرحلة الابتدائية هذا الأستاذ وهو الأستاذ الوحيد. وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية أذكر عدداً من كرام الأساتذة الفضلاء الذين درّسوني، وبعضهم الآن يدرّس في الجامعة في السعودية. ممن درسوني الدكتور محمد علي الهاشمي أمد الله في عمره، والأستاذ محمد فاروق البطل أطال الله في عمره كذلك. وبعض الأساتذة الآخرين لا يزالون في حلب، منهم من قضى نحبه ومنهم من تقدمت به السن. وعندما انتقلنا إلى جامعة دمشق كذلك درّسنا نخبة من الأساتذة، مجموعة طيبة من الأساتذة الكرام -الدكاترة- مثل الشيخ سعيد الأفغاني رحمه الله، والأستاذ راتب النفاخ، والأستاذ شكري الفيصل، والأستاذ إحسان النص وكوكبة طيبة، وهناك كذلك من غير التخصص العربي، في العلوم الإسلامية، الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور محمد نديم صالح، نخبة طيبة من الأساتذة الكرام جزاهم الله خيراً. طبعاً هذا ما أستطيع أن أقوله كنبذة قصيرة عن حياتي ودراستي. تخرجت في عام 1968، ثم التحقت بخدمة العلم، وأتاحت لي الظروف أن أقرأ خلالها مادة غزيرة، وهي نقلة في الشعر، لأن طبيعة عملي كانت في مكان لا علاقة له بالعسكرية، وإنما وضعت هكذا في مكان أتيح لي فيه أن أقرأ الكثير، فهذا كذلك نفعني والحمد لله. ما أود أن أقوله أو أن أركز عليه هو ما له علاقة بالشعر، أو فلنقل نظرتي الخاصة إلى الأدب عامة وإلى الشعر تحديداً، وهذا أقوله بكل صراحة وبكل تواضع وبساطة لأن الشعر من وجهة نظري هو مادة جمالية وظيفية، أي أنني أؤمن بالدور الوظيفي للشعر قبل الدور الجمالي، لكن لكي يؤدي دوره الوظيفي، عليه أن يكون جميلاً، وإلا يفقد وظيفته. فالقصيدة بنية لغوية، وأستطيع أن أقول إنها دمية لغوية معقدة، حية ناطقة، وكلها منبثقة من الكلمة، من اللغة. القصيدة كلها دمية ومنبثقة من اللغة تحديداً، بكل ما فيها من عناصر. وأستطيع أن أحدد عناصر أساسية في القصيدة، وأتحدث عن رؤيتي وفلسفتي في هذا المجال لكني سأقول رؤيتي بالنسبة للشعر، وربما يخالفني في ذلك كثيرون من الإخوان الذين يركزون على الجوانب الجمالية ولا شيء وراء ذلك؛ فأقول إن القصيدة من وجهة نظري عنصر رافد للإحساس الخلقي المنبثق من الدين، ومن المروءات والأخلاق، والقيم الخ. فهي رافد لهذا الجانب، وعنصر تعزية ممتاز للعقل والقلب، والروح، الشعر. ورب كلام تستثار منه الحرب كما هو معروف.. قد يؤثر بيت من الشعر في موقف إنساني معين، في موقف شخص أو قبيلة أو غير ذلك. فهنا أركز على الجانب الوظيفي في الشعر، قبل الجانب الجمالي، وأؤكد فأقول إن الشعر غير الجميل لا يستطيع أن يؤدي وظيفته بصفته فناً شعرياً. الشعر غير الجميل، لا بد أن يكون جميلاً. لكن دوره الأساسي هو وظيفي بالنسبة إلي، وخلقي، وبنائي لمسوغات الإنسان العقل والقلب والوجدان. وهو رسالة من وجهة نظري بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ومن هذه الزاوية أستطيع أن أقول إن القصيدة تقوم على رجلين أو ساقين هما الوزن واللغة، فإذا كسر الوزن فليس ثمة شعر، وإذا كسرت اللغة أو تحطمت أو ساءت فليس ثمة شعر. فإذا وجد الوزن السليم واللغة السليمة، فثمة نظم سليم. ثم بعدئذ نجد كثيراً من المنظومات والألفيات وغير ذلك -منظومات نحوية وفقهية وغير ذلك- ثم تأتي بعد ذلك العناصر الأخرى المتممة للقصيدة لتجعل منها شعراً. وأذكر منها ثلاثة عناصر وهي الأساسية: الفكرة الجليلة، أو المعاني الجليلة، والصور الجميلة، والعاطفة النبيلة. هذه العناصر الثلاثة أساسية في القصيدة. المعاني الجليلة والصور الجميلة والعواطف النبيلة، إذا سقط أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة تختلّ القصيدة. ثم إن هذه العناصر كلها تحتاج إلى نوع من المزج أو الخلط، فيمكن للمرء أن يسميها الخلطة -خلطة من هذه العناصر- ولكل شاعر خلطته، وطريقته في مزج هذه العناصر. فطريقة نزار قباني مثلاً تختلف عن طريقة المتنبي، طريقة أحمد شوقي تختلف عن طريقة السياب.. الخ. وهكذا فلكل شاعر طريقته في كتابة الشعر أو التعامل مع عناصر الشعر ومكوناته، بصفتها بنية -أي القصيدة- لغوية وهذه عناصرها. أنا عندما أسمع مثلاً بيتاً للمتنبي -لا سيما المتنبي تحديداً، لأنه لم تسطع على الأمة العربية شمس إلا وذكر فيه المتنبي لعشرات المرات في عشرات الأقطار، بما لديه من الحكمة الإنسانية العميقة- فما أكثر ما نسمع: |
ما كل ما يتمنى المرء يدركه |
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن |
|
هذه الحكمة تفيدنا فائدة مباشرة، نعزي بها أنفسنا أحياناً، ونعزي بها الآخرين أحياناً أخرى وهكذا. نذكر بيتاً آخر مثلاً: |
فإذا أتتك مذمتي من ناقص |
فهي الشهادة لي بأني كامل |
|
كذلك هذا البيت كثيراً ما يتردد في مواقف معينة والأمثلة كثيرة جداً على الحكمة. فمن هنا أعتبر شعر الحكمة أرقى أنواع الشعر من وجهة نظري بالطبع. وبالطبع هناك أبيات تسير على شكل أمثال لكن ما يهمني أنا شخصياً -وبرؤيتي الخاصة- القصيدة، والبيت الواحد أحياناً، حيث يفعل ما لا يفعله ديوان كامل. ويُروى عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: |
كم راودتني نفسي على أن أهرب في صفين، فما كان يثبتني إلا قول عمرو بن الإطنابة: |
وقولي كلما جشأت وجاشت |
مكانك تحمدي أو تستريحي |
|
فكان يعني أن يثبت نفسه في مثل هذا البيت، لأن النفوس تجيش وقت الحرب، وتضطرب. وهكذا فالشعر يحيا على الكرم ويحيا على الشجاعة الخ. إن الأمة العربية لا تتعامل إلا بالشعر العربي الواضح القريب من الأغاني، وتاريخها كله يشهد على ذلك. طبعاً قد يخالفني كثير من إخواننا الذين يهتمون بمدرسة الحداثة، أو الذين يجعلون الجانب الجمالي في الشعر هو الأساس، واعتراضهم على هذا يقوم على أن الصور المتراكمة تغير من المعنى تماماً، وبأن المعنى ليست له قيمة أو أهمية وبعضهم يقول إن الشاعر منتج للقصيدة، والشاعر منتج للنص.. ليس الشاعر بل القارئ منتج للنص؛ لو أن النص قرئ على ألف سامع فإن كلاً منهم يفهمه بطريقة، وكل منهم فهمه صحيح. الآن له منتج إضافي، وربما هذا نوع من النظريات التي جاءت من الغرب، وبالنسبة لي فأنا لا أؤمن بهذه المدرسة ومن يؤمنون بها لهم وجهة نظرهم التي أحترمها، لكني أنظر إلى الجانب الوظيفي في الشعر، فلا أقول الشعر الذي لا معنى له، أو ما لا يظهر معناه لا أقرؤه. يعني عندما أقرأ قصيدة أمسك القصيدة فأقرأ منها في بدايتها بيتاً أو بيتين، لعلها كتبت لغيري، ولعل غيري فهمها، لعل ثمة من يفهمها فهي كتبت لغيري وليست لي، لأن الشعر يمر عبر البوابة العقلية وحتى تتأتى عليه النفس يجب أن يمر عبر بوابة الفهم العقلي، فإذا رفضته هذه البوابة، أو أغلقت دونه يكون قد فقد وظيفته، إلا إذا كان هناك من يتلمسون الشعر بأنامل اليد أو من خلال حواس أخرى فهذا أمر آخر. من هذه الزاوية أنا أركز على الجانب الوظيفي في الأدب عموماً وفي الشعر خصوصاً، وأعتبر أن الشعر إما أن يدور في دائرة الدينونة لله سبحانه وتعالى، أو أن يدور في دائرة أخرى، لا أريد أن أسميها دائرة شيطانية لكنها ليست بالضرورة في دائرة الدينونة لله سبحانه وتعالى، فما نراه من نماذج الشعر الكثيرة التي تنشر لا هم لها إلا إفساد الأجيال وإفساد الأخلاق، وإفساد الذائقة الأدبية إلى آخره. وأحياناً هناك وثنيات كثيرة ونجد هناك الآلهة: هذا أبولو وهذه عشتار وهذه أفروديت وهذه كذا وهذه كذا، يملؤون بها اليونان والرومان ساحات الكتب فتقرؤها الأجيال دون أن تعرف ما هي هذه، يعني ربما لهم وجهة نظرهم، وربما يعتبرون هذا رسالة فكل منا له رسالته في هذا الواقع. هذا في ما يتعلق بالشعر، طبعاً بالنسبة لمنهجي في تناول الشعر فقد كتبت قصائد طويلة عندما كنت شاباً في الثلاثينيات -قصائد طويلة خمسين بيتاً.. ستين بيتاً- ثم عندما تقدمت بي السن صرت أميل إلى التركيز والاختزال، وصرت أكتب البيتين والثلاثة والأربعة، يعني كلمة دالة تغني، ومما أذكره في هذا المجال طرفة مرت معي من منافع الشعر، من فوائد الشعر هذه ربما كانت من الفوائد التي استفدتها من الشعر، لأدلل على الجانب الوظيفي للشعر. كنا نركب في سيارة باتجاه منبج انطلاقاً من حلب. كنا أربعة أشخاص في السيارة وكان الجو شتاء، كنا اثنين نجلس في المقعد الخلفي ودخلنا أنا ومدرس آخر نصراني كنا معاً، والاثنان الآخران كانا بصحة جيدة ويرتديان فروة، فضغطنا ضغطاً شديداً أنا والمدرس الآخر، فوجهت الكلام للمدرس النصراني، فقلت له: طوّل بالك يا أستاذ، وتحمل أعانك الله والساعة ثمانية نصل، ورحم الله من قال: |
لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها |
ولكن أخلاق الرجال تضيق |
|
فلم نشعر يا إخوان إلا أن الرجلين وهما أميان لملما نفسيهما وفروتيهما وضغطا نفسيهما في المكان وأوسعا لنا المجال، فقلت: الحمد لله هذا من بركات الشعر، لكن الذي تراءى لي أنهما أميان ومع ذلك تأثرا بهذا البيت من الشعر. أقول: بدأت أميل إلى الإيجاز والتركيز، أي الاكتفاء بالبيت الواحد والبيتين والثلاثة أبيات والخ، ولعلي الآن لو اقتطفت بيتين، أو لو أتيت بنموذجين، نموذج بيتين، ونموذج ثلاثة أبيات، فإن كل نموذج يحمل صفاته كاملة في أبياته. نموذج البيتين، أنا لا أريد أن أقرأ قصائد طويلة في هذه الأمسية الوقت لا يتسع، لكنني أكتفي هكذا بهذين النموذجين: |
هرعت إلى المعاني أصطفيها |
وطرت إلى القوافي أقتفيها |
فلم أر في المعاني والقوافي |
سوى نفسي كأنَّ الكون فيها |
|
أعرف أن هذين البيتين يعبران تعبيراً قد لا تحمله القصيدة في ما لو كتبت هذه القصيدة. وهاكم نموذج آخر من ثلاثة أبيات: |
إنها الدنيا فحدق هل تراها |
من أمام الحلق رغوات ثراها |
خذ بها وامض سَنَا أو فارمها |
في دجى النسيان أو نم في ضياها |
|
هذا الجانب هو ما نتحدث عنه باعتبار السهرة عن الأدب والشعر وإلخ.. لقد قدمت هذين النموذجين لأدلل على أن البيت الواحد أحياناً يحمل مضموناً رائعاً يغني عن قصيدة، عندما يكون واضح المعنى ومركزاً وفي شيء من البلاغة، وكثيراً ما نقرأ قصائد كاملة لا تؤثر في أنفسنا أو قصائد لا نفهم منها شيئاً أو إلخ. هذا في الجانب الشعري، أما في جانب القصة فالقصة تحمل ما لا يحمله الشعر، إذ إن لها طبيعتها الخاصة في التعبير عن الحياة الإنسانية وعن تجارب إنسانية قد تكون لأسرة أو شخص أو الخ، أو تجربة الكاتب نفسه، لكن الشعر لا يستطيع أن يعبر عن ذلك لأن الشعر يعتمد على اللمحة الدالة وكما ذكرنا قبل قليل له عناصره. أما الرواية فلا أكتبها إلا على أساس أنها نوع من الإحساس بالواجب -واجب حقيقي- وهو واجب ثقيل. تحتاج الرواية إلى زمن يظل فيه الكاتب مشغولاً شهوراً طويلة في الكتابة ويحمل في رأسه شبكة من الأشخاص والعلاقات والصور والخيوط الخ، فإذا تابعها تذهله، وإذا أهملها ينساها فيعود ليقرأها من جديد وهكذا. فأنا لا أكتب الرواية إلا مضطراً، ولو لم ينبهنا سعادة الشيخ إلى أن السهرة ليس فيها سياسة، لقلت إني لا أكتب الرواية إلا لأكتب في السياسة. لكنني هنا أتحدث عن السياسيين وأتحدث عن جانب واحد فيهم وهو الظلم، ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وهو أكثر ما أراه. وأنواع الظلم كثيرة، فالرجل يظلم الرجل، والمرأة تظلم المرأة، والمرأة تظلم الرجل وهكذا دواليك. ثم تتدرج فالقبيلة تظلم القبيلة، والحاكم يظلم شعبه وهكذا، وفي حالات نادرة جداً تظلم الشعوب حكامها عندما يكون الحاكم رائعاً جداً، عبقرياً فذاً، ويصر على أن يخدم شعبه خمسين أو ستين سنة لكن شعبه يمل منه ويقول له لقد مللنا من عبقريتك، فيؤلمونه وحسبي الله ونعم الوكيل ولن أتحدث في السياسة. أنهيت ما عندي من الكلام وإذا كان هناك من أسئلة فأنا جاهز. |
عريف الحفل: شكراً لضيفنا الكريم ونشكر له أيضاً تقيده بأسس الاثنينية، ونتمنى إن شاء الله أن يكون هناك مجالات أخرى للحديث معكم في أمسيات قادمة. الآن أيها الإخوة والأخوات نبدأ مرحلة الأسئلة والتحاور مع ضيفنا ولنبدأ من قسم السيدات للترحيب بالضيف وليكن السؤال الأول من قسم السيدات. تفضلي زميلة نازك. |
|