أطلنا.. وأوجَزنا سُدًى في عِتابِها |
فهل نَتَراخَى بعدَ ذا عن عِقابِها |
صَمَتنا.. فأعطينا المروءةَ حَقَّها |
حِفاظاً علىَ آدابها وارتِقابها |
فإن ركبت بالأمن تِيهَ غرورِها |
فقد سقطت في هُوَّةٍ من مُصابِها |
خفافيشُ عاشت في الظلام، ورفرفَت |
بأجنحةٍ لم تَنطلِق من حِجابها |
وفاقت نُسُورَ الجوَّ كِبراً وسُرعةً |
وقادت زِمامَ الضَّوءِ من خَلفِ بابِها |
أليسَت تَرى في الليل دربَ ذَهابها؟ |
أليست تَرى فيه سَبيل مآبِها؟ |
أليس على أوكارِها النَّدُّ والنَّدى |
سحائبَ في تهويمها وانسكابِها؟ |
أليست إلى أعلى المرامي تطلَّعَت؟ |
فكلُّ مَرامي الكون مِلكُ رِكابها |
بلى.. وخيوطُ النُّورِ تَشهدُ أنَّها |
غَزَت ظلماتِ الكونِ بعد ضَبابِها |
كذا هيَ في عُرفِ الخفافيشِ رُتبةً |
تَحارُ اعتزاماتُ الوَرى في طِلابِها |
بَلى، يا بُغاثَ الطَّير.. بل يا خِشاشَةٌ |
تَمَشَّى على سطح الدُّنَا كذُبابِها |
رأيتُ بكِ الدُّنيا تَمُوجُ كأنَّها |
تَقُصُّ على المفجوعِ سِرَّ انقلابِها |
أما رُزِئَتْ في الفِكر أدهى رَزِيَّةٍ؟ |
بِزحفِ بُغاثِ الطّير فوق ترابِها |
تَهيمُ ولا تدري إلى أين تَنتهي |
سوى أنها مَوكولةٌ لانصِيابِها |
خفافيشُ عُمْيٌ إن تَرى الفجر أنكرَت |
سَنَاهُ، كما لو كان موتاً مُجابِها |
هَلُمّي إلينا يا خفافيشُ كي نَرى |
ونسمعَ عن دنياكِ فَصْلَ خطابِها |
ونأخذَ منكِ الفكرَ والشّعرَ والغِنا |
قشوراً سَتُغنِينا بِفَيْضِ لِبابِها |
مَراقٍ حُرِمناها شُيوخاً وفتيةً |
وعِشنا حَيارى في فسيح رِحابِها |
لقد فاتنا سَعيُ الخفافيشِ في الدُّجى |
وحِكمتُها في دَرسِها وانكبابِها |
فها نحنُ بعدَ الجهلِ تحت لوائِها |
نُشَيّدُ أوكارَ المُنى في جَنابِها |
ونَنهلُ من عِلم الخفافيشِ كلَّ ما |
جَهلناه عن دِيوانِها.. وكتابِها |
وعِشنا نَروضُ الشِّعرَ بعد جِماحِهِ |
فتطلع شمسُ الشِّعر بعد احتجابِها |
وتغدو خفافيشَ تَهيمُ بظُلمَةٍ |
سَرَى بِرؤاها شاعرٌ وحَدَا بِها |
أحِينَ اكتَهلنا يا خَفافيشُ مَسَّنا |
بفضلِ الأذى والشرِّ ذَرْقُ شبابِها |
فما رمَّدت في مَوقِدِ العَزْمِ جَمرَةٌ |
ولكنّ عُوراً أخطأت في حِسابِها |
ويا رُبَّ.. خفََّاشٍ أطالت بقاءَه |
حقارتُه، لم يَلقَ في النّاَس آبِها |
تباركتَ يا عِلم الخفافيشِ لم تَدَع |
لأُسْدِ الشَّرى حتى مساتيرَ غابِها |
أحطت بأسرارِ الطّبيعة والوَرَى |
وأصبحتَ قاضِيْ سَهلِها وشِعابِها |
ولَمْلَمتَ أرسانَ الفُنونِ ورُضْتَها |
كما شِئتَ لم يُعْجِزك طولُ غلابِها |
فها أنت تحت التّاج أسطورةٌ دَوَى |
بها الكونُ أو أُحدوثةٌ قد سَمَا بها |
ركبت بها للشمسِ واللَّيلُ نائمٌ |
بُراقاً تغطّى وجهَها بنقابِها |
فما نوَّرتْ من بعدُ وَكراً ولا بدَت |
ومات أديمُ الأرضِ بعد غِيابِها |
وكم معجزاتٍ للخفافيش غيرُها |
يَضِلُّ الحِجى في صِدقها وكِذَابِها |
لأنّ خيالاتِ الخفافيش وحدَها |
دعائمُ، تكفي للهُدى بانتصابِها |
أليست ينابيعَ الفنون على المَدى |
وفي غاية استقرارِها واضطرابها |
إذاً فهي قانونُ الخفافيش، لا الحِجَى |
وما حزمت أوكارَها في احتطابِها |
وليس إذنْ للنّاسِ شعرٌ وشاعرٌ |
وغاصت بحوراً قصّروا عن عُبابِها |
وما ذاع من أنبائِهم فَهْو باطلٌ |
وأرديةٌ قد أجرموا باستلابِها |
سوى شاعرٍ أرضَى الخفافيشَ قُدرةً |
وفلسفةً طارت بكلّ صوابِها |
أصابته عدوى الذَّرْقِ فانحلَّ صُلبُه |
فشاطرها المَيدانَ بعد اصطحابِها |
وسارت له بين الخفافيشِ شهرةٌ |
تَحَيَّرَ بالسّاعين أمرُ اجتلابِها |
ويا خُسْرَ من تُعلي الخفافيشُ قَدْرَه |
فعاش على ما آدَه من ثوابِها |
وكان غنيَّ الآدميّة قبلَها |
فها هو يَجلو وجهه بخِضابِها |
عواقبُ ما تنفكّ سَاخِرَةً بنا |
تَفرَّقُ ألْبابُ الورى في عُجابِها |
وتُركِبُنا أقدارُنا شرَّ وِجهةٍ |
وليست لنا من حيلةٍ في اجتنابِها |
رأيتُ لأوكارِ الخفافيش حُرمةً |
من الضَّعف لم تنهَض بجُهد اكتسابِها |
ولكنَّ رأياً للخفافيش قائلاً: |
قضى سادِراً في غَيِّه بخرابِها |
متى أطلق الخفاشُ في اللّيلِ فِرْيَةً |
سيفضح ضوءُ الصبح سرَّ انتسابِها |
وكتَّم خفاشٌ فظاعةَ نتْنِه |
فكرَّت عليه لعنةً في انصبابِها |
كذلك أوكار الخفافيش لم تزل |
تغالبُ تَيارَ الحياة بعابِها |
ترى العيشَ ذرقاً لا يكفُّ وظلمةً |
يَغول السَّنا فيها نباحُ كلابِها |
ورُبَّ نفوسٍ أعربَت عن يقينها |
فأفشت بما أبدت خفيَّ ارتيابِها |
ويا رُبَّ لاهٍ عَاب بالقول وادَّعى |
فأشقى معانِيْهِ به واكتوى بِها |
فعاد يُوَلّي وجهَه حِجرَ أمّه |
ولم يَدْرِ ما غصَّت به من عذابِها |
فقد فُجِعتْ فيه صبيّاً ويافِعاً |
وكهلاً تَجلَّى فيه رمزُ اكتئابِها |
وأُغرِقَ في ذرقِ الخفافيش بيتُها |
فهاج اطرادُ الذَّرق داءَ عُصابِها |
وَسرَّ بغاثَ الطير ما ساءَ أمَّه |
فراح به في مَعرِض الذِّكْر نابِها |
يهزّ إذا ما ضمَّه الوَكرُ ذَيلَه |
ومنقارُه في ذرقه قد رمى بِها |
أما نَجَّسَ الدّنيا فما احتجّ ناكرٌ |
لِفِعلتِه في رملها وهضابِها؟ |
أما قاد أرتالَ الخفافيش خلفَه؟ |
وشيَّد للأوكارِ أسمَى قبابِها؟ |
أما قال ما شاءت سَماديرُ حِلمه |
أما شقَّ للدنيا مجارِي سَرابِها؟ |
إذاً، فهو سلطانُ الخفافيش، ما جرَتْ |
على شَرطه، في سَعيِها ورقابِها |
وما النّاسُ إلاّ كالخفافيشِ مِلّةً |
متى عُقِلَتْ في بُعدها واقترابِها؟ |
وما الشّعرُ إلاّ من عطاياه وحدَه |
تأبَّطها مخبوءةً في جِرابِها |
فيعطي، ولا يُعطَى، مَشيحاً ومُقبِلاً |
على ظهر عَشواءٍ جَرَت وجرى بها |
ويرتجِلُ التّاريخَ كالشّعر محدَثاً |
فيصنعُ للدّنيا جديدَ إهابِها |
ويُلغي مساعِيها تَليداً وطارفاً |
وما أثمرتْ في أمنِها واحترابِها |
وما اقتاتَ إلاّ من بقايا طعامِها |
ولا عاش إلاّ من فضول شرابِها |
ولكنَّه ذَرْقُ الخفافيشِ لم يزل |
ينازعُها ميراثَها والمشابِها |
وما هو إلاّ الذّرقُ، والذَّرقُ وحدَه |
تراكَم في أوكارها وعِيابِها |
وما هو إلاّ لُوثَةٌ ضاع بابُها |
ومفتاحُه إذْ أحدثتْ في ثيابها |
فإن أخطأتْ في سيرها وتَعَثَّرتْ |
فقد كان هذا السُّمُ من صُنع نابِها |
ألا ليتَ أوكار الخفافيشِ عَلَّمتْ |
نُسورَ الحِمى ما فاتها في انتهابِها |
فتلك يقيناً للهياثِمِ غايةٌ |
من السَّبق لم تَنهضْ لإدراك قابِها |
تعالَوْا إلى دنيا الخفافيش، وانظروا |
كؤوساً خَلَت من خمرها وحَبابِها |
وروضاً بلا وَردٍ، ووَرْداً بلا شَذاً |
مسارحَ زهرٍ غُيّبتْ في سَحابِها |
لَغَاضَ الحِجَى والفنُّ والذّوقُ والهوى |
إذا سادَ في الدّنيا نعيبُ غرابِها |
وهانَتْ مراقي الصّاعدين إلى العُلى |
إذا أنكر اللاّهون ضوءَ شِهابِها |
مهازلُ هذا الدَّهر كُثْرٌ وشرُّها |
صغائرُ لا يُسليكَ خوضُ صعابِها |
وقد بدأ الخفاشُ بالذّرقِ قِصَّةً |
تعجَّلَه مَقدُرُوه فانتهى بها |
وجَلَّ الذي أوْلَى الخفافيشَ كلَّ ما |
أقام لدنياها مَضاءَ حِرابِها |
إلى حيث لا تُنْجِي السّلامةُ راضِخاً |
لِما أعقبتْه من تَجَرُّع صابِها |
* * * |