تقديم |
|
بقلم الأستاذ عبد الله عبد الجبار |
|
نحن تجاه قطعة أدبية إن لم تبلغ الطول الذي اصطلح عليه عادة نقاد الغرب فهي كذلك ليست قصيرة إلى الحد الذي تدخل به في الكلمات القصار التي تكتبها الصحف السائرة اليوم كفكرة الأستاذ علي أمين بجريدة الأخبار مثلاً... إنها قطعة بين بين...
|
ثم هي بعد ذلك فكرة جديدة -أو على الأقل- في إحساس كاتبها الأديب السعودي فهي حين كتبها قبل أكثر من ربع قرن لم يكن توفيق الحكيم الأديب الجهير قد أصدر كتابه "حمار الحكيم" و "حماري قال لي" ولم يترجم كذلك رائعة "خيمنيز" "أنا وحماري" وإذا رجحنا أنه قرأ كتاب "خواطر حمار" للكونتيس "دوسيجور" فإننا نلاحظ أنه لم يسرق من ذلك الكتاب ولم يتأثر بتلك الخواطر أو المذكرات التي يرجح أن توفيق الحكيم قد تأثر بها واقتبس منها.
|
ولما شرع حمزة شحاتة في كتابة سلسلة مقالاته الأدبية تحت عنوان "حنفشعيات" بجريدة "صوت الحجاز" حرص على أن ينوه في تمهيده لها بما يتوخاه من الجدة والابتكار فقال:
|
"فليسخر الأدباء من هذه الحنفشعيات. وليقولوا عن أسلوبها إن المتانة تنقصه وإن ألفاظها لا تترابط فنياً أو موسيقياً، وليصبوا عليها كل ما تعلموه من العقاد والمازني وطه حسين ومن كل أديب في مصر وسوريا والمهجر.
|
ليسخروا ما شاؤوا فإنا لا نختار أن نكذب على الواقع، ولا نختار المشي على أيدينا ورؤوسنا فإنما خلق الله الأقدام وحدها للمشي.
|
وبعد، فإنا لن نقلد أحداً، ولن نسرق، وحسب القارئ منا هذه الأمانة في الوقت الذي عمت فيه فوضى التقليد، وأصبحت كثرة الأدباء لصوصاً، وغدا الأدب "لصوصية" لا يطلب للبراعة فيها أكثر من جلادة الوجه، وخفة اليد، والصبر على المكابرة".
|
وسرعان ما ندرك من مفاتح كلامه، أن الكاتب يريد أن يتحدى المتعارف المألوف الذي استقر في نفوس الناس جميعاً من أقدم العصور عن الحمار، وإذا كان الحمار لكثرة ما ركبه من الامتهان أصبح مرادفاً للاحتقار فإن كاتبنا يرى فيه شيئاً جديراً بالاحترام إذ يقول: "في الحمير شيء جدير بالاحترام والدراسة" ثم يمضي في تبيان منافع الحمار، وشباته الظاهرة وأخلاقه السامية. |
والواقع أن هذه المقالة يمكن أن تقسم إلى قسمين، لأننا نتبين فيها شيئين: |
1- مرافعة عامة عن الحمير ضد بني آدم المستبدين المعتدين. |
2- وصف الكاتب لحماره الصغير ورحلته عليه مع صحبه في نزهة قصيرة. |
كانت مرافعة قوية ممتعة عن الحمير عامة... تلك التي مهد بها للحديث عن رحلته على حماره الصغير... |
تناول بالوصف الصفات الجسمية للحمار، فأشاد بفراهته ولطف حجمه وتناسق حجمه وحلاوة حركاته ونظراته، ونوه بأناقته ووجهاته وابتسامته الخفية وفي ذلك يقول: |
"... وفي الحمار خفة، وفي حركاته حلاوة، ونظراته لا تخلو من معان تفيض منها العذوبة.. وفيه أناقة ووجاهة يفوقان كثيراً من الآدميين، وله ابتسامة محجوبة يدركها ويدرك موضع السحر والفتنة فيها كل من يعنيه من أمر الحمير ما عنانا". |
حتى صوت الحمار، مع اعترافه بأنه أنكر الأصوات، لم يعدم وسيلة للدفاع عنه وسيلة نفذ منها إلى التنادر على بني آدم والسخرية بأذواقهم، والتماسهم الحرية لأنفسهم دون غيرهم، والتنديد ببعض المطربين والمتشاعرين. |
يقول: |
"وصوت الحمار من أنكر الأصوات، ما ننفي هذا، أو هو أنكرها، إن كنا نعتبر النعومة والاعتدال، كل مقومات الصوت الحسن، أما إن جربنا في نقد الأصوات على النهج المصري الجديد الذي لا يدين إلا للمقدرة الفنية في التأليف والتوزيع، وأحكام النسب وتحريرها... وإنكار النعومة واعتبارها أنوثة لا تليق بفن إنساني يقود الأفكار والعواطف والمشاعر كالغناء، كان الحمار معدوداً في طليعة الموسيقيين الموهوبين. |
وقد يخطر لحمار أن يرفع عقيرته مغنياً ليطرب أمثاله... فيضحك الناس ويمطرونه وابلاً من الشتائم والازدراء. وفي هذا حجر لا شك فيه على الحرية الشخصية كان من الواجب أن يتنزه عنه الإنسان تسامياً بذاته. وماذا بقي للحمار من الحقوق إن حرم الحرية من استعمال هذا الحق؟؟ |
والناس؟؟ أليس فيهم من إذا قيس صوت الحمار بصوته، كان آخر القرينين، وأخلاهما يداً من أدلة الفوز؟؟.. |
والحمار أرق ذوقاً في هذا، فما يفاجئ الناس [أعني الحمير!] بالغناء إلا عندما يكون المجال مهيئاً لمثل هذه المفاجأة، أو تكون المناسبة من دواعيه... |
... ولكن الإنسان يدندن حيثما اتفق له أن يفعل، ويكفي أن تتهيأ له دواع من نفسه، أو من خياله المريض، حتى يندفع في ذلك الهواء المغثي غير عابئ بما يصبه على رؤوس الناس من هول وألم... |
والحمار إذا غنى [أي إذا نهق] لا يقول شعراً ولا يردد كلاماً فهو في مأمن من اللحن والتكسير، وتقبيح الألفاظ والمعاني ومسخها وتشويهها.. والإنسان على عكس ذلك يجمع على السامع مصابين، ويغنيه بحماقتين.. وما لنا نقارن بين الإنسان والحمار وهي مقارنة لا يرضاها كلاهما، على ما نعتقد". |
وكما أشاد بالصفات الحسية للحمار، أشاد كذلك بصفاته المعنوية والخلقية كالنشاط والجاذبية والقدرة على الاحتمال واللطف والتواضع والوفاء وإنكار الذات فهو في رأيه من أنشط الدواب، وأقدرها على احتمال المكاره، وما من شك في أنه كان من أكثر الحيوانات طيبة وفيه جاذبية لا ترد إلا إلى شيء خفي وراء لحمه وجلده وشياته الظاهرة... وهو جم اللطف والتواضع وفيه إنكار عميق للذات ووفاء يجب أن يكون مضرب الأمثال... |
وأشار إلى ديمقراطيته وهدوئه وأدبه فقال: |
"وفيه ديمقراطية تصرفه عن الخيلاء، فهو أبداً مقضى على أخلاقه وعاداته وميوله التي يندر أن لا تكون هادئة جداً، في سبيل إرضاء صاحبه أو راكبه.. فيكون مؤدباً على أن يسير سيراً ليناً موزوناً، فيأبى ممتطيه إلا أن ينهب به الأرض ركضاً كالخيول في الطراد، فلا يجد في ذلك غضاضة على ما فيه من إجهاد له، ومصادرة لإرادته وطبعه وإفساد لآدابه وتقاليده". |
ويرى في الحمار فكاهة جميلة تدل على ظرف أصيل، فقد شاهد ذات مرة حماراً يحمل رجلاً له سمت وأبهة، وكان الحمار مقدراً هذا وشاعراً به، ففي مشيته وقار، واتزان حركاته، دليل على ذلك. واتفق أن أفلت من الرجل صوت مسموع... فحبق الحمار بدوره ملوحاً بذيله في مرح وخبث... وكان الموقف تجاوباً فنياً بين الرصيفين.. اتسعت معه حدود الحرية بعض الشيء...". |
وكما دافع عن صوت الحمار، دافع كذلك عن حرانه وعناده مؤكداً أن العناد صفة من صفاتنا نحن البشر أسبغناها على الحمير، وفي ذلك يقول: |
"والعناد -على أنه رذيلة أو شذوذ مكروه- إنما هو صفة من صفاتنا وليس في نظرة الحمار، وفي مطالب عيشه ما يقتضيهن فلم يكن مقدراً للحمير في ما نرجح أن تحمل على ما تأباه فطرتها، وتنكره طبيعتها، ولا أن تحمل، من حماقة غير أبناء جنسها، وشذوذ تصرفاتهم ما يثير فيها روح العناد ويقويها حتى تنقلب طبيعة ثابتة أو صفة لاصقة!!!". |
ومجمل رأيه في الحمار أنه أكثر الحيوانات شبهاً بالإنسان الكامل من النواحي النفسية والمعنوية يقول: |
"ونحسب أن الله خلقه -أي الحمار- على أن يكون خير المخلوقات وأكثرها شبهاً بالإنسان الكامل من الناحية الخلقية، والنفسية وأن يباعد بينهما في الخلقة والإدراك والمقدرة على استخدام الفكر والتصرف بالإرادة ونستبعد أن تقترن بهذه الفضائل الممتازة، رذائل تتنافى في جوهرها، وسماتها الأساسية، مع تلك الفضائل الثابتة". |
2- ثم انتقل إلى وصف حماره ورحلته القصيرة على ظهره، مستهلاً كلامه بقوله: |
"أما حماري الذي أمهد للحديث عنه بهذه المقدمة... فهو بدع بين الحمير.. وأقسم بالله أنه لو كان إنساناً لكان مكانه بين من تشتغل الدنيا بذكرهم من العظماء والفنانين ظاهراً ومرموقاً". |
وبعد أن وصف حبه للحيوانات الأليفة وما بينه وبينها من تجاوب روحي يمضي في الحديث عن حماره ورحلته ويقول: "وقد أنس حماري -على ما يظهر- مني هذا الشعور الطيب أو تمثله في وجهي أول ما تلاقى نظرانا فانفجرت شفتاه عن ابتسامة فاتنة فمسحت له عنقه، ولعبت أناملي بأذنيه الناعمتين رداً لتحيته الرقيقة، فأخذ صدره يعلو ويهبط تأثراً بهذه العاطفة التي بادلني إياها وبشبقات حارة. |
"وأقبل رفاقي على اختيار حميرهم، وكان لكل منهم طريقة تختلف عن طريقة الآخرين وأسفرت عملية الانتخاب عن سقوط حماري فيه لفتور نشاطه وضآلته، وبقي كلانا بلا رفيق فبسطت يدي إليه.. وكنا رفيقين.. ولم تكن لي علاقة بالحمير قبل هذا الرفيق الوديع، ولكن مظهره ونظرته أوحت إلي الثقة به، والاطمئنان إليه. |
وركبنا وكنا خليطاً لا تؤلف بينه الإنسانية الصحية، وكانت حميرنا مثلنا في هذا فكان بينها الحمار الحضري، والبدوي، والأنيق والبوهيمي... |
ولم يكن لحسن الحظ حماري عصبياً فتم التفاهم بسهولة بيننا ولم يكن مقصراً في ما يجب عليه -كحمار كامل- فكان يسرع في الأرض السهلة ويتئد في المضايق والوعور، ووجدت بعد لحظات أن في وسعي الاقتناع بوجاهة تصرفاته علاوة على أنها في مصلحتي.. فاعتمدت عليه وأوليته ثقتي ولففت مقوده على عنقه. |
وبالرغم من أن صحبي كانوا يؤكدون أن الطريق إلى اليمين معولين على خبرة حميرهم أو خبرتهم فقد وضح أخيراً أنه أكمل خبرة -على حداثة سنه من الجميع- فقد وفر علينا ربع المسافة تقريباً". |
وحينما صاح أحد الرفاق: [قد وصلنا] أبى حماري الوقوف ولم يجد الصحب -أي الحمير- بداً من إتباعه على أن أشرف الركب على صخور يتفجر منها الماء وتغطيها الأعشاب. فترجلنا وانطلقت الحمير ترعى وتشرب. |
ويختتم مقاله عن الحمار بقوله: "واستطاع حماري أن يملأني إعجاباً به، حتى اللحظات الأخيرة وفارقته بعد أن اعتنقنا طويلاً على أمل اللقاء، وما أزال أحس في نفسي حنيناً وشوقاً ينزعان بي إليه نزوعاً ملحاً". |
وبعد فهذه ذكرى صحبتنا الهادئة، أبعثها كتحية إلى ذلك الرفيق الطيب". |
أوجه الشبه بين حمزة شحاتة وحماره: |
والفنان -في كثير من الأحيان- لا يملك إلا أن يعكس نفسه ومزاجه وإحساسه على فنه. سواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي. والذين أتيح لهم أن يخالطوا حمزة شحاتة -عن كثب- خليق بهم أن يلاحظوا تلك المشابهة بين شخصيته وشخصية حماره. |
كان حماره -أو جحشه الصغير- الذي لا يزيد أكثر من سبعين كيلو -في خرجته مع الركب يتجه نحو اليسار على حين تتجه الحمير جميعها ناحية اليمين، فهو في هذا الحال يميل إلى التفرد والانطواء ومخالفة التيار العام تماماً مثل صاحبه حينما يتقوقع في حدود ذاته وينطوي على نفسه وكتبه ويتأمل في الكون والحياة ويشرح المجتمع الذي يعيش فيه ويعري الإنسانية من أرديتها الزائفة حتى تغدو، بشرية سافلة خير منها ألف مرة تلك الحيوانية التي لا يحكمها إلا قانون الغاب. |
وما أعجب منظره -وهو في لبسه المتفضل لا يرتدي إلا قميصاً رقيقاً وإزاراً يكشف عن ركبتيه، وعيناه اللتان أعياهما الجهد تطلان على هذا العالم من خلال منظار سميك كأنه المهاتما غاندي يتفكر في وسائله السلبية وأسلحته السلمية التي يطرد بها الانجليز من بلاده، مع فرق بسيط هو أن غاندي كان رقيق الجسم وصاحبنا عملاق ضخم.. أو كأنه -وهو يداعب مبسم شيشته ويطرب لكركرتها- فقير هندي يداعب ثعبانه ليرقص على نغمات مزماره. |
إنه في مثل هذه الخلوات الانطوائية يفكر، ولكن فيم يفكر؟؟ إنه يفكر في مشكلة جديدة يحل بها مشاكله العديدة في هذه الحياة. إنه رجل يسعى وراء المشاكل والمشاكل بدورها تسعى خلفه وتطارده. |
حماره، الذي ينعزل عن الجميع ويميل إلى الاستقلال ويكون وحده حزباً للأقلية وهو مثل حماره يعتزل الناس ويطيب له الاستقلال، ويكون وحده أو هو وحماره حزباً يصارع التيار. |
وحمزة شحاتة ساخر مغرم بجمال الطبيعة ومرائيها الجميلة، وكم تمنى لو قضى حياته في كوخ صغير على شاطئ نهر يستمتع بالماء والهواء والشمس والقمر والنجوم والأزهار والأشجار وموسيقى البلابل ونوح الحمائم ولوحات الطبيعة البارعة التي رسمتها يد الله.. وحماره كذلك شاعر مفتون يحب الطبيعة. يقول عنه: "وكان حماري -دون الجميع- متنبهاً لدقائق واديه الفاتن... وكانت تدور في رأسه بالتأكيد خواطر، وتتجلى في نظراته النشوى معان ليحلها من خير الشعر وأروعه، لو كان إلى تصويرهما من سبيل، وصاح أحد الرفاق: قد وصلنا. وترجل عن حماره، ولكن حماري أبى الوقوف وأخذ يوغل بين الجبال، فأدركت أنه يعد لي مفاجأة سارة، ولم يجد الصحب -أي الحمير- بداً من إتباعهن وكان أن اجتزنا مضايق صخرية انفرجت بعد دقائق عن صخور يتفجر منها الماء وتغطيها الأعشاب ويعطر جوها شذى الشيح والحبق. وتضفي عليها السكينة أردية من السحر والفتنة والجمال.. وثملنا وانطلقت الحمير ترعى وتشرب، وتتوثب وتضطجع وتنهق نهيقاً موسيقياً لا اعتراض عليه. |
إنسانيته: |
وتبدو مشاعره الإنسانية العالية في مشاركته الوجدانية للحيوانات الأنيسة جميعاً وتجاوبه الروحي مع الحمار بصفة خاصة.. حتى لقد فكر حينما أحس بإعياء حماره الصغير أن يحمله على ظهره. يقول: ولاح لي في النهاية أني على استعداد لحمله لو أعياه الجهد، ولا أحسب أن ذلك يضيرني، فهو خفيف الوزن والروح. ويستحيل أن يتعدى وزنه سبعين كيلو. |
ولا أكتم القارئ أني نشأت مفرط الحنان على الحيوانات أو على ما يشاطر الإنسان معيشته منها. وقد كنت أرى أن عشرتها الطويلة لنا يجب أن تنشئ بيننا من القرابة [المعقولة]. ولا أنسى طبعاً أن منها ما لا يستحق هذا العطف، كالبغل مثلاً فإن ماضيه من الغلظة الواضحة والميول المتشبعة بالشر والخشونة، ودلائل الجمود الشائعة في قسماته النافرة -خليق بأن يبقى هكذا، محدود العلاقة بالإنسان... |
والحيوانات عندي جزء من الطبيعة التي نرتاح إليها ونحبها، ونربي كثيراً من ملكاتنا الفكرية ومشاعرنا النفسية على حسابها وهي [الحيوانات] تعد أكثر جوداً علينا من الطبيعة، وآمن مغبة، ونحن بها أكثر امتزاجاً.. ومن ينكر أن الحيوان جندي مجهول في تاريخ حضارتنا؟!.. ولو ذهبنا نزن الحقائق وزناً فلسفياً مجرداً لرأينا أن كل حمار وكل فرس، وكل جمل، وكل كلب، قد أسدي إلى الإنسانية يداً بيضاء يجب أن لا يقل تقديرها وتقديسها عن تقدير الآدميين في هذا السبيل، ألم تكن رفيقة الإنسان وعونه في سلمه وحربه، وهدمه وبنائه، وحله وترحاله؟ ألم يكن منها حارسه اليقظ ومركبه الأمين، وأنيسه المخلص؟؟؟...". |
أسلوبه التعبيري: |
أما أسلوبه التعبيري في هذه المقالة فيمضي على نسق عربي محكم لا ركاكة فيه ولا عجمة وربما لمحنا فيه أثراً من آثار ابن المقفع أو الجاحظ أو غيرهما من كتّاب العربية، إلا أن شخصيته الفنية واضحة.. والذين قرأوا كثيراً لحمزة شحاتة يشعرون أن هذه هي طريقته في التعبير يتحلزن في بعض الأحيان ويكثر من الجمل المعترضة ويختار اللفظة لدقتها في تأدية المعنى أكثر مما يختارها لجرسها وموسيقاها، ورصيده من المفردات اللغوية رصيد ضخم -وهذه السمة -كما يرى النفسانيون- دليل على الألمحية والذكاء.. ولعل قلة من الكتاب اليوم هم الذين يحرصون على مثل هذا التعبير "ويجهد لتأصيله". |
ومن الواضح أن هذه المقالة ليست مقالة صحفية تتوخى سهولة التعبير وتتجنب التعمق في التحليل وإنما هي مقالة أدبية نلحظ فيها العبارة المحبوكة وعمق الفكرة والاستناد إلى الخيال. |
ففي تحليله الثاقب لأخلاق الحمار والإنسان، يبدو طول التأمل ودقة الملاحظة كما رأينا في الفقرات السابقة التي نقلناها، وفي تصوره نفسه حماراً يرعى ويمرح في مفاتن الطبيعة الجميلة لا يد لمخلوق عليه إلا يد الله، يبدو التجاؤه إلى الخيال وفي ذلك يقول: "سبحت في هذه الخواطر المتدفقة وأمثالها حتى تصورتني حماراً أرعى وأعيش في هذا الجانب من الأرض، عيشاً خفيضاً، تطرد فيه أسباب الأمن والدعة والهدوء وتتلاشى عنده متاعب الفكر وآلام الحياة ودواعي السأم والكلام، وتضيق فيه مطالب العيش وغاياته حتى تنحصر في مرعى خصب تتعهده السماء والشمس، ثم لا تكون فيه لأحد بعد الله منة أو يد، وعشت في هذا الكون لحظة لا يعدلها عمر مديد مليء بالسعادة والهناء". |
وهو في خواطره عن الحمار ونقده للإنسان لم يسلك سبيل الوعظ والإرشاد، وإنما سلك سبيل التصوير الهادئ حيناً والثائر حيناً آخر، واللمحات الذكية التي كان الكاتب لا يحفل بها ومع ذلك نحس فيها بالعمق النفاذ، كما كان يغلف نقداته البارعة بجو من الفكاهة والسخرية وخفة الظل. |
خصائص وسمات |
وأجدر بنا ونحن بصدد دراسة الأديب حمزة شحاتة أن نلقي بصيصاً من الضوء على حياته وأدبه لنستبين طرفاً من خصائصه وسماته العامة. |
مفكر.. سابقاً |
حينما التقى الشاعر التونسي "الطيب الشريف" بأديبنا الجهير "حمزة شحاتة" ولم يكن يعرفه من قبل تطوع أحد الأصدقاء بالتعريف فقال: |
"الأستاذ حمزة شحاتة"... من كبار المفكرين.. |
وقاطعه حمزة على الفور بقوله: سابقاً... |
وضحكنا.. وضحك السيد الطيب ولكنه قال مستنكراً.. |
سابقاً؟! لقد تعودنا أن نقول أن فلاناً رئيس الوزراء أو الوزير سابقاً ولكن كيف يكون المفكر مفكراً سابقاً؟ هل تركت الفكر يا أخي؟ فأجابه حمزة: لا... الفكر هو الذي تركني!! |
وحمزة أديب معروف باللسن والقدرة على الحجاج والجدل الطويل، حتى ليظل في بعض الأحيان يناقش عشرين ساعة متصلة دون سأم أو كلال، ومع ذلك يعتبر نفسه الأديب الصامت، ويتمنى أن يجد البشر وسيلة للتفاهم غير الكلام.. |
ويتنبأ بأن إنسان المستقبل سيستغني عن اللغة وسيتفاهم الناس بانتقال "موجات الأفكار" وكلما أمعن الناقد في دراسة حمزة ألفى نفسه إزاء شخصية يتعانق في طواياها الإنسان بالفنان.. وهو يمارس الوظيفة ويحل مشاكل الحياة بروح الفنان... يقول لصاحب العمل [إنني سأتخلى عن العمل بعد أسبوع فلتبعث مديراً جديداً يتسلم مني الإدارة في هذه الفترة] وإذا تباطأ الرد كتب له مرة أخرى: [أمامك يومان للتسلم لأني سأركب الطائرة إلى لبنان أو إلى مصر]... ويسافر فعلاً سواء تسلم منه العمل أم لا.. |
وحينما كان محاسباً للبعثات السعودية بمصر كان يقضي وقت الدوام وهو يناقش طلاب الجامعة في شؤون الحياة والفكر والأدب فيستهويهم حديثه ويشعرون أنهم إزاء مفكر غير عادي.. ويظل معهم على هذا النحو إلى أن يحين وقت انصراف الموظفين إلى دورهم فيبدأ في عمله الرسمي... ويحبس نفسه وموظفيه المساكين إلى الليل. |
والمزاج الفني يتحكم في مجرى حياته ومعاملاته مع الناس، فبينما تراه يدقق في القرش ويحاسب على الهللة حتى يقبضها تراه في موقف آخر يترك ألوف الجنيهات تذهب هدراً، لأن الذي استدان منه اتخذ في النصب عليه وسيلة فنية استهوته ووافقت مزاجه الفني... |
وقد حكى لي مرة قصة التفاؤل والتشاؤم في الدَّين [بفتح الدال] قال بطل القصة لصديقه: |
- إنني أفضل الاستدانة من الأستاذ حمزة على غيره من الناس.. |
فسأله الصديق: |
- لماذا؟... فأجابه: |
- لأنه متشائم وغيره من الناس متفائل... قال له: |
- أرجو إيضاحاً أكثر... فقال له: |
- "إن المتفائل يظل يلح على غريمه ويمد يده ولا ييأس أبداً حتى يتقاضى دينه، أما الأستاذ حمزة فيدين الشخص ويعرف مقدماً 99٪ أنه لا يرد دينه.. فهو إذن متشائم وأنا أموت في المتشائم". |
وحمزة شحاتة من نتاجه الأدبي يقف على نقطة الالتقاء أو خط التماس بين الفلسفة والأدب. وهو في هذه السمة يشبه أبا العلاء المعري الذي يعجب أديبنا به وبآثاره أيما إعجاب. |
وإذا أردنا أن نطبق عملية تصنيف علم الطبائع للأمزجة، ألفيناه يمثل الطبع العاطفي على حين يمثل زميله محمد حسن عواد الطبع الغضبي. |
وأصحاب الطبع العاطفي -بفطرتهم- يتأرجحون بين الانطوائية والانبساطية وهذه الميزة تبدو واضحة في حمزة شحاتة سواء في حياته أو في شعره. فقد يهرب من المجتمع ويتقوقع داخل داره أو غرفته متأملاً أو منغمساً في قراءات طويلة عميقة متنوعة يقرأ كل شيء، ولا يكاد يظهر للناس، حتى إذا ظننا أو اعتقدنا أنه قد آثر الوحدة والانعزال، ألفيناه فجأة يغشى المجالس والمجتمعات ويلقى أصدقاءه ومعارفه وينغمس في دنيا الحياة والأحياء والبيع والشراء، ويمثل الروح الإنبساطية بأجلى معانيها، ولكنه لا يلبث أن ينصرف تدريجياً إلى حياة الانطواء والانفراد. |
|