عاقبة الدس |
أخي محمد عمر |
ليست الخمسون، سناً ملائمة لاحتراف الكتابة في الصحف!. |
هذا ما انتهيت إليه عندما تلقيت اقتراحك.. وما أزال حتى الآن متردداً في اختيار ما أقوله لك لأتفادى المسألة.. مسألة أن أكتب بأجر.. لا إيثاراً للهواية على الاحتراف، ولكن هرباً من الالتزام.. |
لقد هجرت الكتابة أربعة عشر عاماً.. فما الذي بقي لها مني وفيَّ بعد فترة هذا طولها باستثناء عرضها وعمقها، وما لا يدرك أو يعبر عنه من أبعادها الأخرى، وفي حساب الزمن، دون حساب الشعور، والنفس، والعقل، واختلاف أطوار العمر والقدرة والخيال.. بعد هذا الشيء الكبير الذي سقط من حياتي، كما سقط كل شيء بعده وقبله؟ |
حتى القراءة الجادة يا صديقي، سقطت في ما سقط من حياتي واهتماماتي.. نتيجة لتوافر الصوارف وعوامل الاستغراق في ما لا تنهض به بقية النشاط المثقلة بأعباء اليوم.. والليلة. |
إن من مرويَّات الحكمة أن لا تبدأ حباً جديداً، قبل أن تتخلص من القديم.. بمعنى أن لا تخوض معركتين في آن. |
والكتابة الملتزمة ليست متْحاً من بئر يكفي له الحبل والزند، ولكنها عمل يقتضي التفرغ لوقته، وتجشّم المشقّة لإدمان القراءة ومتابعة الدروس على مستوى من الدقة وحسن التدبير لا يعين عليهما إلاّ الوقت والجهد، وحماسة الدوافع وحضور اليقظة والانتباه.. أو أن هذا ما يخيل لي الآن، ويمليه عليَّ تصلّب عضلاتي وأعضائي.. |
فأين أنا من هذا وقد غلبني فتور الأمراض، وأخذتني ركدة السن ووهنها، ودساس كلال العقل والجسد؟ |
ومجال النشاط الصحفي اليوم خاضع للسرعة، وخفة الحركة.. واليد..! ووجيف الطبع، فعلى من يغشاه أن يتهيأ له، وأن يستبدل الحلج والجمز، بالتؤدة والأناة، واعتدال الخطوة ووزنها وتقديرها، لضرورة المساوقة.. |
وهذا تغيير لا بد أن تدور -حتى تستقر- عليه الممارسة والمران طويلاً إلى أن يواتي. |
والانتقال من حال إلى حال تغايرها مشقة يستعان عليها بالصبر وتحريض الطاقة واستفزازها، مع سعة الصدر ومهادنة الضرورات!. |
فما حاجة قرّاء الجديد وشهوده إلى انتظار ما سيكون، والحاجة مقضية بالميسور الذي انقضى اختباره، وتم قبوله وإيثاره ونهض به ما هو كائن؟ |
وها أنت ترى أن سرعة العرض والانتقال تنقضي، وأن هذا يعيبك مني وبي، ويثقل برأسك حتى الضجر.. وأنا معك في أنه شيء كدوار البحر لراكب السفينة، لا تشفع فيه السرعة حتى لو تحول إليها بطؤها، فصارت في سرعة الطائرة، لأن المسألة هنا مسألة الدوار، الذي يتضاعف بالسرعة مصابه، على راكب البحر.. وهذه هي العاقبة التي ينبغي أن تخشى شرها، بكل ما في وسعك من الحيطة والحذر والحرص على اجتناب المجازفة.. لو تحولت من البطء والتركيز، إلى السرعة والتخفيف، بمعجزة ومعجزات المران والمحاكاة.. |
فعسى أن يصرفك ما أصبت، عما تريد، وتكون قد ضمنت السلامة وثوابها على أوسع نطاق، لي، ولك، وللقرّاء، فهم مصب الرزء على أي حال. |
ضحكت من تهديدك بنشر رسائلي إليك، فما يخيفني من النشر والإذاعة، أهون مما يخيفك، وما قد يصيبني من الشر منهما أيسر مما يصيبك.. إن ما يدور بين الناس أو بين اثنين منهم في الخفاء، سر يستوجب الستر، على قدر ما فيه من مغايرة للعرف، أو من تخييب لآمال الناس في سرائر بعضهم، فأنت موكول إلى القرّاء في ما تطلق عليهم من سوء يضيقون به، وما زال سوء الاختيار لهم مثار سخطهم على الفاعل، لا على التارك!.. |
وعلى أن النشر يخلو مما يثير قلقي وقلقك، فماذا يمكنك أن تختار، وأن تدع؟ وكيف؟ ولماذا؟ وعلى أي نحو، ولأية غاية؟ إنك ستبذل من الجهد، وتحتمل من العناء ما يشغلك عن (مقطوعيتك اليومية).. في البلاد.. والعباد.. وماذا عن قرائك إذا قايضتهم بما يكرهون مني، بما يحبون منك، وإذا أعطيتهم ما يألفون بما لا يألفون؟ أتراك إلاّ خاسراً رضاهم عنك، وارتياحهم إليك، وإقبالهم عليك بالشوق والمثوبة والترحيب؟ |
إن بعض هذا يا صديق، جدير بصرفك عن فضول تسوء عواقبه، ولو أن غايتك الإحسان والاستجابة لدواعي المروءة في أصدقائك أو أعدائك، فما يشتغل بالناس عن نفسه إلاّ أحمق.. أو هذا ما يؤمن به القرّاء الحصفاء ذوو البصر!. |
ولعلّك تعلم علم اليقين أن مثل هذا الحمق، قد أودى فيَّ بما كانت بلادي.. وبيتي.. وأهلوهما، ينتظرونه مني، من يسر ونجح، يجريان على شرط الأمل وتوقع النفع.. فهل كان هذا هكذا إلاّ بسبب الفضول بلونيه اللازم والمتعدي؟ |
وأنت لو قضيت عمرك كله، تدخل في ما يخرج منه الناس، وتخرج مما يدخلون فيه، لما بلغت في ضرار نفسك بذلك، ما تبلغه بالفضول. ولست آتيك بهذا عن طريق العلم وحده، لأن ما حصل لي منه وفيه، بالتجربة، والخبرة، أضعاف ما حصل بالعلم والتلقّي، وما العلم إلاّ تجربة الآخرين.. ما في ذلك شك. |
والآن فليس لك إلاّ أن تفكر بجد، في ضرورة التأكد والاحتراز عند نشر شيء.. أي شيء لي -أو باسمي، إن حدثتك نفسك بأن تنخلني بعض ما تضع، للكيد لي، أو للقرّاء.. وأنت أفطن لسوء عاقبة الدس لهم ممن استحوذ على إعجابهم وثقتهم به -أعنيك أنت-. |
ولقد رأيت في شراسة مدخلي عليك وجراءتي، أنه ليس ثَمَّ ما يخيفني، لسعة أبواب الخروج مما تصطنع لي من مآزق.. وقد عرف القرّاء لي في ما مضى من علاقتي بهم، شيئاً من الرصانة، ومن استقامة السمت، تضاعفه السن، وتوفر التجربة، والملابسة الطويلة للحياة والناس! فما ظنك بمروءاتهم، متى استعديتهم عليك!! |
ألاّ تراك خفت العاقبة، وتراجعت مرتعد الفرائص منها؟ تماماً كما كنت تفعل عندما يزين لك التسرع، والإقدام على نقلة خطرة، لحجر من أحجارك على رقعة الشطرنج، أيام كان لعبتك المفضلة، فأكاشفك بخطورتها عليك فتلوذ بالفرار منها.. لتلعب غيرها؟ |
فإلى اللقاء إذن، على ما شرعه بيننا حسن العلاقة، في القرب والبعد.. وحفظك الله لأخيك. |
|
|