شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفَمُ الثّاني
أتحيَا المساعي والمجالُ حقيرٌ
وتفنَى الدواعي والنضالُ كبير؟
وتنتصبُ الأعناقُ للعيشِ بارداً
وتنخفضُ الهاماتُ وهو هجير؟
وتخصبُ أرباضُ الضلال بأهلها
وتجدبُ أكنافُ الهدى وتبُور؟
وتبرزُ للأحداثِ أكواخُ قلةٍ
وتهربُ منها جُلةٌ.. وقصور؟
وينهضُ بالأعباء عشٌ وطائرٌ
وتقعى نسورٌ دونها ووكُور؟
وتختنقُ الأنفاسُ ذُلاً ورهبةً
إذا ما دَعا للثائرينَ نفير؟
لقد هانتِ الدنيا علينا هوانها
إذن، وأحاديثُ البطولةِ زُور
وضاعتْ رؤى الروّاد في المجدِ والعُلى
وأسلمَ أعلامَ النضال ظهير
وشاهتْ شواهينُ الحِمى وبزاته
فما هي -إلاّ في البُغَاثِ- طيور
وما هي في أقفاصِها غيرُ زينةٍ
لكافِلها تعنُو له.. وتصور
وَلَجَّ بمأثورِ المفاخِر ساخرٌ
فما ذاعَ منها، باطلٌ وقشور
ألا وليغض نبع المروءاتِ والحِجا
فإن هو إلاّ رونقٌ.. وخرير
وما كانَ -إلاّ للخليين- جنةً
بها الجهد نزرٌ والطعامُ وفير
وشالتْ موازينُ الفضيلةِ والتقى
وضَلّ إناثٌ خُلّدتْ وذكور
فليسَ وراءَ العيشِ للحي غايةٌ
يلوذُ بها إيمانُهُ، ومصير
* * *
كذا عرفَ اللاهي الحياةَ معرِّفاً
بها غيرَه، والمستريبُ عَثورُ
وهوّنها أن السلامةَ راحةٌ
وأن فراشَ الفارغينَ وثيرُ
تدابرتِ الآراءُ في ظلمةِ الرضى
بما قتّل الغاياتِ، وهو غرورُ
* * *
ألاّ أيّها الساعي بفضلةِ عُمُرِه
إلى يومِه، إنّ الحياةَ شعورُ
به افترقَ الحيَّانِ كلٌّ لما ابتغَى
فذو همةٍ يشْقَى بها وقريرُ
فَما بِك من مُدلٍ ببعضِ سنيّه
إلى المجدِ تُثنّي عزمَه فيخورُ
وخوفُ الردّى في ضحوةِ العُمُرِ حجةٌ
فما خوفُ شيخٍ، والبقاءُ قصيرُ؟
وما خَلَّد الفانين ذِكراً على المدى
وأحيَا سوى أن الخطارَ خطيرُ
تناظرتِ الأشباهُ، واختلفتْ بهم
إلى ما استَبانوا غيبةً وحضورُ!
وفاضتْ مراقي العِزِّ للناس دعوةً
فأقصرَ هيّاب وخاضَ جسورُ
* * *
أرى الأفقَ السامِي قريباً إلى المنُى
وطرفُ الذي يرنُو إليه حسيرُ
فيا مجدُ ما أدنَاك للقولِ مرسَلاً
تَعَاطى مُعارٌ كأسه، ومعيرُ
فكُنْ حلمَ الهاذِي على سطحِ دارِه
يشير إليه غامِزاً، فيطيرُ
وكنْ أملَ الوانِي أطافَ بنده
يديرُ رَحَى الدنيا له فتدورُ
وما اكْتَال من أضواءِ دُنياه غافلٌ
تعالَى دخانٌ حولَه.. وبخورُ
فما أنتَ إلاّ قمةٌ لم يحط بها..
خفاءٌ يجلي جانبيْه ظهورُ
وإن خيالات السكارى خمارها
-متى فرغت تلك الدِّنان- نكيرُ
ويا مجدُ أرضى بالرجالِ حظوظهم
على الكُره.. أن السّفح منك عسيرُ
وأن الضحايا في هواك نوادرٌ
ولكن وَهَمَ الواهمينَ.. كثيرُ
رأيتك، والأمواجُ فيك ضوارباً..
ودونَك من هولِ الحياةَ ستورُ
خِضَمّاً ترى الحيتانُ فيك مسارَها
وليسَ لها في شاطئيْك عبورُ
فَكيفَ بك الجوَّ الذي لا تناله
نسورٌ، ولا تسمُو إليه صقورُ
* * *
أبا حسنٍ، ما أنت إلاّ وديعةٌ..
لنا واقْتَضَيْنَاها.. فأينَ تصيرُ؟
تعاقدتِ الآمالُ حولكِ فارِساً
نغير به في يومنا ويُغيرُ
وأنتَ لها أو فاعْتزِل حومةَ الوغَى
وإنك فيها بالثباتِ جديرُ
وَدَعْ أمةً أشرقتَ فيها كشمسها
يشقُ دُجاها غيرُ نورِك نورُ
وَدَعْ صهوةً أعطتْكَ فضلَ عنانِها
فأنتَ بما تفضِي إليه خبيرُ
ولا تتقحمْ في رعيلِك وثبةً..
تهولُ.. ولو أن النكوصَ مريرُ
ولا تأسَ للباقينَ بعدَك إنهم
إليها ورودٌ، والخلودُ صدورُ
سيلتئمُ الصفُ الذي أنتَ تاركٌ
وإنْ قلّ للمأمولِ مِنك نظيرُ
وتشرقُ في البطحاءِ شمسٌ تطلّعتْ
إليها خيامٌ في الحِمى وخُدورُ
* * *
أبا حسنٍ للدهر قاضٍ بأمرِه...
فيعدلُ فينا ظالِماً.. ويجورُ
يشقُّ علينا أن يُقال لك اتئِدْ
وخُضْ غمراتِ الصبرِ فهي جحورُ
تسيرُ بها الأحياءُ في كلِّ وجهةٍ
وليستْ إلى غيرِ الظلامِ تسيرُ
وتعرفُ فيها كل ما فاتَ عالماً
وأعيَا.. سوَى أن الضياءَ ينيرُ
وأن همومَ الناسِ غيرُ همومِها
وأَن طريقَ الصاعدينَ سعيرُ
وأنَك في ما أنتَ مجتمعٌ له..
عليمٌ بكلتا غايتيْك بصيرُ
وما هِي من هذا بِعالمها الذي
تشابَه فيه مُبصِرٌ.. وضريرُ؟
ويبدُو خَشَاشٌ فيه، أفيال موكب
يُدلُّ عليه الناظرين هريرُ؟
* * *
أبا حسنٍ مالَ الرجالُ عنِ الهُدى
ومسَّ جراحَ الأتقياء فجورُ
وكذّب ضوء الفجر ماشٍ وقاعدٌ
دفينان والعيش المتاح قبورُ
وأنتَ على ما أنتَ غَيبٌ محجّبٌ
طواه ظلامٌ حولَه.. وأثيرُ
تخبطَ فيه مدعي الفهمِ... والنُّهى
وحاربَه مَنْ ليسَ عَنْك يحيرُ
تضاربتِ الأفكارُ فيك، وخيرها
له فيك أنس وهو عنك نفورُ
سكتّ وقد مالَ السرى برجالِه
وأثخَن فيهمُ والسبيلُ وعورُ
وعرّض فيهم بالأذَى كل سادر
يعورُ بما أطعمته.. ويخورُ
فهل لك في الصمتِ الحليمِ مشيئة
يكونُ بها للصابرينَ سرور!
* * *
أبا حسنٍ إن الجحورَ تنفّستْ
فكمّمْ.. وقيّدْ.. إن حزمَك سورُ
فما هذهِ الأحياءُ، إلاّ زواحفُ
بسرِّك للدنيا.. وأنتَ حَذُورُ
وظنك بالأيامِ والناس عثرة
إذا لم يكنْ صدقٌ هناك وفيرُ
* * *
أبا حسنٍ، ما قصةُ الثورِ في الدُّجى
على أخدعَيْهِ من صنيعِك نِيرُ؟
ترنّحَ مخموراً.. وشدَ حزامَه
فقالتْ له المرآةُ أنتَ هصورُ
فلوّح تحتَ السقفِ -عُجباً- بذيله
وطَال له فوقَ البساطِ نعيرُ
وكشّرَ عن أنيابهِ لجليسهِ
أكانَ مُنَاهُ أنْ يُقالَ عقورُ؟
بلى يا أبا الأدغالِ منزلُك الشرى
وعيشُك فيه ما استكنت نضيرُ
ومربطكَ الحانِي عليك خميلهُ
نعيمٌ.. وضوءٌ باهرٌ.. وزهورُ
وقُوتُكَ مطروحٌ حواليكَ جمُّهُ
وثَوْباكَ فيه عبهرٌ وحريرُ
ومغناكَ مغنَى (الضارياتِ) تزينها
عقودٌ على لباتِها وشذورُ
وأنت به في غيرِ جهدٍ وهمةٍ
غنيٌ، ومن بأسِ السباعِ فقيرُ
وأن ظلالَ الأمنِ عاليةُ الذُّرى
يروحُ بها للناعقينَ زئيرُ
ويكبرُ فيها ابنُ اللباةِ بأنه..
براقٌ ببابِ العزِّ، وهو أجيرُ
ولكنها الحقلُ الذي ينبتُ الأسَى
وإن كان يُغني جَائعاً ويميرُ
ولكنها السجنُ الحفيُّ بضيفِه
تُرى مُطلقاً فيه، وأنتَ أسيرُ
ولكنها دوامةٌ لا يخوضُها
بذي أربعٍ.. سيارةٌ.. وسريرُ
ولكنّها التّيه الذي لا يجوزه
براكبِ رَحْلٍ، ناقةٌ وبعيرُ
ولكنّها أرجوحةٌ أنت فوقَها
لِمجلسِ طلاّب المتاعِ سميرُ
ولكنها في سنّةُ الغابِ سبّةٌ
يُذَمُ بها بينَ الليوثِ فخورُ
بلى يا بن خُوصِ الغابِ مسراك جدولٌ
بروضٍ، ومسرَى الكبرياءِ بُحورُ
تمورُ بأخطارِ الصراعِ وترتمِي
وليسَتْ بأحلامِ الأمانِ تمورُ
عرفْنا عوادِي البحرِ قبلَ ركوبهِ
ولكنَّ موتَ الخالدينَ.. نشورُ
تطيحُ الصواري في الرياحِ وتنطوي
فتنهضُ في أعقابِهن بذورُ
وتُضْرَب أمثالُ النضالِ لأهله
ويُعرِضُ عنها هازِلٌ وكفورُ
* * *
أبا حسنٍ ماتَ الزمانُ وأهلهُ
ولم تبقَ إلاّ أحرفٌ وسطورُ
دعونَاك للكأسِ التي أنتَ كفؤُها
وذكرُكَ فيها نشوةٌ وعبيرُ
وما ينكر القلبُ الشجاعُ مكانَه
ولو أنّ عُقْبَاه ردىً وثبورُ
أهابَ -فَلبيْنَا- الجهادَ بما اقتضَى
وما زالَ يلغُو ناصحٌ.. ونذيرُ
وها نحنُ في الزحفِ العنيدِ طليعة
رسا أُحدٌ فيها.. وقامَ ثبيرُ
وفي الوطنِ المطلوبِ حقاً وعزةً
عزائمُ من أحرارهِ ونذورُ
جرت وجروا في ظلمةِ الصبر والأسى
تمزقُهم عبرَ السنينِ دبورُ
وقد آنَ أنْ تقضِي العداتُ ويلتقي
بظلِ حراء زائرٌ.. ومزورُ
وإنّ لنا يوماً.. كيومِ محمدٍ..
له في تخومِ المسجديْنِ جذورُ
تخرُّ به الأصنامُ صرْعى ذميمةً
تدل على عبّادها وتشِيرُ
* * *
أبا حسنٍ وثقت فامْضِ مُبكراً
فابعد مرمى خطوتيْك بكورُ
لأيقنتَ أنَّ النصرَ عاقبةُ السرى
وأن رؤوسَ الظالمينَ جسورُ
وأن الجهادَ الحقَ في اللَّهِ عزمةٌ
لها من صدَى الإجماعِ فيك بشيرُ
وإن حديثَ الخالدينَ مواقفٌ
لها بينَ أسفارِ الخلودِ هديرُ
* * *
أبا حسنٍ فاضَ الحنينُ بمكةَ
إليك فهلا، والحنينُ سفيرُ
فقد تهنُ النارُ التي أنتَ مضرمٌ
ويسكنُ وقدٌ في الدماءِ يفورُ
وإني أرى للنيلِ فيكَ فراسةً
وأنتَ على استبطانِها لقديرُ
فخَضْخِضْ رمالَ العدوتيْنِ لتنتهي
إلى سره.... إن الحكيمَ سبورُ
* * *
أبا حسنٍ ناءَ الرعيلُ بوجدِه
وأعداه من صمتِ الدليلِ فتورُ
أيجمدُ والأيام تَركضُ تحتَه
وصوتُ الأَسى والواغلينَ جهيرُ؟
يراك على ضوءِ الأناةِ فيرعَوِي
وتقْلِقُه أبعادُها فيثورُ
وللصبر بينَ الهوّتين نهايةٌ
تغيضُ انطلاقاتٌ بها وتغورُ
إذا فلّ صَبرُ المرءِ حَدّ مضائهِ
فليسَ ثناءً أنْ يُقالَ صبورُ
وإن لم يعِرْ في موقفِ الضنك نخوةً
فأشنعُ وسمٍ أن يُقالَ غيورُ
* * *
أبا حسنٍ للعتبِ عندَك قدرهُ
فأنتَ لما أنكرتَ منه غفورُ
وعتبيْك إبقاءٌ، وصدقُ مودةٍ
تُبين شكاةٌ عنهما وزفيرُ
أرانا ظماءً -في الظماءِ- فهل لنا
غداً في شِغاف الأخشبين غديرُ؟
جراحٌ طوتْها عنك سراً فما اشتكتْ
قلوبٌ تعانِي حَرّها وَصدورُ
يُلِمُّ بها الآسى الضنينُ مواسياً
ألا ليتَ رمضاءَ العزاءِ تُجيرُ؟
وليتَ الذي شَب الجراحَ بما جنَى
يردُّ عليها البُرءَ وهو نزيرُ
وليتَ حقولَ الجهدِ والجدِ أثمرتْ
وليتَ أعاصيرَ الكفاحِ عصيرُ
وليتَ الهوى يجزي، وليت المُنى تَفِي
وليتَ أكفَّ الباسمين ثغورُ
وليتَ عيونَ الحاسدينَ مواردٌ
لنا، وقلوبُ الشامتينَ هجورُ
يظن بنا الهانونَ مثل هنائِهم
لأنّ سحاباً يستقوُن مطيرُ
ولو عرفوا مَاذا لَقِينا مِن الهوى
لما افترّ منهم للحياةِ غريرُ
غداة لنا في كل مطرحٍ صبوة
فؤاد بما ثَلَّ الوفاء، كسيرُ
نثوبُ إليها ذكريات وماضيا
مطارح أحلامٍ لنا، وعشيرُ
وعهدٌ.. طعامُ الجائعين بظلّه
حلال، وري الظامئين طهورُ
* * *
أبا حسنٍ إبق المودة ﺇنها
مبادئُ ما لانتْ لهن صخورُ
مبادئُ أمضتْها إليك عقائدُ
يسورُ بها إيمانُها فتسورُ
وتلبس فيك الليل والويل والضَنى
وذلك منها في هواكَ يسيرُ
جفت ما جفت والكبرياءُ جهادُها
وعادتْ على نجواه وهي نميرُ
إلى بلدٍ تغدو الحياةُ به سدىً
إذا غام إيمانٌ بها وضميرُ
الجمعة 4/12/1959م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :724  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 169
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.