عظيم
(1)
|
تتفاوت مقادير الرجال الممتازين بمقدرتهم على الابتكار والتجديد. |
وللعقول أجواء خاصة تتميز بسماتها وإشراقها. والعقول التي تتوازن كفاءاتها في غير أجوائها هي خير العقول وأقواها وأتمها نضوجاً. |
وإنك ليدهشك أن يكون الطبيب كاتباً قديراً. فإذا كان شاعراً موهوباً زادت دهشتك، فإذا كان سياسياً محنكاً أو خبيراً بفنون الحرب أفعم نفسك إعجاباً لا مزيد بعده. |
ونحن نفضل قطعة من الأرض على مدينة زاخرة بالمعجبات لأن الفتنة التي تتجمع أسبابها في القطعة متجاورة متناسبة -لا نجدها في المدينة الحافلة ففي المدينة طراز من الصناعة لا يتغير، فهي عاجزة عن استفزاز مشاعرك الفنية وتغذيتها ولكن هذه القطعة تتعدد فيها الصور وتزدحم فهي ترمز إلى صناعة الحياة المدنية، بما فيها من قصور ونظام وإلى فن الحياة النفسية، بما فيها من بساطة طبيعية، وإلى متعة الشعر بما يجول في حواشيها من حلاوة الريف وعذوبته وامتداده! |
ونحن نعجب بالبيت من الشعر أو بصورة من ريشة الرسام على مقدار ما يزدحمان به من معان ورموز. |
فالرجال هكذا ورب رجل يأخذك بدسامة ظاهره ووسامة مخائله وحفول ملامحه، فإذا تكشف لك في مجال المحدود عن طاقاته الباطنية: لم يعد أن يكون في عينك نجماً يتألق ولكن في فلكه الخاص المحدود. فإذا اندفعت فيه مع أطماع خيالك الشره ودفعته إلى فلك غير فلكه اضطرب وتذبذب، وانقلب شرارة تجذبها عوامل غيرها من الأفلاك وتلعب بها. |
وأنا اليوم أمام صورة رائعة، صورة رجل عظيم، نسوق هذه المقدمة للكلام على عبقريته لا لتحليلها، فنحن من المؤمنين بأن في نفس العظيم وسبيله في الحياة، سراً خفياً من العبقرية الموهوبة يعجز عن إدراكه التحليل. |
هذا الرجل هو صاحب المعالي وزير المالية الشيخ عبد الله سليمان الحمدان
(2)
الذي تتألق عبقريته في كل فلك يغشاه، فهو في حفول نفسه بمعاني العبقرية الفياضة أكثر من رجل، وأكبر من عظيم. وما بالك برجل يأبى إلا أن يكون في كل أعماله، معنى من الابتكار والعمل الجبار؟ ومعنى من الأمل المنظم، ومعنى من الطموح الزاخر؟ |
وما بالك بعبقرية تضم أطرافاً واسعة من العمل والبناء، وألواناً من الرغبات والميول. وروائح من الابتكار والتجديد والإصلاح، والجهاد المستعر لها؟؟ |
ولسنا بسبيل الاستقصاء والإحصاء وحسبنا الإشارة والتوجيه. |
ولأن من حسنات عاهل العرب الأكبر عبد العزيز الأول، ما نراه اليوم من آثار بارزة في نهضة شعبه الكريم، وإصلاح سبيله في الحياة، فإن من أكبر الحسنات ولا شك أن يكون هذا الوزير الخطير، يداً عاملة لجلالته. |
إن ميادين النشاط، كميادين الحرب لا نفاذ فيها إلا للشجاع المقحام وهي إلى هذا كمجالات السياسة، لا سبيل فيها إلا للفكر البصير، والذهن المبتكر، والخيال. |
كل هذه الصفات يطالعك بها وجه هادئ رصين الملامح تترقرق فيه قوة الأمل، وقوة الإرادة وقوة الإيمان وتجول مجالها في حواشيه الوادعة معان جذابة من اللطف والكرم واللين واتساع مدى الشعور ومعان ناطقة تعبر عما يزدحم وراءها من ألوان العواطف والخوالج والإحساس الدقيق لكل ما هو جميل وعظيم، وسوي وفتان وقوي. |
هذا الوزير الذي لا تراه العين إلا هادئاً هدوء الفجر الحالم، لا يكون في داخل نفسه، وبواطن تفكيره إلا حركة دائمة ما تهدأ ولا تقر، وشعلة تتأجج بها عوامل مطمع جبار، وأمل ممتد، وتفكير لا تقف دونه الحواجز والضرورات فهو فوقها وبعدها دائماً. |
وعودته همته الظفر كله، فلا وعر إلا اجتازه ولا ذروة إلا اقترعها وعودته فنوناً من الظفر الشعري، أروعها فن ظفره بقلوب الرجال، فكأنما في نفسه، سحر نفوسهم ومغناطيسها. |
وفي لسانه فتنة تقود أعصى القلوب وأشدها مراساً، وتملؤها حباً وطاعة وتضحية، وتدعه في أذهان رجاله فكرة تضيء السبيل وتشحذ النفوس وتشد العزائم. |
وهذا شأن العظيم، لا يكفيه من نفسه أن تمتلئ شعابها حتى تفيض وتطفى وتنظم الناس حوله، وتسلكهم في طرازه. |
ولقد كان من حظ هذه المملكة أن يكون هذا الوزير فيها جمرة النشاط ودعامة البناء، وعنصر الحيوية، فما فتئ منذ تولى شؤون وزارته وأعمالها الواسعة دائباً على العمل والتجديد، والابتكار والتنظيم، بخطوات موفقة، تقترن فيها التؤدة الحكيمة -وهي حركة هادئة متبصرة- بالسرعة وهي رمز العبقرية واقتحامها. |
ومن آثار تجديده وابتكاره في دوائر الأعمال، ما كان في ذاته دعاية باهرة للإدارة العامة في هذه المملكة، وهو في مواقع الشعور فتح للقلوب وغزو لعواطفها. ومن ينكر أن من خير الدعايات أن يكون لبناية الجمرك الحديثة هذا الرصيف الفني؟ وهي البناية التي تعاقبت عليها الحكومات من قبل وخلفها كما كان العهد بها مضعضعة في دلالتها على حياة البلد؟ |
ومن ينكر أن من دلائل النشاط في حياة هذه المملكة أن تكون لجمركها هذه المخازن المحكمة التي كانت نتائجها انقلاباً محسوساً في أسلوب حفظ البضائع ونهايتها؟ |
والجهد مبذول لإتمام مخازن لحفظ البضائع وقتاً أطول من الوقت القانوني، وسيكون الانتهاء منها إلغاء نهائياً لضريبة الأرضية التي لا يفهم منها التاجر إلا أنها حيلة الجمرك لاقتناصه، وهي ليست أكثر من حافظ على تعجيل تخليص البضائع في خلال أسبوع، لتنظيم الحركة، وإخلاء السبيل. في مشروع كهذا تجد طابع وزير المالية الإنساني أوضح من طابعه الرسمي أو الإداري أو العملي. |
فالفكرة فيه قائمة على ترقية التاجر وتبديد شعوره بالغبن والإرهاق، وعلى التقريب الفكري بينه وبين أنظمة الحكومة ومقرراتها ونصيب الفلسفة الإنسانية في هذا واضح بيِّن. |
ومن يتتبع خطوات هذا الوزير الخطير، يدرك أثر النزعة الإنسانية فيها وأثر النفس الشاعرة المستجيبة لنداء العواطف الاجتماعية الرحيمة. |
ولا يقف مجهوده عند الحدود بل يتخطاها، ويتخطاها دائماً فالشعار الذي تترجم له أعماله المجيدة وغاياته النبيلة هو، إلى الأمام! |
وإنك لتقف من أعمال هذا الوزير وميوله الصادقة، موقفك أمام الصناعة المدهشة ممزوجة بمطالب الفن الخالد. |
وأمام مواهب العقل الاجتماعي، مقترنة بصفات الفطرة. |
وأمام الإرادة الجائحة في سبيل من الحكمة والهوادة الإنسانية السامية. |
فإذا كان للنظام الاقتصادي والاجتماعي في أمريكا أن يفاخر بأمثال فورد وفي مصر بأمثال حرب وفي غيرها بأمثالهما من أصحاب الأعمال التي يتوفر فيها نصيب العنصر الإنساني والاجتماعي، أكثر مما يتوفر نصيب المادة، فإن لهذه المملكة أن تفخر بهذا العامل المصلح، صديق الشعب، وصديق المبادئ الفاضلة ومثال العبقرية الناضجة. |
وبعد فما بالغريب أن تخرج عظمة جلالة مليكنا -وهي مفخرة الجيل الجديد في تاريخ نهضة هذه المملكة- رجلاً فذاً كعبد الله السليمان. |
إلا وإن لسعود جلالة الملك، آيات رائعات، لا ينزل منها هذا الوزير إلا منزلة واسطة العقد من العقد، ولم لا يكونها وهو يد من أيادي جلالته البيضاء على نهضة شعبه المخلص المتطلع إلى الأمام؟؟... |
|
|