قد سمعْناها صِغارا.. |
وقرأناها كِبارا |
فانْفَعلنا، وضحِكنا، وسَخِرنا |
من غباءِ القدماءِ |
كيف يأبون خضُوعاً لبشرْ |
ويوالون إلهاً مِن حجرْ |
* * * |
إنها قصةُ أجيالٍ مِن الظلمة |
ترويها متاهاتُ البوادي |
حيث قانونُ الردى |
في القمم العصم تمشي، والوهادْ |
يُصهرُ الأبطالُ، فوقَ الوعرِ |
في نارِ العوادِي |
لحياةِ تضفر النورْ |
أكاليل خلود، للبطولةِ |
كان فيها مَيسمُ المجدْ |
عراماً وفحولَة |
* * * |
قصةُ الأصنامِ في ظلِّ الحياةِ الوثنيةْ |
لم تزلْ تُروى لأبناءِ القِفارِ العربيةْ |
من كبارٍ ساخرينْ |
وصغارٍ ضاحكينْ |
إنها قصةُ جهلٍ.. وهراءٍ.. وجنونْ |
طوّفت تمعن في ترحالِها |
عبرَ القرونْ |
من مكانِ لمكان.. وزمان.. لزمانْ |
* * * |
هي همسٌ خافتٌ |
مر ليلاً يتستّرْ |
وجمال باهتٌ |
كان لِسحر الفن مصدرْ |
وخيال صامت ظلَ طويلاً يتعثرْ |
إنها قصةُ ماضِينا |
على مسرح عبقرْ |
* * * |
هي نارٌ في الدماء |
كلما قيل خبتْ، |
ثارتْ لهيباً ودخانْ |
وأعاصيرَ إباء |
* * * |
إنها بأسُ الجبالْ |
وانتفاضاتُ الرمالْ |
وينابيعُ الظلالْ |
إنها فنُ رؤانا البدوية |
في إطارِ العبقرية |
ذلك الفنُ الذي فجّرَ |
أغوارَ الرويَّة |
طاقةٌ جبارةٌ تمرحُ في أفقِ السجّية |
* * * |
إنها قصةُ أحلامٍ ثِقالْ |
صاولتْ فاكتسحت كُلّ محالْ |
لم يكنْ دونَ مداها ما يُطالْ |
إنها عزمُ رجالْ |
* * * |
إنها قصةُ أصنامٍ تؤلَّهْ |
التماثيلُ التي صانعها فيها تدلّهْ |
أتُراهُ -ذلكَ الغازِي لأسرارِ الحياة- |
كان أبْله؟! |
لا. فقد كانَ بصيراً، وطموحاً، وحكيما |
مثلما كان ذكياً مُلْهَماً، خَصْبَ المخيلةْ |
ثابتَ الخطوِ |
يرى المجهولَ -هذا العالم المطوِي- |
سراً، من ألوفٍ مثله |
عالَجها حتى جَلاها.. ووَعاها |
فرآها لعباً مألوفةً |
مثل التي هامَ بها.. ثم اجْتَوَاها |
فرماها، باحثاً عن غيرِها |
يستهدفُ الخبرَة، في عهد الطفولة |
* * * |
إنه دورٌ مِن القصة |
مِن قصتِه الأولى |
وتاريخُ صراعِ الفكر |
في كشف خفايا الأزلية |
مبدأُ الفكرة.. والبحث عنِ الذاتْ |
وتمزيق الستورْ.. للعبورْ |
إنها وثبةُ قهارِ السهولِ والوعورْ |
يضربُ الآفاقَ مشبوبَ الرؤى |
بجناحيْ كاسرْ |
ينفضُ الأعماقَ جياشَ القوى |
بخيالِ الثائرْ |
فرأىَ الأجرامَ تَخْفَى |
ورأى الأجرامَ تظهَرْ |
فتقرّاها.. وفكّرْ.. |
عَبدَ النجمَ، فلما غَرُبَ النجمُ |
تولاّه الفتورْ |
بزغ البدرُ فكانَ البدرُ أكبرْ |
عَبدَ البدرَ، فلمَّا أفلَ البدرُ تحيّرْ وتعثّرْ. |
ورأىَ الشمسَ فقال: الشمسُ أكبرْ |
ورآها تختفي كالنجمِ، والبدرْ |
فأغضى وتقهقرْ.. يتدبرْ.. |
كُلُّ شيء يتغير!.. |
وهو لا يؤمنُ إلاّ بالثباتْ |
صفة للمبدعِ الأكبرْ.. |
باريء الكائناتِ. الذي كانْ؛ |
خيالاً غامضاً لم تتكشف عنه؛ |
-بعدُ- الظلماتْ.. |
فمضَى يهتفُ، أني لا أُحبُّ الآفلينْ |
أنا لا أعبدُ ربّاً يتحولْ |
* * * |
إنها معركةُ الذاتِ.. مع الذاتِ |
صراعاً يتململْ |
ويقيناً يتجلّى |
مِن يقينٍ يتحللْ |
* * * |
إن هذا الجدليّ. المتحيّرْ |
والخيالي المصورْ.. |
صانع الأربابِ مما يتخيرْ |
ليسَ غرّاً. |
ليسَ أبلهْ. |
إنه عقلٌ يفكّرْ |
وانطلاقاتٌ تبشّرْ |
وهداياتٌ تعبّرْ |
وبراهينٌ تسيطرْ |
إنه لا يعبدُ الأصنامَ مِن صُنعِ يديْه |
إنمَّا يعبدُ فيها صبواتهِ |
أفليستْ عنده معبرَ أشواقِ حياتهِ؟ |
ومجالِي سَبَحَاتِه |
وأحاجِي سباتِه.. ومماتِه |
إنها توكيدُ ذاتِه.. |
في خيالاتِ هواهُ.. |
في انبثاقاتِ رؤاهُ.. |
في انتقالاتِ حجاهُ.. |
في سماتهِ.. |
* * * |
هِيهْ.. ما أروَعها |
قصةَ أجدادِي الكبارْ |
الأغبياء.. القلقينْ.. |
الطامحينَ.. الثائرينْ.. |
الخالقينْ.. |
صانِعي أربابهمْ |
كي يعبدوا أنفسهُم فيها |
فإن ثاروا عليها.. |
حطّموها.. |
كم سَمِعْنَاها صِغاراً.. فَضَحِكْنا |
وقرأناها كِباراً.. فسخِرْنا |
والسؤالُ المتوارِي في العيونِ.. يترددْ |
ألتلكَ التُرهاتُ.. الجاهليةُ |
من بقيةٍ.. يتجددْ..؟ |
بَعد مَا أشرقَ نورُ الحقِّ |
واندكتْ صروحُ الهمجيةْ |
وغدَا الربُّ.. جَمالاً.. وجَلالاً.. وكَمالا |
وسِباقاً.. وانْطلاقاً.. في ميادينِ الفضيلةْ |
وكِفاحاً.. مستحراً.. |
ضدَ أغلالِ الرذيلةْ |
وإباء عربياً.. |
هو ميراثُ الإباءِ الجاهلي المتحرّرْ |
وتراثُ الوثني المتسعّرْ |
ذلك الفحلُ.. العنيدُ.. المتحجّرْ |
صانعُ الأربابِ من تَمْرٍ.. ومِن طينٍ |
وصخرٍ.. وخشبْ.. |
فهي في الجد مَرايا ذاته العليا |
وفي الهَزْلِ لعبٌ.. |
وهي رهنُ القيدِ في قبضتهِ |
بينَ رضاه والغضبْ |
يا لهَا من قصةِ خَلْقٍ وابتداعْ |
يا لهَا محور شكٍ وصراعْ |
يا لهَا معركة فوقَ التّلاعْ |
فَاضَ معناها بِمَا هَالَ وراعْ |
ذهبَ التاريخُ لا يعقل أو يَحْفَل |
معناها المثيرْ.. |
ومضَى الناسُ.. سُدىً.. لا يحفلونْ |
ما انطوى فيها من الروعةْ |
والإعجازِ، والرمزِ الجهيرْ |
وكذَا التاريخُ والناسُ، وما زالا، |
غباء لا يحيرْ. |
* * * |
إنها قصةُ ماضِينا.. على البعدِ.. |
صدىً في الحاضرْ |
لم تزلْ دفقةُ وحيٍ |
في خيالِ الشاعرْ |
واندفاعاً عصبياً |
في بيان الناثرْ |
ودماً مُتقداً |
في كل عِرقٍ ثائرْ |
* * * |
إنها همسُ الجبالِ الراكدة |
والرمالُ الهامدة |
والنفوسُ الواجدة |
والقلوبُ الحاقدة |
إنها ثورةُ نارٍ خامدة |
إنها صوتُ المواتْ |
والسبات، والرفاتْ |
وخيالُ الباقياتِ، الخالداتِ، الكامناتْ |
في كهوفِ الأبدية |
في المغاراتِ الخفية |
لم تزلْ أصداؤها |
تحتَ سكونِ الصمتِ.. حية |
* * * |
إنها النارُ التي تنبضُ هوْنا |
في الرمادْ |
إنها حلمُ المعادْ |
إنها صوتُ قُصيّ وإيادْ |
إنها صوتُ البطولاتِ الفتيّة |
من ظلام الوثنية |
وصميمِ الجاهلية |
إنها تزحفُ ثاراتٍ صديّة |
إنها نارُ الحمية |
يوم كانَ الكِبرْ ألا |
يعبدُ الإنسانُ إلاّ ما صنعْ |
فإذَا شَاءَ تَعَالَى |
وإذا شَاء خضعْ |
فهو السيدُ في حاليْه |
أعطىَ، أو منعْ |
* * * |
إنها الميراثُ |
ما كانَ تهاويلَ خيالْ |
لاَ. ولاَ كانْ |
أساطيرَ ضلالْ |
إنما كان |
فروسيةَ قاماتِ طوالْ |
حفرت عبرَ الجبالِ الصمِ |
للخيلِ مجالْ |
فَاغِر الأعماقِ |
مجنون الصّدى |
خطوة الراكبِ مجراه |
نجاةٌ أو ردى |
* * * |
إنها قصةُ بأسٍ ونضالْ |
ضدَ أن يعبدَ إلاّ نفسَه |
الإنسانُ في ما قَدْ صنعْ |
فإذَا شاءَ تعَالَى |
وإذا شاءَ خضعْ |
* * * |
قد مضَى التاريخُ لا يسألُ عنها |
ومضَى الناسُ على سنتِه |
لا يسألونْ |
السؤالُ المتواريِ في العيونْ |
حسراتٌ مستكينة |
وخيالاتٌ طعينة |
وكراماتٌ مهينة |
ورؤي حائرةٌ.. غَير مبينة: |
ألتلكَ الترّهات الجاهلية |
مِن بقيَّة؟ |
تنفضُ الظلمةَ عن مسرى |
خُطانا الواهية |
وتشيعُ الحسَّ |
في تلكَ القفارِ الغافية |
وتسمّي كُلِّ شيءٍ باسمه |
لا توارِي.. أو تمارِى |
لا ترائِي.. أو تحابِى |
لا تلين.. أو تهونْ |
فتهينْ.. |
لا توارِي الغضبَ المكبوتْ |
بل تُطلِقه نارَ عرامْ |
لا تمارِي في دواعِي الحربِ جُبناً |
لِتُغَنّي بالسلامْ |
لا ترائِي الأقوياءَ الغاصبينْ |
سلَبوها حَقّها. |
لا تحابِي الدخلاءَ الواغلينْ |
نازعُوها رزقَها |
لا تلينُ لعوادِي البأسِ |
للعسفِ، لأسوارِ السجونْ |
لا تهونُ تحتَ أقدامِ |
الطغاةِ السادرينْ |
فتهينُ. ذخَر ماضِيها |
إباء.. وصِراعا |
دونَ حَقّ الذاتِ في كسرِ القيودْ |
وانطلاق الفكرِ حُرا |
في مجالاتِ أمانيهِ الرفيعة |
يتسامَى مبدعاً، مطرد الخطوِ |
قوياً كالطبيعة.. |
في ظلالِ الصدقِ، والحسِّ، |
وتيارِ الشعورِ الآدميِّ، |
المهتديِ بقوانينِ الخليقة |
منذُ كانتْ نفخةً من روحِ باريها |
العظيمِ المتعَالي |
فهي منه صورةٌ سامية |
كُبرى.. عريقة |
وتعيدُ العربيَّ المستكينَ المتعثرْ |
ذلك الرازحُ في رَكْبِ الحياةِ المتحدّرْ |
المسمّى كل ما أهدرَ مسعاه مقدّرْ |
من إذا استقدمه خطبٌ تأخّرْ |
وإذا نُوزع عَنْ حَقٍّ.. تقهقرْ |
عربياً.. جاهلي الطبعِ.. والسورة |
فَحْلاً يتفجرْ... |
* * * |
إنها القصةُ ما زالتْ حنينا |
ورجاءً وأملْ.. |
وأرىَ مسرَحِها الغارقِ |
في صمتِ المَللْ |
نظرة تعلق بالماضي |
وأخرى تشتعلْ |
في أسىً يستعجلُ الساعة |
ميلاد البطلْ... |
* * * |
لم تكنْ قصةَ يأسٍ وزهادة |
إنها حريةُ الفكرِ.. وتحقيقُ الإرادة |
إنها جهدُ الشقاءِ الحرِّ |
خلاّق السعادة |
إنها مبدأُ أنّ الناسَ أكفاءٌ |
وللّه السيادة |
إنها ملحمةُ الإيمانِ بالذاتِ |
على نهجِ العبادَةِ.. |
نبعها نبعُ المروءاتِ القديمةِ |
والتقاليدِ الكريمة |
وإباء العربيّ الجاهليِّ |
الثائرِ النفسِ |
على كلِّ القيودِ البشرية |
ناكر القيدِ.. ولو كان ثراءً |
وسمواً.. وقيادة |
إنه العملاقُ.. صيادُ العفاريتْ |
حليفُ الذئبِ.. والسعلاة |
خوّاضّ المنايا.. حَاسراً |
لا يتوقَى الموت |
فالموتُ خرافة |
من خرافاتِ لياليهِ المليئاتِ |
بما سَرّ وساء |
* * * |
حاملُ المشعلِ في ظلمةِ الغارْ |
وجودٌ مظلم الكُنْهِ، سحيقُ الغَوْر |
مرهوب العُبابْ.. |
تزحفُ الأخطارُ والأسرارْ |
فيه، لا معراة يراها |
بل غيابات ضبابْ |
* * * |
فيلسوفُ السهلِ والوعرِ |
وداعي حكمةِ الأجيالْ |
عقلاً وسليقة |
ذو الخيالِ الخصبِ |
مستظهرُ أسرارَ الحقيقة |
ذلكَ الفنانْ |
مستوحِي ظلامَ الليلْ.. |
والبيداءِ.. والخيلْ |
أغانيه القوية |
إنه مستنطِق "النؤي" |
وأطلالَ الديارِ الخُرسِ |
والأظعانِ.. ما أعجز |
من سحرِ أهازيجَ ندية |
وأناشيد الهوى العُذري |
قد فَضّ ختام الخُلد عنها |
فسقَاها للعَذارى |
ملء أهواءِ الجمالْ |
في كؤوسٍ ذهبية |
هرم الدهر، وما زالْ |
على إعطائِه طيب شذاها |
وسناها -فتنة رفافة الأزهارْ |
في كل ربيع لا يحولْ |
* * * |
إنه الحُرُّ كبيرُ النفسِ |
ما فوقَ أديمِ الأرضِ |
من قاصٍ، ودانْ |
ملء حسه.. |
إنه الصانعُ أرباباً |
يرجّيها، ويخشاها |
فلا يرجو ويخشى غيرَ نَفْسِه |
إنه جدي القديم، الوثني الماردْ |
ماردُ الصحراءِ.. تاريخُ دُجاها وسَنَاها |
الخالدْ |
ذلك الواثبُ بالراية |
في جيشِ محمدْ.. |
يحملُ المصحفَ والسيفْ |
شجاعاً يتوقّدْ.. |
لا يهابُ الموتَ، فالموتُ |
كما كان بِماضِيه.. خُرافة |
مِن خرافاتِ لياليهِ المليئاتْ |
بما سرّ وساءَ |
وهو اليومُ شهادة |
وهو الحُسنى التي أختارَ لها |
اللهُ عبادَه.. |
إنه النهجُ القديمْ |
يتلاقَى في ميادينِ العوادي |
بالجديدْ |
مثلما تدمج بالنارِ حديداً |
في حديدْ |
إنه أفقٌ مديدْ |
إنه غورٌ بعيدْ |
إنه الفجرُ العتيدْ.. |
خلقه أعمدة النور.. من الجنة |
من تلك السماواتِ البعيدة |
تَتَعالى في غمار الجهدِ |
أعياداً وئيدة |
وخيالاتٍ سعيدة |
إنه سحرُ العقيدة |
* * * |
ومضَى الماردُ بالقصة |
لا يلوي عليها |
فهو أيانَ مضَى في الأرضِ |
منها وإليها.. |
الميادينُ مجالاتُ هواهُ الوارفة |
وهو حُرُّ مثلما كانَ، يخوضُ العاصفةْ |
وكريمٌ مثلما عاشَ، وأوفَى عارفه |
صوتُهُ يهدرُ في يومِ السقيفة |
راضياً.. أو غاضبا.. |
سيفهُ يؤذن بالهولِ الخليفة |
منذِراً.. لا عاتِبا.. |
ما عداهُ الأمن عن حقٍ |
ولا صدّته خِيفة. |
هكذَا عاشَ بماضيهِ |
فلم تجحدْ له الدنيا مُرادا |
إنه قصتُه الأولى |
وجُوداً.. وامتدادا |
وإباءً، واعتقاداً، وجلادا |
وذكاءً.. وغباءً.. واعتدادا |
فِيمَ لا يجهد للمبدأ.. زرعاً وحصادا؟ |
فِيمَ لا يَحيا على أعصابِه في الحربِ، زادَا؟ |
إنها قصةُ عهديْهِ.. مصيراً.. وجِهادا |
ذاتها.. لم تتغيرْ. |
قصةُ السيدِ.. والقائدْ.. |
يُمْلِي.. ويقررْ.. |
قصةُ الحُرّ العنيدِ الوثني المتحجّرْ |
الذي يهزأُ بالموتِ.. ويلقاهُ خرافة |
من خرافاتِ ليالِيه المليئاتْ |
بما سَرّ وسَاءَ. |
* * * |
شَدّ ما أغفلَها تاريخُنا |
مصدرُ قوة. |
شَدّ ما جانبَها |
نبعُ فتوَّة. |
شَدّ ما أنكرَها |
رمزُ مروَّة. |
شدَ ما أفسدَ معناهَا وموَّه |
فأنطفيْنا وانطفتْ |
وقدتَيْ بأسٌ |
وبركانٌ لهيبٌ.. يستجيبْ |
كلما هبتْ أعاصيرُ المِحنْ |
أو دَهَانَا.. من قريبٍ وغريبٍ |
مُسْتَخِفٍّ بِثرى هذَا الوطنْ |
مسرح القصةِ.. والأبطالْ.. |
والأمجادْ. |
ميدان النضالِ الحُرِّ |
لم تَخْفِضْ له الأيامُ راية |
ملعب الفجرِ الذي واكبَ |
نور الفنِ من إشعاعه |
نور الهدايةِ |
مُلتقى القصةَ |
بَدْءاً.. واطّراداً.. ونهايه |
ما لنَا منها سِوى ذِكرى قَصِيّة |
لم تزلْ واهنةَ الصوتِ.. خَفيّة |
وسِوى ظلمةِ ماضِي الوثنيةْ |
وسِوى أنَّ التماثيلَ التي نعبدُها |
صارتْ شُخوصاً آدمية |
وهي في واقِعها المغلقْ |
أمساخٌ زرية |
صورٌ شائهةٌ للحجرِ المنحوتْ |
والطينِ المدبرْ |
فهما أصلب من تكوينها |
الرّخْوِ.. وأطهرْ |
إنها آلهةٌ تزْنِي.. وتحتالُ.. وتسكرْ |
وتلم الفسقَ.. في ألفِ معسكرْ |
إنها تنكرُ أنَّ اللَّه أكبرْ |
وتحبُ الصمتَ، فالصمتُ |
بما تُخفي ضنينْ |
وتهابُ الموتَ.. والموتَى |
فلا يعرف قبر.. بدفينْ |
وتخافُ النورَ.. والشعرَ |
وتخشَى الشعراء |
فَهُمو في ظِلِّها بكمٌ |
وأنضاءُ شَقَاء |
* * * |
إنها آلهةٌ تُسْرقُ من أتْباعِها |
حتى الرغيفْ |
إنها تشرعُ أنَّ الحقَ للقوةِ |
تقضِي.. وتحيفْ |
إنها تقتلعُ الأكواخْ |
كي تبنِي القصورْ |
اتخذتْ منها مواخيرَ فجورْ |
فهي للعفةِ والطهرِ قبورْ |
إنها تَعْصِفُ بالأحرارِ جَهْرا |
إنها توسعهم قتلاً وقهرا |
إنها تعتبرُ العزةَ نُكْرا |
وترىَ الثورةَ كُفرا |
إنها تقتلُ مَنْ يؤثرُ عيشَ الطُهر.. صَبْرا |
وترابِي، وتبيعُ الناسْ |
ما تسرقهُ منهم وتغتالُ الحقوقا |
إنها تحتكرُ الأرزاقَ، والأسواقْ |
لا تتركُ سوقا |
وتبيحُ الرقَّ.. تستثمرهُ مالا |
وَكّداً وفسوقا |
إنها آلهةٌ تنضحُ كُفراً ومروقا |
إنها لا تعرِفُ الماضي |
ولا تعبأُ بالمستقبلْ |
هَمّها ما يبلغ المنجلْ |
في يوم الحصادْ |
إنها آلهةٌ فوقَ عروشٍ مِن رمادْ |
فمتى تنطلق الريحْ.. |
مخلاة القيادْ. |
إنها ذاتُ عيونٍ من زجاجٍ أسودْ |
لا ترَى من خلفهِ إلاّ السوادْ |
وقلوبٌ حجرية |
وميولٌ بربرية |
تتغذىَ باللحومِ البشرية |
وهي كالبُومِ تحبُّ الظلماتْ |
وتغنِي للخَرَابْ |
فترَى الأعيادَ رمزَ المُنكراتْ |
ومسرات رعاياها مصابْ |
* * * |
إنها آلهة تجحدنا حَقّ البقاء.. والأنينْ |
وطّأت أكنافَنا للدخلاءِ الغاصبينْ |
شوّهَتْ تاريخَنا |
طمستْ آثارَنا |
قتلتْ أحرارَنا |
وَأَدَتْ أوطارَنا |
سَلَبَتْ عزتَنا |
أوهنتْ عدتَنا |
مَزّقَتْ وحدتَنا |
نصبتَ في كلِّ رأسٍ وَثَنَا |
زَرَعَ الفتنةَ أعراقُ خنى |
فإذا العيشُ انتهازٌ وغِنى |
وإذا الظلمةُ تغتالُ السّنَى |
وإذا الفرقةُ تستشرِي وَبَاء |
وإذا القُربى عَداء |
والموداتُ رِياء |
والتقاليدُ هَباء |
وإذا المجدُ ثَراء |
وإذا الناسُ عبيدٌ وإماء |
وإذا الفاقةُ سجنُ الأكفياء |
وإذا العفةُ ذنبُ الشرفاء |
وإذا الحقُ حليفُ السفهاء |
والخياناتُ مطايَا الأدعياء |
وسبيلُ الشرِ أمنٌ ورخاء |
وسبيلُ الخير فَقْرٌ وشَقَاء |
وإذا آلهةُ الشرِ على أنقاضِنا |
تَنْعقُ أمناً وسُرورا |
أيُّ قلبٍ في أسَى المحنةِ لم يَغْدُ كَسيرا؟ |
أيُّ طرفٍ خاضَ، دَيْجُورَ مآسيِها فما أرتَدّ حَسِيرا |
أيُّ حُرٍّ في قيودِ الفَتْكِ والإرهابِ تَخْشَى أن يثوُرا |
أيُّ فكرٍ لم تكبله، وكِبْرٌ لم تُذله، فما صَدا نكيرا |
وأيُّ عظيمٍ جليلٍ ونبيلٍ لم تُبَدّله.. حَقيرا |
أيُّ قدسٍ لم تنجّسه، وعرضٍ لم تدنّسه ادعاءً أو فُجورا |
إنه عالمُها الهامدُ لم يشعرْ |
فهل يخلعَ نيرا؟ |
هكذَا ضلّلها الوهمْ |
وقد ساءَت بما ضلتْ مصيراً |
إنها لا تعرفُ الإنسانَ.. أغواراً |
وروحاً.. وشعورا |
إنها تجهلُ أسرارَ معانيهِ |
خفاءً.. وظهورا |
وخفوتاً.. وانطلاقا |
وهموداً.. ونشورا |
جهلتهْ في مدَى تاريخهِ |
موقد ثوراتٍ.. وبركان حِمَمْ |
جَهِلتْ قدرَته صانعَ أربابٍ |
وخلاّق قِيَمْ |
فإذَا سالمَ وَالاَهَا |
وإنْ ثارَ حَطّمْ |
إنها آلهةُ عشواء |
لا تُبصر ما فوقَ القِمَمْ |
إنها تهزأُ بالقصةِ.. جَهلاً وضَلالا |
وترى الممكنَ من أحداثِها عادَ مُحَالا |
إنها آلهةٌ حَمْقى فما زالتْ لماضِينا بقية |
هي في قصتِنا الفصلُ الأخيرْ |
وسنمليهِ على التاريخْ |
في ظلِ حراءٍ.. وثبيرْ |
ثورة تجرفُ في تيارِها |
هذا الكيانَ المتدَاعي |
لم يزلْ يصنعُ بالوهمِ علالاتِ البقاء |
في دُجى أحلامهِ العَمْياء |
هَدْماً.. وَبَناء |
غَافلاً عن حينهِ الزاحفْ |
في ظلِّ سكونِ القفرِ تيار دماء |
وأعاصير فناء. |
ينطوِي فيها سلاحٌ وجيوشْ |
وقصورٌ.. وعروشْ |
إنها معركةُ الساعدِ والزندْ |
وراءَ المعولِ الدامي الجروحْ |
إنها معركةُ الكف وقد شدتْ |
على الفأسِ |
معرّاة القروحْ |
إنها معركةُ المِخلب والنابِ |
على خَطِّ الحياةْ |
إنها معركةُ الإنسانِ |
في ثورتِهِ ضدَّ الطُغاة |
لم يقم فيها على رقعةِ هذي الأرضِ |
وَزناً لإله.. |
إنه الإنسانُ هذَا الكاسرُ الوحشيُّ |
لم يفتأ |
صدَى صوت السماء.. وقواها |
إنه رمزُ القِيمْ |
فإذا صُد كَظمْ |
وإذا مُسَ احتدمْ |
فإذا ثارَ حَطّمَ.. وهدمْ |
وغزا آلهةَ الأرض قوياً فطوَاها |
إنها سطوتهُ.. تاريخهُ.. فطرتهُ |
منذُ خَطَا فوقَ أديمِ الأرضِ |
يستجلِي دُجَاهَا |
وله في كُلِّ ركنٍ خَاضَ |
مِن أركانِها |
قصةُ بأسٍ ونضالْ |
وطِئتْ أقدامهُ فيها الجَبَاهَا |
* * * |
فارفَعي رايَتك الحمراءْ |
وارمِ بالهولِ سُفوحاً وذُرى |
وأعيدي يومَك الغابرْ |
يوماً أغْبرا |
تسقطُ الأوثانْ |
في أغوارهِ السودْ |
وُجوداً مُفترى.. |
إنه صوتُ بلالٍ.. يومُ كبّرْ |
إنه بأسُ "إلالٍ" ليس يُقْهَرْ |
إنه نصرُك في الآفاقِ نوَّرْ |
إنه شارتُك الفذّة في دُنيا النضالْ |
ينطوِي في ظِلها عهدُ الضلالْ |
خالد المأساة، ملعون المآلْ |
ولك الخلدُ، |
ولله الجلالْ.. |