شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إن لعصعصك عليك حقاً
أخي محمد عمر
فازت دونك رسالة عزيز بأني تلقيتها على مكتبي، حيث كان الجو ملائماً للرد الطويل، على ما فيه من غثاثة. وأنا الآن بالبيت، حيث تفِّر الريح مولولة، عقب أكلة ثقيلة، لم تدع فيَّ لغيرها بقية، فليكن الرد عليك (طرقاً) عكسياً، يُذكِّرك بأن "لِعُصْعُصِكَ" عليك حقاً، فأنت رجل يتسع ويمتد نصيب فكره منه، حتى ما يدع لشيء من الأشياء مجالاً معه.. حتى رسائله إلى أصدقائه -النائين- تغدو حلقات درس يتصل فيها فقه القول على ما يشبه تعبير الزهاد في الصوامع والبيعات وما تطيق أعصابي -ولا أكذبك- هذا النمط من جدّ القول أو هزله، ولك عليَّ عهد الله أن أقول لكل حي ألقاه إلى الجمعة التالية، أنك في هذا هزمتني. فأفاء الله عليك بهذا العهد، ما يهوِّن في نفسك مضض الانكفاء عني بالخيبة في مجال ما تسميه فلسفة، أو ما أحسبه فلسفة.. حتى يقيض لك فرية غيري.
قال معتزلي:
يد بخمس مئين فضة وديت
ما بالها قُطعت في ربع دينار؟
وقال آخر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له
إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
وقال غيره:
كم عالَم عالم أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهامَ حائرة
وصيَّر العالم النحرير زنديقا
فالنحو في هذه الأمثلة يتجه اتجاهاً متماثلاً، مصدره الشعور بتناقض القيم وتضارب الأحكام.
فلو قال الشقي: لِمَ أشقى؟، وقال السعيد لِمَ سعدت؟ لما كان الجواب إلاّ أنها مشيئة الله. فإذا لاحت مسألة العقاب والثواب، والجبر والاختيار، بشعرها المنكوش كتب الله الهزيمة على كل كافر ثائر.. وترصدته اللعنة الخالدة..
فإن ذهبت تلتمس الصلة بين ما قلت، وما قال المعتزلة، أو معتزلهم، أضفى الله عليك من ثياب الفلسفة أطولها، بل أسبغها طولاً.. وما أرى هذا الفهم إلاّ جناية من يرى الماء، فيقول أنه ماء.. أو جناية من يراك فيقول أنك تشبه أباك..
أما إن كان هذا المذهب من القول، فلسفة، أو كلاماً له ما لسائر الكلام من صفات، فما يطول الخلاف بيني وبينك على مثل هذا -إن شاء الله- وما يسوءني أن يبدلني الله بكل صحيح أعرفه، صحيحاً تعرفه، وسيان أكانت الفلسفة ما زعمتها، أو كان كل كلام يند عن فمِ، فلسفةً، فإني ممن انتهوا مع أفكارهم إلى هوادة تتهادن فيها النقائض أو تأتلف..
ولك بعد تثبت وتلج، في أنك لا تشبه أباك، ولكن ليس لك أن تنكر صلتك به.. ومن الأشياء شيء لا يستقيم دليل على أنه صحيح، ولكنه صحيح. إن استقام الدليل، أو مال.. فأنت فيلسوف على هذا الأساس، أو فيلسوف على أن بين ما قلت وقال فلاسفة المعتزلة قبلك، مشابه، وصلات، لعلّ هذا الكلام في صدره، قد ألقى شبهة الاحتمال عليها.
ولو وقف متهم بالسطو على خبز أمام قاضٍ فسأله أحق أنك سطوت.. فقال نعم ولكن بباعث الجوع والحاجة الملحة، لما كان جوابه جواباً ولكن جوابين. فإذا قلت أنك تتفلسف في معارض النفس والحياة.. لأن نزوات السأم العارضة من شأنها أن تدفعك إلى ذلك.. فما يدفع عن الفيلسوف أنه يتفلسف مضطراً غير مختار.. وما أحسب أن في الدنيا اختياراً، إنما هو الاضطرار على درجات فأنا بترجيحي لوناً على غيره من أطعمة تجمعها مائدة، إنما أنقاد مضطراً لعامل الترجيح فيَّ.. وحتى ما تسوقه البديهة عفواً لا بد أن يكون صادراً عن حركة باطنة، لا يمنعها خفاؤها علينا، أن نسلم بوجودها.. وعلم النفس هذا أوسع مجالاته، وأقوى دعائمه..
وقد قلت أن نقمة الناقم مظهر معكوس لحب الوجود. وهذا صحيح، على أنه في الظاهر ليس كذلك، وعلى أنه في نفس الناقم لا يلقى دليلاً على الصحة.. ولعلّك لم تدرك أني كنت أمزح في أسلوب من الجد، أو أجِدُّ في أسلوب من المزح، في رسالتي الأولى إليك، وأعني سابقة هذه..
وقلت "ما بي أن أضرب كما تضرب الخفافيش.. ولكن أن أمضي في العيش مضيّ من تدفعه مناسباته وظروفه" وهذا كلام لا أجد أنفى منه لمعناه المقصود. فما تدفع الخفافيش إلاّ مناسبات حياتها، وظروفها وعواملها، وكل شيء في الحياة قوة، والقوى بعد تتغاير وتتفاضل، وما أظن أن حياة أي متنفِّس تخلو من دوافعها ومناسباتها وظروفها وعواملها.
فأنا وأنت والخفافيش في هذا سواء.. ولا معنى للتظاهر بالإباء. وقلت "لئن كان في أسلوبي شيء غير قليل من الاندفاع الوخيم، فذلك ما قد ترفَّعت عنه من أمد غير قصير".
هل أفهم من هذا أنك غدوت مثل الخفافيش في سراديبها المظلمة.. فذهبت ترعد بهذا الزئير المكتوم؟ أم أفهم أنك عنيت معنى لم تصطنع له ألفاظه الخاصة فجاء مفكك الأوصال؟..
وبعد فما أعدُّ لك من الحسنات حسنة تعدل عندي وفاءك بما ابتدعت أنا تسميته بالالتزامات الفكرية أو النفسية. فإن قال عزيز غير هذا، فإنما يقول رأيه فيك لا رأيي، أو إنما يقول رأيه في نفسه، في شكل تهمة مزدوجة يأخذ كلانا نصيبه منها. ولو شئت لعتبت عليه سوء استعماله لحرية لسانه، عتباً يدخلك من كل باب، يخرج هو منه بأوكس النصيبين..
وأنت الكريم المرموق.. وإن شئت طويتُ وطويتَ أمثال هذه الهنات التي تشبع الإنسان عن قلب أخيه بعداً، كلما ازداد قرباً.. وما أشتريك به في هذا الكلام، ولكني لا أبيعك بعدد شعر رأسك من الناس.. وليس هذا لأني أحبك.. بل لأني أحب نفسي.. فأنت في مأمن حتى من إيماءة المُنَى.. وحبك بتزاحم هذه الميمات في جملة، دليل على أني أرسل قولي من قرارة النفس لا من طرف اللسان. وأرجو أن لا تعصف بحالة الود بينك وبين عزيز آراؤه العارضة، فهو إنسان يغلبه لسانه على ما نعرف له من ضعف مبين.. وعساك تجد الجرأة على أن تقريه هذه الرسالة، فلعلّك تكتشف في ارتطامه بنصيب منها أينا أصبح مهماً لإنسانيتك وقوتك في التزاماتك. وإلى اللقاء.
أخوك حمزة شحاتة
أخي: عريف
أنت البادئ السَّباق دائماً فيما عرفتك، ولئن كنت عندك بالمكان الذي ليس بعده مكان لصديق أو حبيب، فلأنك موله دائماً بأن لا تدع الغاية لغيرك. ولكني سأعاندك فيها، وأصاولك عليها.. فأقول.. إنك عندي بمكان ليس فيه إلاّ أنت وحدك.. وهذا مكان لا قبل له ولا بعد، تتمتع فيه بحرية الانفراد.. ولا تدفع له أجراً. لا كمكانك الزاخر بالأصدقاء والأحباب، الممتلئ بحيث لا يسع جديداً، أو يبش لطارق. وليس من حقك بعد أن تلومني على أني لم أذكرك حين ذكرت أصدقائي، فما يُتذكَّر إلاّ المنسي، وأنت القائم في نفسي وأمام عينيّ.. وما لك ولاستعداء التقاليد، وقد عرفت إيماني بها من قديم وما لك وأي شخص تتخذ من لسانه رسالة، لم يحمله ضميره على أدائها. وفي الوقت فسحة، وليس لمشتاق عذر..
وعفواً لأني لم أجبك برسالة مستقلة، ينوء نشاطك دون إتمام تلاوتها لطولها.. وإلى اللقاء قريباً.. حيث يتسع الوقت والجهد لها.. وسلمت..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :574  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 76 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج