أخطر الأصدقاء وشرورهم |
أخي محمد عمر |
نعم، لقد وردتني رسالتك الأولى، ولم يصدر الرد مني عليها حتى الآن.. وجاءتني تاليتها وفيها الدليل أيضاً على وفائك برغم ضعف الحفاظ مني.. وليس عندي ما أدفع به تهمة الإهمال والتراخي إلاّ أنني في هذه الطاحون التي يدعوها الاصطلاح مصر، وقد بلغ بي الإعياء أقصى حدوده ولم يبق لي من الجهد إلاّ ما أدور به مغمض العينين أو أتنقل.. وقد أعفاك ذلك من أن أردد على سمعك الكريم قديم شكواي وبثي، فأحمد الله على السلامة. |
وعجبت لأنك لا تزال موفور النشاط في الإقبال على الحياة، هذا الإقبال الذي يزيده الحماس الدائم إعجازاً.. على وفرة العيال، وقلقلة الحال، وغموض المآل.. زادك الله صحة وقوة وأخذ بيدك في سبيل التوفيق، حتى تحقق أقصى ما تصبو إليه من الآمال في حياة طويلة، عريضة، زاخرة بأسباب السعادة والمسرة. |
أما صديقك ديل، صاحب دع القلق.. وكيف تجتذب الأصدقاء، فإنه خليق منك بهذا التقدير.. وقد عرفت أن عريف حمل إليك خمس نسخ من كتابه، فما حاجتك بكل هذا العدد؟ وعلمت أن عبد اللطيف جمجوم قدم إليك نسخاً أخرى منه، وهذا يشير إلى أن هناك طارئاً عقلياً يركبك أو تركبه. بعد أن قرأت ديل.. |
إن المسألة يا صديقي بالنسبة لي إني كنت أول من قرأ خلاصة وافية مترجمة عن الكتاب. ثم أول من قرأه بعد أن طبع، ثم أول من اقتناه بعد أن قرأه.. وكنت أيضاً أول من قرأ كتاب كيف تكتسب الأصدقاء عند صدوره.. وأنا إلى ذلك غير قلق على ما فات، ولا على ما يأتي، ولم أشعر قط بالعجز عن اجتذاب الأصدقاء واكتسابهم.. وكل ما في الأمر أني كنت ولا أزال وسأظل على الدوام متعباً من ممارسة الحياة على هذا النحو.. أما التصرف على قاعدة فرض أسوأ الاحتمالات فهذا شأني منذ انتهت بي التجارب إلى هذا المصير.. |
ولست بحاجة إلى من يقول لي إن شعوري بالتعب خطأ، بل إلى من يصف لي علاج هذه الحالة بغير الراحة التي أعرف أنها العلاج الطبيعي لها لولا أنها لا تتأتّى.. |
أما أن الكون جميل.. وأن كل ما فيه مشرق مفعم بالمتعة، فدعوى لا تفتقر إلى دليل، بل هي صدى ما في نفس كل حي.. ولكن هذه الجهود التي تفني وتضعضع قدرتنا على الاحتمال -وهي: أي الجهود، ثمن الحياة الذي لا معدى عن أدائه- هي مصدر التعب لا القلق.. |
إن الموت وهو أكبر كارثة تنزل بالإنسان، لم يعد يشغل بال حي من الأحياء، لا باعتبار التسليم به كنتيجة لا محيص عنها أو منها، بل باعتباره ضرورة يستدعيها منطق الحياة ذاته.. |
وعلى هذا فأنا لست قلقاً على أخي، لأن قلقي لن يدفع مصيراً محتوماً.. ولكن تعبي من معاناة هذا الجزر والمد اليومي في حالته، وما يترتب عليهما من مضاعفة الجهد على متعب مكدود -هو الشيء الذي لا يعالجه ما يقول ديل.. |
لست خائفاً من الحياة، ولا على شيء فيها.. ولكن أنيني هو أنين المتعب يلتمس الراحة، والفرصة لها، ليقبل على الحياة إقبال ذي شعور مستقر.. |
ولقد ظلمتني عندما قذفت في وجهي بحقيقة أني ضد الإطراء، في رسالتك الأولى، فلو كنت كما تعتقد أو تظن لما نزلت أنت بجملتك وتفصيلك من نفسي ورأيي فيك هذه المنزلة.. وأنا لا أسلب الحياة ولا الناس محاسنها ومحاسنهم، ولكني أقرر حقيقة الطبع، والغريزة الإنسانية. ولا أخرج في هذا التقرير عن حقائق سجلها العلم، والعقل باستقرائهما.. وهذا لا يعني التقبيح، وإنما يعني التصحيح، وما زال العيش بالأوهام مطلب نفسي وعقلي وخيالي، ولكن أين هي الأوهام وقد استمر فيها الفناء والتلاشي؟.. |
إنك تُقبل على الطعام بالشهية، والشهية رمز القدرة على الهضم والاستخلاص. وشتان بين انصرافك عن طعام تعافه، وانصرافك عنه بفقدان الشهية. |
فإذا كان من دلائل القدرة، والصحة، أن تأكل حتى ما تعافه النفس، فليس من دلائلهما أن تأكل على فقدان الشهية، والاستغناء.. |
وصديقك ديل بسيط الفكرة خفيفها.. فهو لا يعرف أن التفاؤل والتشاؤم لا يغيران من الحقائق شيئاً سوى أن التفاؤل يعدل المزاج.. والناس يعرفون على الدوام ألوف الأسباب لتعديل أمزجتهم.. حتى بالوهم عندما تتاح أو تستعصي أسبابه.. |
التوتر -لا القلق- هو مرض الناس في هذا العصر.. والتوتر في حالتي -وأشباهها- منشؤه التعب، وتوارد أسباب الكد، والمتعب لا يشكو إلاّ متى آمن بأن هناك راحة ممكنة وإلاّ لانتفى سبب شكواه بفقدان ما يتطلبه ويأمله، بل بوجوده، وهل في الطبيعة الإنسانية أن تتشبث بمعدوم؟ |
والكلام هذا يطول ويثقل.. ويمكن الاقتصار على أن الناس أمزجة، أو أنهم أحاسيس، فبهذه الأحاسيس يتعب المتعب، ويرتاح المرتاح.. أفلا ترى رجلاً تقوم حوله الدنيا وتقعد، وهو موزون الخطو فيها؟ إنها ليست القدرة بقدر ما هي الإحساس والفهم والتلقي.. |
ولا أنكر أن مرد بعض حالات الشعور بالتعب، يعود إلى علّة عقلية أو إلى سبب من مرض.. ولكني قد تخلصت من هذه الزوائد.. ولم يبق إلاّ التعب (الصافي)، ولا بد أن يتوازن الجهد مع الطاقة يا صديقي ليكون الاحتمال ممكناً.. والحمَّال الضليع يحمل أضعاف ما تحمل أنت في الوزن ولا يرزح أو ينوء فهل تُعاب أنت بأنك لا تحمل ما يحمل، على تساويكما في الجِرم ظاهراً.. إنها الطاقة العضلية.. وهذا الحمَّال ينوء بما تؤديه أنت في ديوانك ويتضعضع به بنيانه الوثيق.. أيضاً.. وهو في منطق الوزن لا شيء.. |
إن ديل كارنيجي -إن كان اسمه هكذا- يعالج المشكلة بتركها، فكم من المشاكل تُطرح عن عوائق الناس بهذا (التعديل)؟.. أليست هناك مشاكل تطرحها..ولكنها لا تتركك.. وتركبك بلازم من المعاناة.. والمحاولة؟ |
ابنك المريض المتهافت.. عرفت من طول علاجك لمشكلة مرضه أن لا حل لها.. في وسعك أن تخرج مشكلته من دائرة حزنك وقلقك على مصيره. ولكن أين هو المصير؟ وكيف تخلص من عناء السهر عليه، وجهد العناية بأمره وبأمر هذا الوجود.. الملح عليك بحاجاته.. المتضاعفة؟.. |
إنه كتاب ولا شك من أجود ما يقرأ قارئ ويقتني.. إنه ينهض بالعزيمة الخابية، ويجلو النظر الكابي، ويدغدغ النفس، ويحمل على الاسترخاء.. ولكنه لا يحل المشكلة، إلاّ بما تحلها به الخمرة.. والحشيش. إن بلغ هذا المبلغ وما أراه بالغه.. أفهذا كلام تشمله حقيقة أني ضد الإطراء؟ |
ليتني أفرغ لدراسة هذا الكتاب، أو ليته الآن أمامي، لآخذ منه وأعطيك. |
أما كيف تكتسب الأصدقاء.. فهو خبطة من الخبطات الأمريكية.. خبطة موفقة، تصور لك الطرقات تحت الضوء الملون، والمكياج المتقن، أما ما تحت هذا ووراءه من حقائق الوجود، والنفس، والغريزة، والطبع، والاكتسابات الإنسانية المعقدة، فمتروك بجملته "للواقع" الذي لا حيلة فيه لديل.. ولغير ديل.. وعليك إذا أردت أن تشتري السعادة والبهجة من المتجر.. أن تضرب، وتتلقى الضربات في سكون طالما أن الأيدي في قفازات من الحرير الناعم.. فهذا هو كل قانون "اللعبة!" في العالم الحي. |
لقد كان ديل خليقاً بأن يسمي كتابه كيف تتفادى خطر الأصدقاء وشرورهم، فإن كيف تكتسبهم أمر في غاية اليسر والسهولة.. |
وبعد فما يطول الكلام إلاّ على هذا النحو.. وهو ليس سلباً لمحاسن الرجل أو الكتاب وجهدهما، في تعديل "الأمزجة" كما سيقع في اعتقادك على أرجح الظنون، ولكنه تحقيق لدعواك عنهما.. فقط! وما آمل أن أنجح في زحزحتك عن اعتقادك.. ولكني أقول ما يستوجبه القول عندما تسنح فرصة للثرثرة.. |
ولقد أردت أن أعالج حالة أخي، فأغريته بالكتاب، وأعجب هو به إعجاباً كإعجابك، وراح يعالج مشكلته النفسية، أو العقلية على أساس إيمانه به.. ونهض برغبته في النهوض، متشبثاً بالسلامة.. ولكنه تعثر بعامل التضعضع. إنه متعب تحت ثقل يؤوده.. ولكنه ثقل ملازم، لا ينزاح إلاّ بالطرح.. والطرح هنا البتر.. وما زال مجال الجراحة، الجسد، لا الدم، ولا النفس، ولا العقل.. |
ادع إلى الله يا صديقي أن يردّ الطمأنينة إلى النفوس بالإيمان، والصحة إليها بالعبادة والإذعان، وأن يزيل الكدّ وأسبابه من شتى المتاعب، بالتوفيق والعون منه. فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ودمت. |
|
|