مضض الانتظار |
أخي محمد عمر |
لعلّ في هاتين الرسالتين تعويضاً لما فاتني منك، أيام كنا ننام في غرفة واحدة.. وما زال العهد بالبعد بين صديقين، أن يكون هذا فعله، لأنه يترك مجالاً للتفقد والذكرى وانبعاث الحنين والاستجابة للدواعي.. بسبب فراغ النفس مما تمتلئ به إلى حد الكظة.. وقد يكون الباعث أضعف مما ذكرت ارتباطاً بدوافع النفس والشعور.. فتكون الاستجابة في ذاتها على أي نحو جاءت، شيئاً محموداً يُشكر.. |
ولا أكتمك أن انتظاري لرسالة منك، طال حتى تعتعني انشغالاً على العيال، وأمضيتها أياماً ساء فيها شعوري بالحياة.. وبالناس.. وبنفسي، حتى أعتللت بشيء كالغصة في مجتمع صدري.. وحلقي.. وتمادى بي تأثيره.. حتى اعتقدت أنه مرض لا خلاص منه.. وما زلت أتردد على الأطباء.. وأتجرع الأدوية.. وأتلقى النصائح الطبية.. بصبر من كمل إيمانه بأن حال الدنيا والحياة لا يمكن أن يكون إلاّ كذا.. تعباً موصولاً في حلقة مفرغة.. |
وفهمت من الناس حولي.. أنهم تلقوا رسائلك.. وسألتني أم العيال ألم يأتك نبأ من محمد عمر عنهم، فنفيت.. فارتابت.. واندلع الاتهام في عينها كالنار المشبوبة.. وبدأت تسخر.. وشعرت بالطنين في أذنيَّ.. ومضت أيام بعد ذلك عرفت فيها أنك بعثت برسائل.. ومقالات للنشر.. ثم.. أن فيها ما يتعلق بالعيال.. ويتعلق نشره على أن آذن به.. وبدأت الحلقة حولي تضيق.. وإذا بيحيى أبو الفرج.. يسألني أما جاءك شيء؟ وصارت كلمة "شيء" عندي مرادفة لكلمة "مصاب".. وأذن الله أخيراً أن أتلقى هذا (الشيء) منك وإذا هو رسالة عن العيال لا تتناول من ظاهر حالتهم غير ما أعرف.. ولا ضير في هذا فلا شك أنه كل ما يسع مسافراً عابراً بلبنان في ظرف ضيق أن يعرفه.. وزادني غموض كلامك المقفل عن ضرورة اختيار مدرسة أخرى للعيال.. همًّا على هم.. ووسواساً على وسواس.. |
وجاءني "شيء" آخر.. أي رسالة أخرى.. وفيها صورتان للعيال يظهر أن "عيار" التحميض زاد فيها عن المعتاد.. فشاع طابع الانكسار على ما تناولته الصورة.. وأختها.. بسبب عدم التصرف بالضوء.. وتقريب مدى الالتقاط.. واختيار اللحظة المناسبة.. وصحة الوزن والتقدير.. وهذا منتهى ما تبلغه الجهالة بصناعة التصوير. |
ولك الشكر بعد على ما تجشمته من العناء في الرحلة إلى المدرسة.. واحتمال سوء الظن بك من الراهبات.. ومضض الانتظار.. |
إنني أتهيأ الآن لدراسة موضوع الانتقال الشتوي.. لزيارة العيال مع أُمهنّ.. وقد أجد من حالهم ما يدفعني إلى نقلهم إلى مصر.. وكل اختيار يتوقف على خيرة الله وقدره.. جعل الله العاقبة خيراً للجميع.. |
وفهمت من يحيى أبو الفرج أن العلاقة بينه وبين الشيخ قد صحت من غفوتها واستعادت سابق عافيتها.. فهي الآن تعدو عدواً ولا تسير.. |
وقرأت مقالك الثالث عن بناتي فوجدت ما راعني.. لقد حذف نصفه باعتبار يجمِّله، أما توزيع المحذوف على جميع سطوره.. وجمله، فقد اشتركت فيه أقلام ثلاثة.. استبدلت كلمة راهبة "بسيدة".. ووضعت موضع الكنيسة والراهب.. عابداً.. ومعبد.. وحذفت اللفتة التي قارنت فيها بين شوارع الجبل.. وشوارع مكة.. |
ورأيت الجريدة مصرّة على نشره.. كما عاد من الرقابة.. فأعلنت أنني لا أوافق على نشر شيء عني.. ولا عن بناتي.. وكان هذا هو ضمان دفع القائلة عندك أمام قرائك الذين لا تأبه بهم الأقلام التي شاركتك في تدبيج المقال على رغم أنفك.. وأنوفهم.. |
والحياة هنا بعد على ما عرفت منها، وقد يلغي الشتاء إجازته القصيرة التي اعتاد أن يقضي بعضها لدينا، في هذا العام، لتكون الفرصة أوسع لتوثيق روابطنا القوية بالصيف.. |
ولست أسألك عن حالك فأنا أعرفه فرضاً وتخميناً.. واشتهاء لمشاركتك فيه على طريقة "الباط بالباط"... |
والقول يطول لو شئت.. ولكن الإقصار أولى، فأنت أغنى عن هذا الهزر الآن، منك يوم كنت هنا.. وماذا يقول لك مثلي، وقد بسط الله لك من القدرة على الفعل.. وموافاة الحال عليه، فما أنت فيه -ما يغنيك عن كل كلام من كل قائل في كل باب من أبواب القول.. وليس في وسع من كان على هذا أن يحسن الإصغاء، أو يتعنى للفهم، إلاّ محمولاً على ما يكره، أو مغلوباً على أمر نفسه.. وقد وقاك الله هذه المحنة بما أتاح لك من سعة المدى بيننا براً.. وبحراً.. وجواً.. وقدرة على الإفلات.. |
وشكراً يا أبا فوز على ما تمتلئ به نفسك الكريمة من حب وإخلاص ووفاء.. يتجلى كل معنى من معانيها في عارفة من عوارف فضلك التي تزداد بالخفاء الذي تتوخاه لها، عمقاً في نفسي وقلبي وعقلي.. |
تحيتي.. وشوقي.. للأخ عمر إلياس.. ولمن حولك من الرفقاء.. وحفظك الله وإلى اللقاء. |
|
|
|