غربة النفس |
تفاعل حمزة شحاتة مع نفسه في غربته.. وكانت غربة النفس عند حمزة أساساً من أسس معاناته وآلامه.. وهذا التفاعل كان بمثابة قطرات الماء البارد في وهج الصحراء القائظ.. سرعان ما يذهب ويتلاشى دون أن يحقق شيئاً. ولم تكن القدرة الحقيقية لهذا التفاعل إلاّ نسيجاً يرى من خلاله حمزة شحاتة ما يريد أن يراه هو.. لا الآخرين.. وعذاباته مع نفسه صنعت في داخله هذا الكم الهائل من الشجن المنثور بين سطوره سواء تلك المدونة في رسائله أو قصائده، أو في مقالاته وأعماله الأدبية. |
هذا النسيج الفريد بلوره حمزة شحاتة بعفوية شديدة فرسائله لأصدقائه في ساعات الضنك والضيق ولحظات القسوة والألم.. لم تكن سوى عصارة مباشرة لمشاعره المتأججة وشجنه الجاثم بين ضلوعه. |
وهذه التفاعلات وغيرها أعطت الآخرين فرصة الرؤية لجانب مهم من جوانب شخصية حمزة شحاتة الفكرية، وهناك العديد من الجوانب الأخرى الدفينة.. وعلى هذه الصفحة نطالع معاً رسالة من رسائله.. هذه الرسالة للأستاذ عبد السلام الساسي: |
|
أخي الأستاذ عبد السلام الساسي: |
قرأ لي صديق ما نشرته في عدد عكاظ (عدد 1195/10 أكتوبر) فشعرت برعدة حادة شملت كياني ظاهراً وباطناً.. عرضتني لكآبة ما تزال تلقى في ما يشبه الضباب الكثيف.. |
وسألت نفسي تحت وطأة انفعالي.. أأنا حقاً المعني بكل هذا الثناء المسرف؟ وعلى ماذا؟ أعلى كلام تلقاه الناس على أنه شعر لمجرد أنه جاء في الشكل المعهود للشعر من وزن وقافية؟ |
أن الشعر يا صديقي ليس قوالب وأشكالاً.. إنه فن استخدام الكلمة.. وابتداع الصورة، وإبراز التجربة الشعورية الصادقة التي تتخطى السطوح إلى الأعماق.. وإنه القدرة السحرية على تحويل غير المنظور إلى منظور حي، وعلى تحويل الكلمات إلى أضواء باهرة تجدد ألوانها المثيرة كلما تجدد إليها النظر.. |
فأين من هذا أو من بعضه ما عرضته النماذج التي استعرضها مقالك؟ |
لقد ظلمت القرّاء يا صديقي بأنك عرضت عليهم سوأة شاعرك في شر أشكالها، وفي شر ظروف العرض.. وظلمتني بأنك حولتني إلى أسطورة.. |
وإن من حق كل إنسان أن يغني لنفسه بصوته ولو كان من أنكر الأصوات.. أما أن يغني للناس فهذه مسألة أخرى تتطلب إلى جانب سلامة الصوت وحلاوته، الحذق والمهارة والقدرة على التأثير في خير الصور والأشكال.. والظروف أيضاً.. |
ثم من هو شاعرك الذي تعرف قرّاء عكاظ به؟ |
لقد قلت في جدية الواثق إنه أنا.. وإنها لتهمة أبرأ إلى الله وإلى الناس منها.. ومن كل جرائرها مدحاً وقدحاً وقبولاً ورفضاً.. وتصديقاً وتكذيباً.. وتعديلاً وتجريحاً. |
وما عليك الآن يا صديقي إلاّ أن تنيطها بعنق أي متعاط للنظم إن كان ناظماً، وللشعر إن كان شاعراً يرضيه أن يؤوب بخيرها أو بشرها. |
حسبي منك أن تبرئني من هذه الوصمة بنشر رسالتي وأنها أمانة لي عندك أعرف أنك ستؤديها. |
وإذا كان من الناس من يستطيب الثناء عليه بما يرى أنه غير أهل له.. فإن منهم من يكره الثناء عليه بما هو أهل له.. ولسوء حظي كنت من النمط الذي يكره الثناء حقاً، فكيف أرضاه باطلاً؟ |
وأنت ومن يعرفني من الناس تعلمون أني أبغض الثناء علي في جميع صوره إذا كانت الغيبة ذكرك أخاك بما يكره فمن حقي عليك كصديق أن لا تلقاني بما أكره.. |
وتعلم يا صديقي أني لا أكره الثناء، لكي أظهر بمظهر المتواضع، لأن فضيلة التواضع لا يمكن أن تؤاتي إلاّ ذوي القدرة والرفعة والقدر، ولست منهم ولا فيهم على التحقيق. |
إنها قصة المقدمة التي نسبت إليّ في مقدمة كتابك (الشعر الحديث)، يبعثها القدر وبيدك لتحرث بها في البحر مرة أخرى. |
أسألك الرفق بي فقد خرجت من الحياة وأنا فيها منذ ربع قرن، وليس بي شوق إلى أن -أعود إليها.. بعد أن قطع الله بيني وبينها ما يزين لي التطلع إليها والأسف على ملقيها وإن كنت لم أسترح بعد من تبعات أعبائها ومتاعبها، كداً ونصباً وجهداً والحمد لله على ما كان ويكون.. |
وإلى لقاء لا يعكر صفاء ذكر شاعرك وشعره.. ولا تلقاني فيه بما أكره.. وسلمت -ووفقك الله وإياي إلى ما يحبه ويرضاه.. وكتب لنا السلامة من المزالق والشبهات.. فنحن في زمن لا يدفع فيه جريرة الخطأ، حسن النية.. ولا يبرر فيه العجز بضعف الاستطاعة أو -تضاؤل القدرة.. ولا يتشفع الفرج في سوء المشية عند من لا تعجبه.. |
لقد دعا الهدهد سليمان وجيشه.. وأولم لهم على الشاطئ.. وانطلق على أعينهم إلى الفضاء واصطاد عدداً من الجراد وألقى به في النهر.. وصاح بهم تقدموا على بركة الله ومن فاته اللحم فعليه بالمرق.. |
هي نكتة في أسطورة.. أو أسطورة في نكتة. |
كيف كانت، فإنها تعطيك الفرق سطحاً وعمقاً بين زمننا وزمنها. |
الفرق الذي لم أجده في عرضك الطويل العريض لسوءة شاعرك. |
لم أجده.. ولكني وجدتها. |
وجدتها فيما أولعت به للقرّاء من شاعرك.. صورة هي الأصل لا تختلف عنه.. من فاته اللحم فعليه بالمرق. |
وأشهد أن المرق كان أغزر.. وأن اللحم أتفه وأحقر.. |
إنه موقف لا تشفع فيه الحسنة للسيئة.. إذا ما طغت السيئة فيه على الحسنة فدقت عنقها أو شوهت فتنتها كما صنعت سوءة شاعرك.. أي ما بدا منها على الأصح بعرضك الذي حشدت له وحشدت عكاظ من حسن النية والعرض أقصى ما تستطيعه المبالغة من جهد، أو الجهد من مبالغة. |
إلى اللقاء وتحية مباركة... |
|
|
* * *
|
|
* * *
|
|
* * *
|
|
* * *
|
|
* * *
|
|
* * *
|
|
* * *
|
|
|
|