صنوف الناس |
أخي محمد عمر |
كان الله لي ولك. إننا نحمل على الحياة، ونوجِّه إليها اللوم والزراية ونراها مليئة بأسباب الشقاء والتنغيص، وكل هذا ليس فيها، إنما يجيء من داخل نفوسنا.. تصنعه مشاعرنا وأحاسيسنا المرهفة أو المنحرفة أو المريضة أو الشاذة، فتصنع به هذا المضض الذي نغصّ به ونضوي. |
لقد كنت خليقاً بأن أقول كلاماً ضد هذا تستقيم به الحجة، ويؤيده الواقع المطّرد، ولكنني قلت إذا لم يكن الأمر هو هذا فما بال غيرنا من الناس ينطلقون في سبل الحياة أو في سبيلها الواحدة، يأخذون ويعطون فيربحون ويخسرون.. |
فإذا نظرت إلى عيونهم لم تر فيها معنى من معاني الاختناق أو الإنكار أو القلق أو عدم الرضا؟ أهي البلادة التي لا تتألم لأنها لا تحس، ولا تفجع لأنها لم تحرز؟ كلا.. إنما هي دلالة الصحة وأثر العافية، وتوفر القدرة الطبيعية على الهضم والتمثيل، إنما نقيضتها فينا الضعف والمرض الذي يستحيل به كل سبب من أسباب الرضا والبهجة إلى سبب من أسباب الضجر والانقباض. |
والناس يا صديقي ثلاثة صنوف: صنف يرتبط بالماضي.. وصنف يتطلع إلى المستقبل، وصنف يأخذ بخاصرة الواقع أو يأخذ الواقع بخاصرته.. فالأول يهيم بفائت.. والثاني يتعلق بغيب محجوب.. وكلاهما يغمض عينيه ويستحضر الصورة التي يهواها في اللحظة التي يريدها على الحال التي تلذّه، فإذا هو في عالم طري من صنع يده يستوي على ما تريد منه ويقدر.. فإذا فتح عينيه تفكك وتناثر واحتل محله عالم بغيض لا تستطيع اليد أن تصنع فيه شيئاً مما تصنع في ظلمتها الخاصة.. فإذا بالتنافر أو التباين بين العالمين يفيض ببواعث التنغيص والاصطدام والأسى. ولن تستطيع أن تقول له إن الحياة التي يسعد بها الناس هي التي تشقى بها أنت، وما يسيغون فيها هو ما تعاف منها فإنه يعرف أن هناك عالماً يستوي فيه كل شيء على ما يريد ولكنه لا يفتح أبوابه للوالجين إلاّ في كل أربع وعشرين ساعة مرة! وهذا كل ما في الأمر.. فمن يقول إنه يهيم بباطل أو بما تعجز الحياة عن تحقيقه؟. |
فإذا أقبلتُ عليك أسألك، أو أقبلتَ عليَّ تسألني: من أي الصنوف الثلاثة نحن؟ قلت إننا من الصنف الرابع الذي يعيش ذووه نصفاً في الماضي ونصفاً في المستقبل كما تعيش "البرمائيات" بين الماء واليبس.. فإذا كنا أوفى إحساساً وانقباضاً، فلأننا أبعد نظراً، وأوفر علماً وأوسع رقعة أو أملاً أو خيالاً.. إنها مشكلة الارتباط بين الأحزان والفجيعة. |
هذا الكلام -إن كان كلاماً- هو من وحي رسالتك (15رمضان 1370هـ) التي كان فيها شيء يتأجج.. أو هو الشيء الذي يصور معنى النضوج على النار الهادئة.. هذه النار التي تسوى عليها آمالنا ومطالبنا طويلاً لتنقلب شيئاً يصلح لأن يكون غذاء تقوم به البنية لا شيئاً يمتلئ به الفراغ الرغيب وحسب. |
أكان في نفسك من قبل أن يتم انقلاب كهذا في وضع البناية الثابت ثبات البد؟ إنه الواقع يأخذ بخاصرتك فمل إليه بكل ثقتك ولا تنتقل بفكرك إلى ضباب المستقبل. وسيأخذ الله بيدك -إذا شاء- في طرفة عين فإذا أنت على ما تريد. |
سافر الشيخ محمود أبار ولم أره. وكان آخر اجتماع لنا ليلة عرس ابنه وظللت كل المدة بالبيت أدفع، بتفادي الحركة، التهاب قدمي في بوادره.. والحمد لله فقد كان لهذا الهدوء أثره في تأجيل المرض أو دفعه إن شاء الله. |
أرجو التلطف بإبلاغه سلامي واعتذاري. |
لقد كنت أود أن يكون عندك شيء عن هذا الخلاف بين شاكر وباخشب وعن أحوال الشركة.. فأنا كما تعلم أضع بيضي كله في سلتها، وما أحب أن يدور العراك فيفضي إلى نتائج لا تحمد مغبتها على المساهمين وأنا من سوادهم. |
إني أرى أن الشيخ إبراهيم يحاول بذكائه وفطنته النافذين محو شعوري بوجود عقبة في سبيلي. ولا أكتمك أن هذه العقبة مجرد فرض حسابي من وضعي وارتجالي يعينني.. التظاهر بالإيمان بوجودها على اكتشاف الميول وتفسيرها.. وهي في ذات الوقت مبرر فلسفي من المبررات التي أفسر بها هزيمتي المؤيدة تفسيراً يرى فيه الآخرون تعويضاً خفياً عن مرارة الفشل.. والمسألة -مني- لا تعدو التماس الستر أو تحريك الالتفات إليه كما في قصة لعلّك فأخذت؟ وإلاّ فبماذا تُفسِّر الرغبات الطيبة على تأتّي الإمكان لتحقيقها كل هذه الأعوام المتلاحقة من ذوي الصلاحية؟ |
هو نوع من أنواع النشاط الرياضي، ميدانه بواطن الفكر، تفسر به بعض العلاقات الطيبة بين نمطين من الناس تابع ومتبوع. |
مات ابن فوزان كما قد علمت الآن وآلمني أن يموت. لقد كان رحمه الله من هؤلاء الرجال الطبيعيين الذين لا يصرفهم النجاح والارتفاع عن تقدير آدميتهم بميزانها الصحيح. وكنت أرى أن هذا هو دليل أصالته وأن في فكره حياة.. |
أفلا ترى كيف تكون خاتمة المطاف بهذه الكلمة الخافتة الجرس: مات؟ رحمه الله فقد كان ذا بصيرة بالحياة على النحو الذي نفهمه، وكان حريصاً على أن يحيا.. تقبل تحياتي.. وإلى اللقاء يا صديقي. |
|
|