حمار
(1)
|
(3) |
والحمار من أوسع الحيوانات حيلة.. يؤيد هذا أن حماراً ألقى صاحبه في مستنقع متظاهراً بأنه عثر. وآخر صدم راكبه بشجرة شوك أدمت أطرافه ومزقت ملابسه. |
وكنت المحسود الوحيد بين الجماعة على حمارين ولا أشك أنه كان محسوداً من رفاقه أيضاً على هذا [الجنتلمان] الذي يحمله، وقد أتاحت هذه الفرصة لحماري أن يظهر بمظهر الدلال. |
ولاح لي في النهاية أني على استعداد لحمله لو أعياه الجهد، وما أحسب أن ذلك يضيرني، فهو خفيف الوزن والروح ويستحيل أن يتعدى وزنه سبعين كيلو. |
ولا أدري كيف كانت تنتقل خواطري وخوالج فكري إلى رأسه. فضاعف جهده في السير، ونهق نهقة أدركت بسهولة أنها تعبر عن احتجاجه، وكان هذا تأكيداً منه بأنه لن يضطرني لتلك التضحية. |
وأخذتنا روعة الطبيعة بين الجبال وسفوحها المكسوة بالعشب والحلفاء وجداول المياه المنسابة.. وصاح أحد الرفاق قد وصلنا مترجلاً عن حماره. ولكن حماري أبى الوقوف، وأخذ يوغل بين الجبال فأدركت أنه يعد لي مفاجأة سارة. ولم يجد الصحب بداً من اتباعي، أو على الأصح اتباع حماري الحكيم.. |
وكان أن اجتزنا مضايق صخرية انفرجت بعد دقائق عن صخور ينفجر منها الماء وتغطيها الأعشاب، ويعطر جوها شذى الشيح والحبق، وتضفي عليها السكينة أردية من السحر والفتنة والجمال. |
وثملنا مرة، فانطلقت الحمير ترعى، وتشرب، وتتوثب، وتضطجع، وتنهق نهيقاً موسيقياً لا اعتراض عليه.. وقد لاحظت أن في وسع الحمار [أي حمار] أن يكون نهيقه رفيقاً إذا شاء.. |
وكانت الحمير البدوية منصرفة عن التأمل في هذا الجمال الذي يغمر الكون كوننا الصغير. فكان هذا دليلاً على أن الألفة الطويلة لها لما في الطبيعة، توجد في النفس نوعاً من التخمة والزهادة. |
وكان حماري [دون الجميع] متنبهاً لدقائق واديه الفاتن.. وكانت تدور في رأسه خواطر وتتجلى في نظراته النشوى معان لعلها من خير الشعر وأروعه، لو كان إلى تصويرها من سبيل! |
وذهبت أترسم خطواته الموزونة، يظهر أنه ارتاح ارتياحاً عميقاً إلى هذا، فسار إلى جانبي، وألصق رأسه بصدري، أو بما وسعه أن يلمس منه، وشعرت بأن نفسينا متحدتان، ولم يخطر لي أن في هذا أية غضاضة، فوشيجة الرحم بين الأحياء وثيقة، وإن أنكرها عرف البشر القاسي، ورب حمار كهذا لا تجد بين كل ألف من الناس مثله رقة جانب، وخفة روح، وسلامة نفس، وصدق سريرة، ووضح عاطفة، وإن جيلاً من الحمير يخلقه الله على غرار هذا الحمار، لجدير بأن يفوق ألف مرة جيلاً من الأناسي، حرى بالأذى ومطبوعاً على الشر، والتزوير والنفاق والغدر. |
وسبحت في هذه الخواطر المتدفقة وأمثالها حتى تصورتني حماراً أرعى وأعيش في هذا الجانب من الأرض، عيشاً خفيضاً تطرد فيه أسباب الأمن والدعة والهدوء والسلوى، وتتلاشى عنده متاعب الفكر وآلام الحياة، ودواعي السأم والكلال. وتضيق فيه مطالب العيش وغاياته حتى تنحصر في مرعى خصب تتعهده السماء والشمس ثم لا تكون فيه لأحد بعد الله منة أو يد. |
وعشت في هذا الكون لحظة لا يعد لها عمر مديد مليء بالسعادة والهناء.. حتى أفقت على صرخة أحد الرفاق عضه حماره عضة أدمت ذراعه. ومضى يجري والحمار يتعقبه ثائراً ملوحاً بذيله. وألقيت نفسي مسوقاً إلى التدخل بينهما لحل المشكلة.. وأدرك الحمار غرضي فوقف بأدب فربت على رأسه وجبهته. وكان هذا بمثابة اعتذار عن غلطة الرفيق.. فتردد في صدره صوت متقطع، خلت أنه لغة في الاعتراف بالجميل والتقدير. |
وهكذا استطعت أن أسيطر على الموقف، وأن أتلافى فتنة كانت على وشك الشبوب بين الفريقين المتحمسين. وأستطيع أن أراهن أن الحمير الأخرى كانت على وشك الانفجار في اللحظة التي يبدو فيها أن أحداً منا ينتصر للرفيق [المعضوض] وهذا دليل على احترام الحمير للمبارزة الشريفة بين خصمين. |
والحمار طيب القلب، يساعده على أن يكون هكذا دائماً ضعف ذاكرته فهو لا يستطيع أن يحتفظ بالحوادث المؤلمة طويلاً، فسرعان ما تناسى الجميع أحقادهم، وعادوا إلى الصفاء مع أنه لم يكن هناك اندماج روحي ملحوظ. |
ونشر الليل أرديته على ذلك الوادي فزاده جلالاً، وكان كل شيء صامتاً كأنما يصغي إلى همس الطبيعة الحفي، ووسوسة الحصا، وأنفاس النسيم فودعنا هذه الحياة النابضة قافلين وكنت أتمثل في نظرات حماري معنى بيت المتنبي: |
أبوكم آدم، سن المعاصي |
وعلمكم مفارقة الجنان |
|
واستطاع حماري أن يملأ نفسي إعجاباً به، حتى اللحظات الأخيرة... وفارقته بعد أن اعتنقنا طويلاً على أمل اللقاء. وما أزال أحس في نفسي حنيناً وشوقاً ينزعان بي إليه نزوعاً ملحاً. |
وبعد، فهذه ذكرى صحبتنا الهادئة أبعثها كتحية إلى ذلك الرفيق الطيب. |
التوقيع |
|
|