حنفشعيات
(1)
|
شعر وشاعر!! |
أما الشعر فقصيدة طالعت بها صوت الحجاز قراءها في عددها الماضي، على أنها من الشعر العصري الرشيق. وأما الشاعر فهو عباس أفندي الحلواني المعدود بين أدبائنا الممتازين في جدة.. |
وقد مارس الشعر منذ يفع؛ وهو اليوم والد ثلاثة غير من ودعوا الحياة زاهدين فيها. |
وقد صهرته الأحداث، فتقلّب في أعطاف النعيم المتاح حيناً، واكتوى بوغرة الشقاء، وشظف العيش حيناً آخر حتى انتهت به سبيله الوعرة إلى وظيفة هادئة في إحدى الشركات الغنية، تدر عليه أجراً شهرياً ضمن له الكفاف.. والشعر... |
وشاعرية الحلواني؛ دعوى لا يستقيم عليها دليل، بعد اعتراف الدهماء، وبعد اعتراف جماعة من أصدقائه الأدباء!! وفي الدنيا متسع للناس أجمع ولآرائهم، وإن فات الحلواني أن ينتفع بهذا الاعتراف، فإنه لن يفوت أصحابه أن ينتفعوا بثواب حسن النية فيه إن شاء الله. ولن يفوتنا أيضاً! أن ننازعهم نصيبنا في هذا الثواب حباً في الزلفى إلى الله.. وإنها لفرصة!! |
وأما ما يهم القارئ بعد ذلك، فهو أن الحلواني مجدد ثائر، وآية ذلك ماثلة في قصيدته، لن يخطئ المتلمس البصير آثارها ودلائلها. |
وهو وطني أفناه طِلاب المجد لبلاده حتى أفلست أعصابه وتهلهلت، فأحب فتاة (وطنية!) بعد أن عاد من باريس وتدلّه فيها. وكانت محبوبته عامية جاهلية فأثر فيه جهلها وعاميتها، حتى فسدت ملكته وانقلبت لغته الشعرية خليطاً من العربية والفصحى، وبقيت له من الشاعرية صبابة أراقها في هذه القصيدة التي ما نشك أن شاعريته تودع بها آخر أنفاسها إلى عالم الفناء والتلاشي.. |
قال مهّد الله له سبيل الشفاء من هذا الغرام العنيف: |
أنت أبهى من أهل باريس أنت |
أنت يامي، متعة الناظرينا |
|
وأهل باريس -كما يعلم القرّاء- ليسوا ملاحاً كلهم، وفي باريس، كما في غيرها، الكسيح؛ والأعرج، والشوهاء والدردبيس ولعلّ كل ما في باريس من الجمال لا يبلغ معشار ما فيها من المقابح والعيوب. |
ولو قال الشاعر إن محبوبته، أكثر ظرفاً من أهل باريس، لتسلّح بدليل ضعيف من غلبة الظرف والأناقة عليهم. |
ويقول: |
أنت ياميّ أطيب القوم أنت |
كم بغنج العيون وجدي أهجت |
كم بسحر اللحاظ قلبي أذبت |
كم بفرط الجمال لبّي سلبت |
أنت أبهى من أهل باريس أنت |
أنت غوث الكئيب لو تعدلينا |
لا تغضي عينيك عني فتاتي |
فدوائي قد قال عنه أساتي |
نظرات من طرفك الوسنان |
|
والقوم شيء لم تسبق إليه إشارة، ولم يقل الشاعر أن حبيبته أطيب الغيد مثلاً لأنه يحب المبالغة، ولماذا لا يعطي دعواه معنى الشمول، فيزعم أن حبيبته أطيب القوم (أي قوم؟؟) رجالاً ونساءً ما دام للرجال جمال لا ينكره الناقدون؟ وليت كلمة الناس لم تضق بالشاعر في موضع القوم إذاً لأعفانا، وأهل باريس، من هذا الهذر. |
وطيبة حبيبة الشاعر، ما يشك فيها إلاّ متعنِّت؛ ولو لم تكن طيبتها أبرز صفاتها الحسنة. لما احتملت هذا العاشق الفاني يقرع سمعها بمثل هذا الغزل الضعيف الذي يشبه رقي السحرة، ودمدمة المشعوذين وعبث الحواة... |
ويطالب الشاعر حبيبته بالغوث، ولا ندري من ماذا!؟ ويتهمها بالجنوح عن العدل، ويزعم أن الأطباء قالوا له إن نظراتها دواؤه. وهذا كذب صريح على الطب والأطباء.. لأن هذا سبيل الدجاجلة الذين لا يتحرج الشاعر من تسميتهم أطباء وهو خلط كان ينبغي أن يعاقب عليه وما كان أجدر حبيبته بأن تكون منومة مغناطيسية تداويه مما ألم بأعصابه.. وليتجاوز معنا القارئ أبياتاً هزيلة يصف فيها الشاعر ريق حبيبته، ويشبهه بالطلاء ويثب إلى قدها اللدن ليقول أنه غايته وصفاؤه.. ثم ليستعذ القارئ بالله ويقرأ.. |
أنت أبهى من أهل باريس أنت |
(أنتَ توحي) القريض للشاعرينا |
|
فالشاعر هنا يخاطب حبيبته بصفة التذكير، يقول (أنت توحي) في موضع (أنت توحين!!) ثم يعاوده صوابه فيقول غير نادم ولا معتذر: |
فألهميني أو أرجعي لي مهاني |
بعض ما قد سلبت (أعني ثباتي) |
|
وهنا خطأ كان يتحرز منه الشاعر لو قال (كلما قد سلبت، أعني ثباتي) لأن ثباته على نظم هذا الشعر الفج في سن النضوج الفكري خليق بأن يعد بطولة نادرة. وماذا يبقى للحلواني بعد استثناء ثباته هذا، إذا كان مريضاً غير موفق في حبه، ولا في جهاده الوطني، ولا في القدرة على الكلام بلغة أجداده الذين يتيه بهم ويفخر؟ ليس إلاّ الثبات. وإذاً فهو كل ما سلبته الحبيبة من الشاعر لا بعضه كما زعم حين خامره شعور الفخار؛ طاوياً في أردانه الواسعة همزة التعدية في: ألهميني كأن هذا دليل بره بأجداده؟؟! |
ويعترف الشاعر في بساطة لحبيبته أن بيانه لا يمكن أن يكون ساحراً، إلاّ إذا ردت إليه ثباته المسلوب، ونحن نتوسل إليها، وننصح لها، ألا تنيله بغيته، رحمة برؤوس القرّاء، فقد قرأنا له شعراً قبل أن يحبها، وقبل أن يرى (أهل الأسماء المستعارة التي كان يوقع بها الأديب حمزة شحاتة بعض مقالاته باريس) فلم نستسغه. ولها عهد الله علينا أننا لم نقل إلاّ صدقاً!! |
ويتأوه الشاعر ويقول: |
.. لو كنت تشعرين شعوري |
حين كنا في الروض قرب الغدير |
نتهادى حديث سر خطير |
إذ بدا البدر فالتقى بالنظير |
أنت أبهى من أهل باريس... |
زوديني ما شئت من قبلات |
وخذيني (كالطفل بالأحضان) |
|
ما نظن هذا السر الخطير الذي كانا يتهاديانه إلاّ سحر بيان الشاعر وحبه وجهاده.. وإلاّ حكايات عن باريس وأهلها.. وهو حديث لا نعرف موضع الخطر فيه والله يشهد أنا لا نتعنت على الشاعر... |
ويزيد بلبال الشاعر فينقلب طفلاً وتنقلب الحبيبة أمًّا (تاخذه بالأحضان).. ويتوسل إليها أن تمطره القبلات، كأن الله لم يخلق له فماً يقبلها به.. وكأن فلسفة الحب عنده أن يتوسل ويطلب، لا أن ينشط ويأخذ، ويدلل على رجولته. ولهذا الغرام أشبه بغرام المرضى والمقعدين لا بحب الأقوياء الأصحاء.. |
ويقول: |
أنا مضناك ما حييت فهاتي |
من رحيق في الثغر باهي الصفات |
رشفة تبعث الهنا في الجنان |
|
يؤكد الشاعر لحبيبته أنه سيبقى مضناها ما عاش فلو مد الله في عمره قليلاً حتى شارف الأربعين، وهو نضوج هزيل لكان حبه إياها كارثة تسحق صباها سحقاً، وتنزلها من الحياة في مطمورة مظلمة.. |
ويضيق صدره بالتدليل والإسراف في تصوير حبه، فيختصر الطريق ويقول لها في أسلوب عاميّ مبتذل (هاتي من رحيق في الثغر باهي الصفات).. و.. |
حدثيني معبودتي "وتعالي" |
نحو هذي الربى وتلك الطلال |
نذكر الأهل والدهور الخوالي |
وجدوداً هم صفوة الأبطال |
أنت أبهى من أهل باريس... |
|
ينادي الشاعر هنا حبيبته نداء المذكر، وهذا تجديد وثورة على أوضاع اللغة القديمة ولا نقول أنه جهل، لأن المفروض في شاعر كالحلواني أن يكون محصوله اللغوي جيداً ممتازاً.. |
ومن آثار هذا التجديد أن الشاعر يجمع طللاً على (طِِلال) وهو جمع لا تشفع فيه إلاّ ضرورة القافية، والميل إلى الانطلاق والتحرر.. |
ويسبح الشاعر في ملكوت خياله، ويصيبه ما يصيب المتواجدين في حلقات الإذكار.. |
وتدنو منه حبيبته ملبية نداءه فلا ترى إلاّ (حانوتياً) ينبش الأكفان، وينشر الرمم |
.. ونفرض أنه استهواها هذا الدرس فأخذت تنوح على الماضي، وتترحّم على التاريخ القديم، فإنها لا تلبث أن تفيق على القَفْلة البارعة التي تشبه قفلات الطقاطيق الغنائية الدارجة... |
أنت أبهى من أهل باريس... |
ولكنا نرجح أنها ستكون أكثر شفقة عليه في هذه (النوبة) عندما يلهمها هذا الخلط والتنافر أنه أصبح لا يعي ما يقول، فهو في غيبوبة عميقة أُنْسِيَ معها الترابط اللفظي قبل المعنوي، كما قد أُنسيَ. شناعة المفارقة بين مواقف الحب الأصلية ومواقف التطوع بإلقاء دروس في التاريخ القديم على حبيبته العامية. |
ونراهن من شاء على أن أية حبيبة لن تفهم من عاشقها معنى محدداً لهذا القول: |
أنت قد ما قد كنت شيئاً ثميناً |
غير أن الزمان أبلى حماتي |
|
وكان من حق الزمن وقد أبلى حماة الشاعر، أن يستبقي حماة هاته الفريسة ليدفعوا عنها هذا الخطر المحدق!!.. |
ويفطن الشاعر أخيراً لتوجّع حبيبته وانكسارها وسهومها، فيقبل عليها تدليلاً ويمهد أمامها سبيل العزاء فيقول: |
يا ابنة العرب، يا سليلة قوم |
قدّسوا العلم (إذ جفوا كل ضيم) |
|
فتخرج المسكينة من هذا الشطر الحكيم بقاعدة جديدة تتلخص في لزوم جفاء الضيم لكل من أراد تقديس العلم...! |
و...! وتنعدم الفوارق الجنسية بين الشاعر وحبيبته، ويختلط عليه الأمر فلا يدري، أذكر هي أم أنثى، ويصرف إليها الخطاب هكذا: |
كيف أصبحت "تقبلي" كل لوم.. |
و "تقبلي" هذه إن كان الخطاب فيها موجهاً إلى الحبيبة -وهو ما عناه الحلواني الشاعر طبعاً- لا يصح أن تأتي هكذا زعراء مبتورة فإن لها ذيلاً أفلت من يد الشاعر.. وهو نون المضارعة في التأنيث "تقبلين".. |
وبعد أن يندب الشاعر حظه ويدعو على عداته بحرقة الضعيف العاجز عن الانتقام تحض عزيمته على الموت صبراً في قبر لا ينسى أن يحرم (الحفار) من حقه القانوني فيه، فيدعو حبيبته إلى مشاطرته عناء حفره وسكناه، وإنها لنهاية طبيعية لمثل هذا المجد والحب والشعر!! وما أخلق القبور بأن ترحب بكل ما تلفظه الحياة من نفايات ومقابح... |
|
|