شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة من القلب
بقلم شيرين حمزة شحاتة
إن الأقدار دائماً هي صاحبة الكلمة الأخيرة.. ولولا الأقدار لما كانت هذه الرسائل.. التي هي بمثابة الكنز الثمين الذي تركه والدي..
فقد عدت إلى أرض الوطن لأبدأ رحلة جديدة في حياتي.. هي رحلة الزوجية.. على أن تلحق بي الأسرة بعد عدة أشهر.. فيجتمع شملنا من جديد على أرض الوطن الحبيب وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ (الإنسان: 30) وشاء الله ألا يعود والدي إلى أرض الوطن إلا في زيارات قصيرة خاطفة عائداً مرة أخرى لبلاد الغربة بسبب ظروف صحية وعائلية وبسبب عدة ارتباطات وقضايا معلقة.. لم يكن يقدّر لها الانتهاء.. إلى أن عاد الغالي ليدفن في تراب وطنه الحبيب!!
ويشهد الله كم تعذبت بسبب البعد عن أهلي وأسرتي وأخواتي وكأن الله أراد أن يعوضني عن هذا العذاب.
((فكانت هذه الرسائل))
كان هذا بالرغم من أنني كنت سعيدة الحظ.. فقد حباني الله برجل يتميز بأفضل مزايا الرجال.. وهو زوجي.. فهو منذ أن ارتبطنا ودخلت إلى حياته.. لم يدخر وسعاً في إسعادي.. وبذل كل ما يستطيع من أجلي.. ولكن!!
يظل فراق الأهل والبعد عنهم خصوصاً بالنسبة لفتاة صغيرة آنذاك.. شيء مختلف لا بد أن يترك ألماً ووحشة حتى يتم الاعتياد بمرور الزمن..
وكأن الله أراد أن يعوضني عن هذا العذاب فكانت هذه الرسائل!!
الرسائل التي بقيت لي بعد أن ذهب كل شيء.. والتي لم يكن مقدّراً لها أن تكون لو كان الشمل قد اجتمع..
هذه الرسائل الخاصة التي لم يكن مقدراً لها ذات يوم أن ترى النور مع أنها كانت النور الذي طالما أضاء لي طريق حياتي.. والتي كانت تجيئني على البعد فتمحو كل عذابي.. كان يبعثها لي (رحمه الله) ليخفف بها ألم وحدتي وابتعادي عن الأهل والبيت والأخوات.. ولكن أسعدتني وأثرت حياتي ولطالما كانت السند والحافز في كل ما يتعلق بحياتي.. كيف لا وقد كان كاتبها أبي (رحمه الله) الحب الكبير في حياتي!!
أصبحت هذه الرسائل على مرّ الأيام جزءاً عزيزاً من نفسي.. بل قطعة من روحي.. أقرأ كل رسالة منها عشرات المرات.. فتعوضني عن غياب الوالد وتؤنس تعطشي لوجوده إلى جواري.. فكانت النصائح التي تضمنتها خير مرشد ومهذب.. أعود إليها فأستأنس بحكمته وفلسفته ونظرته العميقة للحياة!!
وفجأة وبدون مقدمات قفزت إلى ذهني فكرة!!
لماذا لا أطبع هذه الرسائل في كتاب يكون بين يدي كل الناس.. ليشاركوني إعجابي وفرحتي ومتعتي بها عندما يقرؤونها.. لقد كنت واثقة أيامها أنها متعة وفائدة لأي إنسان يقرأها..
كان هذا منذ أكثر من عشر سنوات ولم أكن وقتها قد نضجت النضج الكافي فبعثت لأبي برسالة أخبره فيها بما حدثت به نفسي.. فردّ عليّ عاتباً وحذرني بشدة من الإقدام على مثل هذه الخطوة.. وسافرت وقتها إليه، وأذكر أنني جلست أحاوره ذات ليلة في موضوع نشر الرسائل وأحاول إقناعه برأيي بشتى الطرق.. وقد استمر نقاشنا حتى مطلع الفجر.. ولكن دون طائل.. فقد كان من الصعب أن يرجع أبي عن قرار اتخذه.. وقد ورثت أنا أيضاً بعضاً من صفاته وكان من الصعب أن أرجع عن قراري وبالطبع فقد اضطررت أخيراً أن أوافق على رأيه دون اقتناع، ولكن احتراماً مني لرغبته كوالد أجلّه وأقدّره!
لقد كان، (يرحمه الله) ويكرم مثواه، يحب البعد كل البعد عن الشهرة وتسليط الأضواء على أي عمل يقوم به.. وأبسط الأمثلة على ذلك.. أن صحيفة الأهرام القاهرية نشرت عنه ريبورتاجاً مصوراً.. ويبدو أن الكاتب كان من أشد المعجبين به.. ذكر خلال الدراسة التي أعدّها عنه كلمات مستفيضة من المدح عن شخصيته وأدبه وشعره.. إلخ.
وأذكر يومها وكنت في حوالي الثانية عشرة من عمري.. أن صعد أحد الجيران في العمارة التي كنا نسكنها وجاء بكل شغف وإعجاب ليقول لأبي وهو ممسك بالجريدة "أنت هذا الأديب العظيم والشاعر العملاق تسكن بيننا كل هذه الأعوام ولا نعلم عنك أي شيء من هذا".. فردّ عليه أبي بمنتهى الأدب والتواضع وهو ينظر إلى الأرض.
"لست أنا يا سيدي المقصود بهذا الكلام المذكور في هذا الريبورتاج.. لشد ما كان يسعدني ذلك.. ولكنه مجرد تشابه في الأسماء.. فهناك أديب مشهور حقاً في المملكة اسمه "حمزة شحاتة" أما حمزة شحاتة الذي أمامك فهو إنسان عادي يعمل مربية لخمس بنات!" وانصرف الجار بعد أن تأسف لوالدي عن اللبس الذي حدث.. وهو يود أن يقابل ذات يوم الأديب حمزة شحاتة!!
رحمك الله يا أبي رحمة واسعة.. لقد كان سر عظمتك دائماً في حسن أدبك وبساطتك وتواضعك الجم!!
هذا هو باختصار "حمزة شحاتة" أبي كما أعرفه أنا.. وكما عرفه أصدقاؤه ومحبّوه.. وكما ستتعرفون إليه من خلال رسائله..
أعود وأقول لكم إنني جمدت فكرة نشر الرسائل على أن أثيرها من جديد لعل الوالد يقتنع أخيراً.. ولكنه ظلّ مصراً على رأيه حتى آخر لحظة على رفضه التام.
وتجمدت فكرة نشر الرسائل تماماً في رأسي بعد وفاته (رحمه الله) إذ إنني ظللت ولعدة سنوات لا أستطيع أن أمسك بها أو أجرؤ أن أقرأ حرفاً منها لأن نفسي كانت تسقط في حزن عنيف من الصعب أن تصوّره الكلمات.. وأصبحت بعد رحيله هي ناري وعذابي.
وفقدت حماسي لنشر الرسائل.. وتوقفت رغبتي عن الكتابة.. وعن عمل أي شيء.. اختفى طموحي وحل محله اليأس والإحباط والرغبة في لا شيء.. ولعل خير مثال على ما اجتاح شعوري هو البيت الشهير الذي كان يردده دائماً على مسامعي (رحمه الله):
"من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر"
لطالما ردّد هذا البيت في مواقف كثيرة.. وكان يشرح لي أعماقه وأبعاده في حياته إلى أن أصبح حكمة أطبقها أنا أيضاً على الكثير من أمور حياتي وخصوصاً بعد وفاته.
نعم ها هو الآن قد رحل.. ما جدوى أي شيء بعده حتى لو كانت كلماته؟! هل أتمسك بالقشور بعد أن ذهب الأصل.. لم يعد هناك شيء يهم بعد رحيله.. ولا حتى الرسائل التي طالما أعجبت بها وأحببت كل حرف فيها..
ذهب التصميم والعزم وحل محله اليأس والألم والمرارة وأصبح شعاري:
"من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر"
فليمت مشروع نشر الرسائل إذن وليمت كل شيء بعده!!
كثيراً من الأخوة والأصدقاء المقربين لم يرق لهم تصرفي.. وكانوا يلحون دائماً عليّ بالتفكير في مشروع نشر الرسائل مجدداً.. وكنت أبدو مقتنعة لفترة قصيرة ثم لا ألبث أن أغير رأيي وأقابل إلحاحهم بسلبية وبعدم اهتمام..
وكان زوجي على رأس الملحين.. لأنه من أشد المعجبين بأسلوب الوالد.. وقد كان يشجعني على أن أعيد لنفسي حماسي القديم ويقول لي "إنها قطعة فنية من الذوق والأدب الرفيع يجب ألا تحرمي الناس من متعة الاطلاع عليها".. وبدأت أفكر في الموضوع مرة أخرى!!
والآن وبالتحديد في مطلع شتاء هذا العام عندما كنت أنا وزوجي في لندن وقد أعطيت أخيراً كلمة للأخ الكريم الأستاذ محمد سعيد طيب، مدير عام مؤسسة تهامة، بعد أن نجح في إقناعي بنشر الرسائل.. وللحق فهو يملك قدرة خلابة على إقناع الشخص الذي أمامه بفضل كياسته ولباقته وذكائه.. فيطبق عليه القول "الرجل المناسب في المكان المناسب".
الآن أحس بالتحرّج الشديد وبالحزن العميق أيضاً على إعطاء هذه الكلمة ودعوني أصارحكم القول وأكشف لكم جانباً خفياً من نفسي قد يكون سيئاً لما فيه من الأنانية، ولكنه بالتأكيد له جانبه الحسن أيضاً وهو الوضوح والصراحة.. بعد أن بدأت في تنسيق الرسائل والسهر للإشراف عليها.. تحركت مشاعري في ثورة عارمة ضد نفسي.. فرسائلي التي أعتز بها وأحتضنها بين ضلوعي تخرج من بين أدق خصوصياتي.. فبعد أن كانت ملكي تصبح ملكاً للجميع؟! لماذا أقدمت على هذه الخطوة؟؟ لقد بدأت أشعر باللوعة لفراقها.. هذه الجوهرة الثمينة التي هي كنزي وثروتي وأغلى أشيائي لماذا أجعلها في متناول يد الجميع؟! وهؤلاء الجميع.. هل ينظرون لها بالنظرة نفسها التي وضعتها فيها؟؟
هل يقدرونها حق قدرها ويعتزون بها كما فعلت؟!
هناك من يقدرها لا شك وقد يعطيها أيضاً أكثر مما تستحق ولكن من يدريني أن أحدهم لا يقلب الكتاب بين يديه ثم يرميه باستخفاف قائلاً: "أب ينصح ابنته أو يشجعها ويبادلها كلمات الحب والعطف وما لنا ولهذا؟" أهكذا أقبل أن تعامل أشيائي الغالية؟! أهكذا أعرض والدي لمثل هذا الموقف وأجعل منه سخرية؟؟. وهو الذي كان يقول في كل مناسبة: "أنت فخري واعتزازي وعزائي عن كل ما أصابني"..
ليتني لم أكن منذ البدء.. لو أحسست أنني أكون السبب في المساس به.
من يدريني ماذا تخبىء الأيام؟! إن والدي كان أوسع نظرة وأكثر حكمة ونضجاً عندما قال "كل فتاة بأبيها معجبة".. ومن يدريني ألا يكون هذا منطق الأشياء؟! ليتني إذن كنت أكثر حكمة ونضجاً وتعقلاً.. ولم أضع نفسي في هذا المأزق الحرج!!
والآن.. هأنذا أتقدم نحوكم بالرسائل وكلي خوف ووجل وألم.. أتقدم بها لا رغبة مني في ذلك (ومعذرة لصراحتي) ولكن وفاء بالوعد واحتراماً للكلمة التي أعطيتها.. وقد حرص والدي طوال حياته على احترام الكلمة.. ونجح أيضاً في أن يغرسها في نفسي.. وهذا وحده يعطيني القليل من الراحة لبعض الوقت.
كلمة لا بد منها..
أرجو أن يتجاوز القارىء الكريم عن أي عبارة مدح أو إطراء جاءت أو تكررت في الرسائل.. وليعتبرها دفقات حب وحنان أب كان يشجع بها ابنته ليعوضها بهذه الكلمات عن بعده وخصوصاً وأنه في الغربة..
وقد كنت مصممة منذ بداية إعداد الرسائل على حذفها باعتبار أنها كلمات خاصة وجودها وعدمه لن يغير في صلب الموضوع.. ولكن الأب الكريم الأستاذ عزيز ضياء رأى أن تظل الرسائل كما هي دون حذف فاستمعت لنصيحته لأنه نِعم الأب الذي يسعدني أن أستأنس برأيه دائماً وأقدّر نصائحه الغالية "أطال الله عمره وأبقاه لنا".
والله ولي التوفيق.
شيرين
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1295  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.