أغاني التقدير |
أخي محمد عمر |
هذا خطاب رصين العبارة غلب الوقار على كل كلمة فيه فكادت أن تكون رجلاً يحمل في إحدى يديه عكازاً وفي الأخرى سبحة.. ويقطر الخير وآثار الصلاح من محياه المنطلق صفاءً. ولو كانت على هذا الخطاب دلالة من التاريخ أرده بها إلى زمن صدوره، لكان في وسعي أن أحدد أو أعين مؤثراتك النفسية التي وجهت أسلوبه ومقاصده.. ولعلّ ميسم الوقار فيه، أثر من آثار الصوم في النفس، أو أثر من آثاره في الجسد منتقلاً إلى الفكر. |
قد انتهى -والحمد لله- أمر المائة، جداً ومزاحاً.. ولم يبق إلاّ أن تحسن التسرية عمن أزعجتهم بالمشاركة في مصابها شعوراً به، واشتغالاً بملابساته، وسيبقى بعد ذلك في كل نفس ما قرَّ فيها من الفهم الخاص والتفسير الخاص.. وهذا شر لا يُهَوِّنه اعتيادي الطويل له وارتياضي به وأنه حظي الذي لا مفر منه بل يهونه ضعف الذاكرة ووهنها عن أن يحيا فيها المؤثر مهما كان عنفه أكثر من يوم وليلة. |
وسترى أن أسلوب الوقار في خطابك قد أعداني، وأن أثر عدواه لن يكون إلاّ جدًّا لو تكلفت غيره، لما انتهى بي الأمر إلاّ إليك، ولا يسرني أن أفتقد دلالة من دلائل مرحك الذي يخرج بي من محبس انقباضي، فالجِدُّ ممن اعتاد معك غيره، نذير الغضب أو التغيير وكلاهما انقلاب، أو هو دلالة كبت النزوع الطبيعي في النفس، وإيثار نقيضه عليه وهذا تكلف. |
أما عزيز، وقناعه الكثيف، فدليل على أنه نضج في دلهي نضوجاً لم تحصل له به الفائدة إلاّ بعد فراقها.. ولكن للأمر جانباً آخر وهو أن حكمة الصمت تتعيّن بعد استنفاد وجوه الكلام وأغراضه. |
إن الذي أردت أن أعرفه يا صديقي عن عزيز أنه وجد مجالاً طيباً لتحقيق رغباته، وتقديراً صحيحاً لمواهبه وكفاءته وقدرته على الاضطلاع -اضطلاعاً بارزاً- بأكبر الأعمال وأدقها.. وهذا كلام أطلت فيه على مسمع الشيخ إبراهيم في مناسبتين كان فيهما هو البادئ.. |
وأشكر لك أنك طويت عني ما استفاض به الحديث منذ عدت أنت إلى الحجاز، فلا يزال الكلام سبباً من أسباب إثارة انفعال النفس، وإلاّ ففيم كان الحرص عليه استماعاً ورواية؟ ولا سيما في ما يشبه هذا الباب من أبواب الحوادث والوقائع. لقد كنت أبعد مني نظراً يا صديقي.. |
وفي ليلة دخول رمضان جاءت الأخت زائرة تفيض مرحاً وسعادة، وتوكيداً لهما بالادعاء العريض.. وقالت إنها منذ انتفاء أسباب المشكلة نعمت بالحياة.. وفاضت -والله- نفسي فرحاً بأن الله فتح لها من أبواب السعادة والفرح والرضى والراحة، ما لم يكن في الإمكان تأتّي بعضه لها في الماضي القريب. |
إن أمر عودتي إلى الحجاز وقف على ما يمكن أن يتهيأ لي من عمل فيه، فإذا عدت وتركت الأخ بمصر.. وجب أن أُؤدي عملاً غير التجارة.. فهب أن الوظائف تنتظر مقدمي.. فهل أنال أكثر من 1.000 ريال فإذا سألتك أن تنظم لي حياتي في نطاقها فماذا يسعك أن تقول؟ البيت، والسيارة، والقراج، والخادم والخادمة، والتصييف وخمسة العيال. |
دعني أتحدث إليك بطريقة أوروبية.. أيها السيد: لكي تعرف أهميتك في بلد ما. ابتعد عنه قليلاً.. وانظر من بعيد.. إنك ستجد في الغالب إن كل شيْ يسير في اتجاهه. |
هبني عدت فما الذي سيحدث؟ وظيفة بألف ريال؟ أهناك شيء غير هذا؟ التجارة؟ فهمت. ولكن رأس مالي كله لم يعد صالحاً للتداول. إنه عملة باطلة.. لم يعد لها رصيد ضمان.. أفلا يتحتّم أن أبدأ من جديد فأتعلم كيف أعيش.. إني يا صديقي لم أعرف كيف أعيش في مجلس الشيخ إبراهيم.. الرجل الذي أبدى من التلطُّف لي والاهتمام بي ما كاد يفقدني عقلي.. لقد غدوت كالمرأة التي عاشت وراء سترها حتى بلغت الكهولة.. فإذا دفعها الضنك لالتماس المعاش وجب أولاً أن تتعلم كيف تصطاد رجلاً أو كيف تحمله على أن يصطادها. إني أسمع أغاني التقدير لكفاءتي ولأخلاقي ولقوتي من أصحاب السمو ومن أصحاب السعادة، أعواماً طويلة ممتدة: ولكن أهناك شيء محدد؟ كلا.. فإذا نظرت لأعرف أهميتي، وجدت كل شيء يسير في اتجاهه.. حتى أنا.. أسير في اتجاهي.. وأتمتع بالاستماع إلى أغاني التقدير وطقاطيقه! صحَّ عزمي على الانتقال ورأيت أن أضع عيالي في مدرسة داخلية.. وسألت عما ينبغي أن أدفع فإذا به 4 × 500 = 2.000 جنيه سنوياً -والسنة 9 شهور فهل تحسن أن تحسب معي هذه العملية البسيطة؟ |
ومع هذا فالعودة أكثر من ضرورة وستتم على نحو ما كرهت أم رضيت.. إنك عميق الصلة بالشيخ إبراهيم فلماذا لا تسمع منه شيئاً محدداً؟ وعميق الصلة بسمو الأمير عبد الله وهو يعرفني فلماذا لا تعرف منه شيئاً معيناً -شيئاً يحملني على المبادرة بالحركة أو تقريرها؟ إنها مأساة هاردي: "من يحفر عند قبري".. |
علمت أن أحمد فتحي عُيِّن أو سيعيَّن سكرتيراً عاماً لوزارة الداخلية في عهدها الجديد، فهل هذا صحيح؟.. وسألتك في خطابي الماضي عن مصيرك أنت وهل ستندفع في هذه الحركة أم تظل حيث أنت؟ إنها أسئلة تنتظر كلاماً.. كلاماً يراد به حركة يدفع بها السكون، أو يتم التنفيس فهل تضع لها على وجهك الستار الكثيف؟ |
لقد أطلت. فإلى اللقاء وحفظك الله. |
|
|