دولاب الحياة |
أخي محمد عمر |
الكلام على الحياة وعنها بهذا الأسلوب في رسالتك اليوم كلام معقول أو هو أولى بأن يكون الكلام.. |
هذه هي الحياة يا صديقي، ولا شيء بعد ذلك.. دوامة.. إعصار.. دولاب دائب الدوران. قطار مزدحم بما ومن تعرف وتجهل، من الحوادث والحركات والناس. يسرع تارة حين يكون الإبطاء ضرورياً.. ويبطئ عندما ينبغي له أو لك أن يسرع.. لا يبلغ بك حيث تريد بالضبط، ولا بالتقريب، وإنما حيث توجهه التحويلات.. وهو مختلف عن نظام القطارات بأنه يمشي إلى الوراء أحياناً.. ويكتفي "بالكسكسة" أحياناً، وقد "يُبَلِّط" بك حيث يكون "التّبليط" خطراً غير محمود العاقبة ولو بتفويت غرض من أغراضك.. وفي أنك لا تملك النزول منه عندما تشاء، وإذا بدأت الرحلة عليه، فلا بد أن تتمها.. وتمام الرحلة ما يراه هو، لا ما يراه راكبه.. فإذا "بلَّط" بك دون غايتك أو بعدها فقد حقق بما أخلف منها، غاية آخرين.. الراكب فيه على المجاز، مركوب على الحقيقة، أو الراكب فيهن مركوب عليه في الوقت ذاته.. |
وتنظر يمنة ويسرة وفوق رأسك، وتحت قدميك.. فلا ترى إلاّ أمواجاً آدمية تتدافع، متقابلة ومتدابرة ومتواكبة أو متقاطعة.. لا عرف ولا نكر.. وهناك صرخات تبدّد السكون.. أو تهزّ بعض المشاعر في بعض الراكبين المركوبين، ولكنها لا تهز القطار.. ولا تسرع به، ولا تبطئ، ولا تقف به.. إنها صرخاتُ الضحايا يتكفل بها الهواء كما يتكفل بهم التراب.. |
وصرخات أخرى رتيبة هي زفرات الشاكين.. المنكرين.. المكلفين بأن يعرفوا لهذا.. أو لكل شيء فيه، معنى.. تذوب في هذا الصخب بين عجلات القطار وقضبانه، وبين هدير هذا البحر الآدمي المضطرب.. هي صرخات الذين ضاقوا بهذا العبث.. وبهذا الجنون، إنهم يصرخون.. ولكنهم يسيرون بالسرعة نفسها التي يسير بها القطار.. ولو سكتوا لما تغير شيء.. ولكن كيف يسكت المتألم.. إن الصراخ صوت تفجر الآلام والمتاعب في النفس.. أو في العقل.. لماذا لا يكف القطار عن الجلجلة؟ |
هذا هو مبدأ الرحلة، ومداها، وختامها.. وليس هناك شيء آخر فيها.. إنه قطار يعيش فيه الناس إلى أن تنتهي أعمارهم.. قطار كبير يجر وراءه عربات لا عداد لها بعضها محجوز.. يدخله من تشفق الحياة على أعصابهم المترفة من الضجيج والزحام.. والاختلاط المزهق.. يعيشون فيه.. وينسلون نسلاً سعيداً يرث هذا الميراث فينعمون به أو يحرمونه إذا انتقلوا إلى عربات أخرى.. لماذا؟ ينبغي أن لا تسأل؟ إنه منطلق القطار.. تبدأ الرحلة عليه في عربة محجوزة.. فيدفعك الضغط.. أو شيء غيره.. إلى عربة من عربات الخليط.. لا تصرخ.. إن الصراخ لا يجدي.. أو تبدأها في عربة من عربات الخليط.. فإذا أنت في عربة محجوزة! لماذا؟ من الخير أن لا تسأل.. فليس ثم من يجيب.. ولا من يقف ليصغي. |
هذا كل ما في الأمر.. أنت سائر على كره أو رضا.. وسائر ما وقفت أو تحركت.. بقوة الدفع من خلفك وجانبيك.. فأنت مدفوع.. ولكنك دافع.. ما أمامك.. إنك دافع، ولو لم تتحرك.. ماذا ترى الخلاص!.. |
فعليك أن تعمل إذن، عملاً يعطل الدفع من ورائك.. وعملاً يضع الطريق لك أمامك.. وستظل دافعاً مدفوعاً.. إنك لا تلقي بنفسك من النافذة حتى يدفعك إليها ضغط القطار ثم إلى خارجها.. إذا أنت قد انفصلت من القطار. إنها مأساة لا يقف لها القطار. |
هذا مبدأ الرحلة.. ومداها وختامها.. |
عرفت من خطابك هذا الأخير أنك في حالة صراع.. لقد عرفت بالتجربة أنه لا حل لمثله إلاّ بأن تسلم جسمك للتيار يمضي بك.. إنك لن تبلغ ما تريد بمجرد الجهد والإرادة ولكنك واصل على كل حال سليماً أو معطوباً إلى دون ما تريد.. أو فوق ما تريد.. أما ما تريده تماماً!.. أما ما تريده بالضبط!.. فلا -لأنه السعادة التي لا يستحقها النقص البشري.. |
إن الإحساس رزء.. ولذا كانت زيادته.. جنوناً.. أو شذوذاً... أو انحرافاً، والإنسان مرتبط بمصيره من أول الخط إلى آخره.. كما يرتبط راكب القطار به، في المثال.. فإذا لم تنقص كمية الإحساس -إن جاز التعبير- فلا أمل لذي إحساس في الراحة. |
إني أعرف طريقة واحدة للتراجع بهذه الكمية تدريجياً.. هذه الطريقة.. هي العمل الثقيل.. الكالح.. المغشي.. بآليته المميتة.. وبواردته الكريهة المريرة، وبامتحانه القاسي العنيف للجسد، وللنفس، وللعقل، وللمشاعر، والوجدان.. إنها عملية تبليد تنتهي إلى التبلد.. ونسيان الفقدان. |
إن عمل الإحساس شبيه بعمل الذاكرة.. متى فقدت الذاكرة زال ما يؤلم.. ولم يبق ما يُفرح.. وها أنت وقد أُتيحت لك التجربة. |
إن العضلات لا يضفرها إلاّ النصب الشاق الكريه.. لكل شيء ثمن، وثمن الراحة القناعة والقناعة حرمان..!! |
لقد تقدمت أساليب الاقتصاد والتبادل في ماديات الحياة.. أما في معنوياتها.. فما تزال الطريقة السائدة هي المقايضة.. تريد الخيال الذهبي المجنح؟ حسن، أتقايض عليه بنصيبك من الواقع؟ شيء بشيء.. على القاعدة الفطرية: الأقوى رغبة.. أضعف موقفاً: إنه العرض والطلب، إنه القانون في نظام الحياة الواعية. |
والآن أتراني قلت شيئاً يَسُرُّ أو يُقِنعْ، أو يحلُّ إحدى عقد الصراع القائم في نفسك؟ كلا.. إنما هي وصفة من وصفات (ديل) صديقنا القديم الثرثار الذي يشتري كل شيء في بلاده بالدولار الأمريكي. فما عليك إلاّ أن تصفح عني.. وتدع القلق.. وتبدأ الحياة.. دُر بالدولاب أو فدعه يدور بك. أأزيد أم أقف. |
ليتك تعيد إليّ هذه الرسالة لأقرأها فإني الآن أكتبها ولا أقرأ منها حرفاً. |
أكتبها كما كنت أتكلم إليك في جلسة من جلساتنا التي ضيَّق مساحتها أنك بعيد. |
إن رأسي ينوء.. والضوء الذي أكتب الآن عليه.. يتراقص ويتقطع في عينيَّ.. والغرفة تميد بي كما تميد أمواج البحر بالغريق. ولولا هذا لمضيت بك على هذه الوعور إلى غير غاية. |
أيها الصديق.. كان الله لك فيما تعاني في نفسك مما فيها ومما في خارجها.. إن الحياة تسمم طويل الأمد لكل من يحمل صك آدميته في يده. وهبنا الله الثبات.. ووقانا الزلل وقادنا إلى الهدى وأنار ضمائرنا بالصلاة، وأنقذنا من مهاوي الضلال للطاعة، وكتب لنا سلامة العقبى، وخاتمة الخير، مؤمنين به، غير راضين عن أنفسنا وأعمالنا، مؤمنين برحمته.. وعفوه.. وكرمه.. وغفرانه.. إيماننا به، آمين. |
وبعد فما أود أن يحول استغراقك في مسؤوليات عملك بيني وبينك فاجعل الصلة بيننا عادةً تحمل نفسك عليها حتى تعتادها.. في كل أسبوع مرة أو في كل شهر مرة. |
وإلى اللقاء يا صديقي.. واعف عني في ما أثقلت عليك به من هذا الهذر. |
|
|
|