شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الجهد قتَّال
أخي محمد عمر
قالوا.. وهام الجعران بالشمس هيامه، وأطال إليها الشكوى، وخطبها بعد أن استفاض في حديث حبه، فشاءت أن تدفعه إلى حيث تمتد به الشقة.. فقالت أنت لا تستطيع الصعود إليَّ، فأين ترى نلتقي! فقال في هذه الأرض الواسعة. قالت وما شأن هذه الأقذار التي تتأفف لها نفسي! قال سأطهر الأرض منها.. قالت فما لي بغيرك ثقة، قال فسأضطلع بالعبء وحدي..
قالوا.. فهو من يومه ذاك، موكل بما لا ينتهي من هذه الأقذار، لا يختفي منها شيء إلاّ لبلوغ شيء، وهو على حاله من النشاط والدأب والأمل الموفور.
فدونك أنت يا صديقي، وهذه الحثالة من الناس، تُنَقّي الجو من أنفاسها، وأرى أن صاحبك رماك من الجهد الجاهد، بما لا ينتهي.. ولا تنتهي منه، إلاّ أن رزقك الله عمر نوح، في أمل جعران!.
وبعد فما أود أن أضاعف عليك الرزء، فما أعرف أنك تضرب إلاّ في خواء.. وستعرف متى ثاب إليك رشدك العازب، أن الإنسان يصاب في عينه وهو مبصر.. وستقول إنه عمى لذيذ، هذا الذي يجعل للدنيا غير لونها الكالي، فما يسعني أن أنكر عليك دعواك، إلاّ أن أنكرت على المدمن قوله في الخمر.. والعشق سكر، والجمال مادته، والدنيا لا ينتفع بها أو بنفسه فيها، إلاّ غير المفيق، وإلاّ غير الخاضع لأحكام عقله.. بل لأحكام العقل.. فما يرى الإنسان الرأي في الجمال بعاطفته وحدها وحسه، بل بعقله أيضاً..
وقد قسّم الله الأرزاق بين الناس أول الخليقة، فسرى التذمر بينهم.. كل يتطلع إلى قسمة غيره صعوداً.. فأرضاهم الله بقسمة العقول، فما ترى من يرضى أن تبدله بعقله عقلاً..
وما أطيل لك القول، فإني أجد في إرساله هذه الأيام مشقة، وأحس أن برأسي (قبضاً) لا ترخيه أقوى المسهِّلات. فصنع لك بهذا اللين ما تطول به لذتك، وتمتد حبالك، فأنت جدير بأن تكون سعيداً..
ولو كانت رسالتك أمامي الآن، لكان الأرجح أن أجد مجال القول واسعاً فقد أحسست فيها بتهافت يسفّ ويغلو -لا يعلو-. فالحركة فيه لا حركة الحياة ولكنها حركة مغالبة الفناء -فإن كانت في العين حركة، فهي في الفكر سكون.. وما أصعب أن تحدد الألفاظ ما نريده، أو ما نشعر به. وماذا نصنع بإنسان يعرف من الهجو أنه مديح؟ ذاك قد أطلقه الله مما قيدك به، فما نال منه على الجهد الناصب، إلاّ ما نال الريح من قفاك حين توليه الجنوب في كل مساء، منطرحاً على كوعك تنطرح لك الدنيا مطارح الإغراء والضراعة، وأنت صادف عنها صدوف الغني الممتلئ، لا يرى في أيدي الناس، إلاّ ما يزيده العرض والظهور هواناً عنده..
والحمد لله على نعمة الخيال، ورقة الحال، ومن صرفه الله عن التعلّق بماذا تكون عليه عقباه، فقد صرف عنه تسعة أعشار المشقة، وقديماً قيل إن الجهد قتَّال، ولكنه لا يفعل بمثلك، فعله بآخرين. فالمشقة عندك أن تطوف الدنيا، غير محرك رجلك، وليس في ما تريد ما يستعصي عليك أن تقيمه كاملاً في لمح البصر. فأنت تبني البيت، كما تنظم البيت، وقد ترى في الحياة ما لا يقع من نفسك موقع القبول والرضا، فتليح لجانب من وجهك، فإذا الأشياء تتذابل.. وماذا بعد أن تكون خالق كونك الصاخب، إلاّ أن يحتل عرشه الخالي، ملاك إن فات قدرتك خلقه، فما يفوتها تحسينه، وإضفاء شيات الفتنة عليه، حتى يكون خليقاً بأن يحكم دنياك ويسوسها، وأنها لفرصة..
وقيل لي أنك تهاجم، أو هاجمت قصيصاً، فإن كان هذا صحيحاً فإني أسأل لك السلامة من عقبى ما تجره عليك هذه الوعكة.. ولن تجد في خمسين قصيصاً عندنا من يتسع قلبه للرأف بك، بعد أن تمس حرمة واحد منهم، بل من خيرهم، بل من طليعتهم الجبارة، بل دنكشوت هذه الطليعة، وأعني قائدها.
وليس من الخير لي ولك أن تقول في القصة، ما يقول نقادها، ونحن من قرائها لا أكثر.. فلو طلع عليك القصيص، بفلسفة الحبكة، وطرافة المفاجأة، وإحكام العقدة، وتسلسل الحوار.. وحشد لك مما قال، فرانشي، ودبور، ودانز، وهبلوس، وفالس، وزوابت، وماكس، وآرن، وهيوم في القصة وفلسفتها، ما يملأ عمودين في "صوت الحجاز"، لما كان في وسعك أن تنكر أن ليس بين هذه الأسماء اسم كائن عرف الأرض، أو مارس الحياة. فما يدريك أنه قدير على أن يفاجئك بأن لأحدهم عدة مؤلفات في نقد القصة؟
وللرجل بُعْد قدير في الإنجليزية قدرته في العربية، فلو أطبق عليك، فإنما يطبق بمحصوله منهما، فماذا أنت فاعل بلغة لم تحذق بعد ما يحذقه خريج دار علوم، فيها، مثلاً؟
ونحن -يا صديقي- أبناء عصر خلا، فمن الخير أن نترك المجال للقصة وذويها، فما نملك -وهذي قوانا- أن نسد على الناس سبيل السير.. ويؤذيني أن لا أستطيع أن آخذ بيدك لو أعييت -وهذا محتمل-، فما بقيت لي قوة الإجابة، لا تدفع عني ولا عنك شراً.. وكتّاب القصة عندنا عشرا ولا أعرف فرجة في صفهم، وهم أميل من كتّاب العهد القديم، إلى التكاتف، والسواد معهم.. ودفع الله عنا الشر، والشماتة، وسوء المصير..
وهذه يد سيحمدها لي الرجل، كما أحمد سالف أياديه عليَّ، إن نجحت في صرفك عن إثارة المعركة، كما نجحت في حمل المغربي على نشر مقالك كاملاً غير منقوص..
ورأيت البارحة -فيما يرى النائم- الرجل وصديق للجميع معتنقين في حماس وكلاهما يضحك للآخر. وفسر لي هذه الرؤيا رجل أثق بعلمه، فقال إن العداء بينهما سيستحكم ويستحيل (هراشاً).. قلت فلو رأيتهما في (هراش).. ماذا كان يكون التفسير؟ فقال في هدوء: العكس.. فصرف الله العناق بالهراش إذن.. لينصرف عنا سوء ما تفضي إليه المشكلة..
غداً الخميس، وسنذهب جماعة إلى وادي محرم.. فليت في وسعك أن تشاركنا -وإلى اللقاء..
أخوك حمزة شحاتة
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 77 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج