شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حمار (1)
(2)
والحمار إذا غنى [أي إذا نهق] يقول شعراً، ولا يردد كلاماً، فهو في مأمن من اللحن والنكير، وتتبع الألفاظ والمعاني ومسخها وتشويهها... والإنسان على عكس ذلك، يجمع على السامع مصابين ويغثيه بحماقتين. وما لنا نقارن بين الإنسان والحمار وهي مقارنة لا يرضاها كلاهما.
والحمار من أكثر الحيوانات فرحاً بالطبيعة وشعوراً بمفاتنها ووحيها الصامت. وهذا دليل شاعرية عميقة ناضجة فياضة.
ونحسبنا غير مبالغين، أنه لو استطاع التعبير عنها [بغير النهيق] لأضاف إلى تاريخ الآداب والفنون شيئاً جديداً لا يقل جمالاً وتأثيراً عن أحسن ما يفاخر به الإنسان ويرتاح إليه.
وفي الحمار فكاهة عملية، تدل على ظرف أصيل، فقد رأيت حماراً يحمل رجلاً له سمت وأبهة، وكان الحمار مقدراً هذا وشاعراً به، وفي وقار مشيته، واتزان حركاته، دليل على ذلك. واتفق إن أفلت من الرجل ريح مسموع. فحبق الحمار. ولوح بذيله في مرح واضح.. وكان تجاوب فني بين الرصيفين... اتسعت معه حدود الحرية بعض الشيء!..
أما حماري الذي أمهد للحديث عنه بهذه المقدمة. فهو بدع بين الحمير. وأقسم بالله إنه لو كان إنساناً لكان مكانه بين من تشتغل الدنيا بذكرهم من العظماء والفنانين ظاهراً مرموقاً.
ولا أكتم القارئ، أني منذ كتبت مفرط الحنان على الحيوانات أو على ما يشاطر الإنسان معيشته منها، وقد كنت أرى أن عشرتها الطويلة لنا يجب أن تنشئ بيننا نوعاً من القرابة "المعقولة" ولا أنسى طبعاً أن فيها ما لا يستحق هذا العطف كالبغل مثلاً، فإنه لما فيه من الغلظة الواضحة، والميول المتشبعة بالشر والخشونة، ودلائل الجحود الشائعة في قسماته النافرة خليق بأن يبقى هكذا بعيداً عن قلب الإنسان وفكره.
والحيوانات عندي جزء من الطبيعة التي نرتاح إليها ونحبها، وتربى كثيراً من ملكاتنا الفكرية، ومشاعرنا النفسية على حسابها، وفي [الحيوانات] بعد أكثر جوراً علينا من الطبيعة، وآمن مفتنها ونحن بها أكثر امتزاجاً.
ومن ينكر أن الحيوان، جندي مجهول في تاريخ حضارتنا؟. ولو ذهبنا نزن الحقائق وزناً فلسفياً مجرداً لرأينا أن كل حمار، وكل فرس -وكل جمل... وكل كلب.. قد أسدى إلى الإنسانية يداً بيضاء، يجب أن لا يقل تقديرها وتقديسها عن تقديرنا المجاهدين في هذا السبيل... ألم تكن رفيقة الإنسان وعونه في سلمه وحربه، وهدمه وبنائه، وحله وترحاله؟؟ ألم يكن منها حارسه اليقظ! ومركبه الأمين، وأنيسه المخلص؟؟
وقد آنس حماري مني هذا الشعور الطيب أو تمثله في وجهي أول ما تلاقى نظرانا، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة فاتنة فمسحت له عنقه، ولعبت أناملي بأذنيه الناعمتين رداً لتحيته الرقيقة. فأخذ صدره يعلو وينخفض تأثراً بهذه العاطفة التي بادلني إياها بشهقات حارة.
وأقبل رفاقي في اختيار حميرهم، وكان لكل منهم طريقة تختلف عن طريقة الآخرين، وأسفرت عملية الانتخاب عن سقوط حماري فيه لفتوره وضآلته وبقي كلانا بلا رفيق فبسطت يدي إليه وكنا رفيقين.. ولم تكن لي علاقة مباشرة بالحمير قبل هذا الرفيق الوديع، وكنت مشفقاً عليه وعلى نفسي من نتائج جهلي ولكن مظهره، ونظراته، أوحت إلى الثقة به، والاطمئنان إليه.
وركبنا، وكنا خليطاً، لا تؤلف بينه إلا الإنسانية وإلا الصحبة.
وكان من السهل أن يحكم أي إنسان يصير على الحالة النفسية والفكرية لكل فرد من جماعتنا.. وكانت حميرنا دقيقة الشبه بنا. فكان بينها الحمار الحضري والبدوي والأنيق والبوهيمي.
ولم يكن لحسن الحظ حماري عصبياً فتم التفاهم بيننا على الأساليب التي تحقق رضاء كلينا عن رفيقه وارتياحه إلى عشرته.
ولاح لي بعد خطوات أن مزاج حماري من الأمزجة الميالة إلى الاستقلال فلم أشأ أن أثقل عليه. وإني أعترف في سرور بأنه لم يكن مقصراً في ما يجب عليه [كحمار كامل!] وكان يسرع في الأرض السهلة المتسعة ويتئد في المضايق والوعور. ووجدت بعد لحظات أن في وسعي الاقتناع بوجاهة تصرفاته، علاوة على أنها من مصلحتي.
ولم أجد ضرورة تدعو إلى التحكم في ميوله عندما كان ينتحي يسار الطريق بظرف مخالفاً في هذا الحمير الأخرى التي كانت تتجه إلى اليمين أو إلى الأمام بعناد.
وبالرغم من أن صحبي كانوا يؤكدون أن الطريق إلى اليمين، معولين على خبرة حميرهم وخبرتهم، فقد وضح أخيراً أن حماري كان أعمق خبرة -على حداثة سنه- من الجميع، وقد وفر علينا ربع المسافة.
وكانت المعركة محتدمة طول الطريق بين الحمير والركب، وهذا طبيعي لأن كل راكب يحمل عصا لا ترتفع عن ناحية من جسم حماره إلا لتقع على ناحية. وكانت لدي فرصة ملائمة لدراسة نفسيات الحمير عن كثب، فقد كان بعضها في ثورة عصبية ظاهرة، بينما كان البعض ضابطاً لأعصابه بتفوق وهذا القسم هو الذي استطاع أن ينتقم من راكبيه بإتقان ودقة!!
التوقيع
هول الليل
 
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :762  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.