يا شاعرَ الكَونِ، وفنَّانَه |
وعبقرياً، صاغ ألحانَه! |
وعاشِقاً، أوطأه قلبُه |
مَخاطرَ الحبِّ ونيرانَه! |
جافَى الهوى، لا خائباً عندَه |
وإنَّما أنكَرَ ميزانَه |
لم يَسأمِ الحُسنَ، ولا وَحيَه |
ولا اجتَوى الحبَّ وأشجانَه |
لكنَّه، والطُّهرُ مأمولُهُ |
عافَ دَناياهُ وأدرانَه |
يا صامِتاً، يَشكو إلى نفسِه |
آلامَ بَلواه، وأحزانَه! |
يَرى ويُصغي مُطرقاً واعياً |
لا تخطئُ الهَمسةُ أُرغانَه
(1)
|
سهرانُ -والعالَمُ في حِضنه |
غافٍ -يَعقُّ النَّومُ أجفانَه
(2)
|
هل غابَ آسيهِ
(3)
؟ وما خَطبُه؟ |
وهل أضَلَّ الأينُ نُدمانَه؟ |
* * * |
يا ليلُ، يا رمزَ الغِنَى والجَوى |
يا ظامئاً، جانَب غُدرانَه! |
مَورِدُك الحافلُ يُطفِي الظَّما |
يَغبِطُ وُرَّادُك جيرانَه |
وأنتَ تأباه؟ فيا لِلغِنى |
يختارُ من دُنياه قِنعانَه! |
* * * |
يا فيلسوفاً، أصغَرَت نفسُه |
مناعِمَ العيشِ وألوانَه! |
قد سايَرَ الماضِي وأحداثَه |
فكَرِهَ الآتِي وبُهتانَه |
ورافقَ النَّاسَ وأهواءَهم |
فعادَ وارِي القلبِ غَصّانَه |
أنكَرَ، ما أنكرَ مِن شأنِه؟ |
حتَّى جَفا الدُّنيا وخُلاّنَه؟ |
هل خَبُثُوا؟ فالطِّينُ أصلٌ لهم |
نعرِفُ في الأفعالِ بُرهانَه |
* * * |
يا آسياً
(4)
، ضاقَ بأوجاعِهِ |
ومُسعِداً آثَرَ حِرمانَه! |
كم ساخطٍ زايَلَه رشدُه |
مُستَيئساً أسكَنتَ بُحرانَه
(5)
|
ومُوجَعٍ مُتَّقِدٍ قلبُه |
مَضاضَةً، أطفأتَ بركانَه |
وبائسٍ، ناداكَ، لبَّيتَه |
والصَّبرُ -وَيحَ الصَّبرِ- قد خانَه
(6)
|
لا بِنَعيمِ العيشِ، بل بالرِّضى |
.. بل بالرِّضى حقَّق غُنيانَه
(7)
|
وعاشقٍ يخفِقُ في صدرِه |
قلبٌ يهُدُّ الوَجدُ أركانَه |
بادرتَه بالهاجر المرتَجَى |
.. في أملٍ آنَسَ وُجدانه |
وأمِّ طفلٍ -أنَّ في حِجرِِها |
تُحِسُّ كالأسهُمِ إرنانَه
(8)
|
تَرأمُهُ.. تَلحَظُ أنفاسَه |
مذعورةً.. تَرهَبُ فِقدانَه
(9)
|
أهديتَه النَّومَ رفيقاً به |
فقَرَّ ساجي الطَّرفِ وَسنانَه |
* * * |
يا ليلُ، يا ليلَ الهَوى والرُّؤَى |
يا مُلتَقى الفنِّ وديوانَه! |
ويا شعاعَ السِّحرِ، يا نبعَه |
ومِشعلَ الفكرِ ورُبَّانَه! |
يا نافثَ الفِتنةِ رفّافَةً |
وعَبقَرَ الشِّعر ودِهقانَه!
(10)
|
تُلَقِّنُ المُطرِبَ ألحانَه |
وتُلهِمُ الشَّاعرَ أوزانَه |
وِشاحُك الأسودُ مُلقٍ على |
الدُّنيا رؤى الحُسنِ وأفنانَه |
* * * |
سامَرتَ (أوتيربَ) على عُودِها |
تَسكبُ في أُذنَيكَ تَحنانَه
(11)
|
ألقَت (أراتوسُ) على وَقعِه |
من شِعرِها البارعِ فَتَّانَه
(12)
|
يَنسى (كيوبيدُ) له قوسَه |
ويزدَري (فويبوسُ) شيطانَه
(13)
|
كأنّه بين يدَيها، إذا |
تَداوَل (المِضرابُ) (دُوزانَه)
(14)
|
فانطَلقَت أوتارهُ، نافِثاً |
من شَجوِه ما مَلَّ كِتمانَه |
مزمارُ داود، وقد رجَّعَت |
مواطنُ الإحساسِ إحسانَه |
* * * |
يا ليلُ، يا قائدَ جيشِ الدُّجى |
يا بطلاً، خلَّدَ فُرسانَه! |
ومعجِزاً، يَنهضُ، ما حاولَت |
أفهامُ حسّادِك نُكرانَه |
وآيةً لله، فيها يَدٌ |
بيضاءُ، جلَّ اللهُ سُبحانَه! |
ويا حليماً، جاعِلاً سيفَه |
أخلاقَه الغُرَّ وإيمانَه! |
يا فاتِكاً مَلَّ، على قُوَّةٍ، |
ضَراوةَ الفتكِ ونِشدانَه! |
وراعياً أضَنكهُ جَهدُه |
فناءَ ما يَحفِل قُطعانَه! |
في صمتِك الموهوبِ، في سطوِهِ |
ما أخجلَ البحر!.. وشُطآنه! |
خالَكَ معنَى الشَّرِ أو رمزَه |
(ماني)، فاستنفرَ أعوانَه
(15)
|
وثار يُزجي حِقدَهُ ضَعفُه |
وتُعلِنُ الغَيرةُ عِصيانَه |
وأنتَ لم تَعبأ له مُقبِلاً |
أو مُدبراً، مُحتَقِِراً شانَه |
حتَّى إذا مَدَّ له جهلُه |
مطامعَ الوهمِ وأرسانَه |
أعلنتَ من سِرِّكَ ما هالَه |
فارتدَّ ما كابَر إمكانَه |
تسخَرُ مما نالَه نفسُه |
به، فستضحكُ أقرانَه |
قسوتَ، يا ليلُ، على مُثخَنٍ |
أدبَر، خابِي العَزمِ، وَهنانَه
(16)
|
يَقبَعُ في عُزلَتِه مُعوِلاً |
أو لاغباً، يَجتَرُّ أضغانَه
(17)
|
ردَّدَ في أُذنَيه هَمسَ الدُّجى |
والخوفُ قد زعزَع جُثمانَه |
اللَّيلُ.. إنَّ اللَّيلَ مُرُّ السَّطا |
يَحمِي رهيبُ الهَولِ مَيدانَه
(18)
|
* * * |
يا ليلُ، يا ناسِكَ هذا الدُّجى |
وزاهداً ودَّع أوطانَه! |
معتزِلاً دُنياه في وَحَشةٍ |
عُمرُكَ، ما قضَّيت رَيعانَه |
وتَسأمُ العيش، فيا لِلأسى! |
نَقرأُ في صَمتِكَ عنوانَه |
* * * |
يا ليلُ، هذا سرمَدٌ، ما يَنِي |
يُغِذُّ، ما يُمهِلُ رُكبانَه |
الأبدُ المُمعِنُ في سَيرِه |
متى تُرى يَقطَعُ أشطانَه؟ |
والفلَكُ الدوَّار مستيقظاً |
هل سئمَت عيناه شُهبانَه؟ |
ونحن أسرى عالَمٍ دائِبٍ |
نائمهُ أشبَهَ يَقظانَه |
فمَن تُرى يَمطُله دَينَه؟ |
أو مَن تُرى يَخلَع سُلطانَه؟ |
فانهَض بأعبائِك ذا قوَّةٍ |
ودَع لِنجوى الضَّعف رُهبانَه |
ولتكنِ الدنيا على قُبحِها، |
حُسناً يوارِي العقلُ نُقصانَه |
فرُبَّ نَقصٍ في جَمالٍ غدا |
نَشيدُهُ الحبّ ولُقيانَه |
فاضَ بها الحُسنُ، وطابَ الهوى |
وأيَّدَت نَجواه إعلانَه |
والنَّقصُ في الكَونِ كَمالٌ له |
يَحدو إلى الغاية أظعانَه |
يا ليلُ، هل يغفلُ عنك الورى |
نكرانَك العيشَ وهِجرانَه؟ |
كلا! فهذا عالَمٌ جاحِدٌ |
مَدِينُه يَمطُلُ دَيانَه
(19)
|
يا ليلُ، هذا عالَمٌ ثائرٌ |
وأثبَ فيه إنسُه جانَه! |
يا ليلُ، هذا عالَمٌ أهوَجٌ |
بَيدَقُه طاوَلَ فِرزانَه
(20)
|
يا ليلُ، هذا عالَمٌ سادِرٌ |
رَشيدهُ صاحَبَ غَيّانَه! |
ضعيفُه مفترِسٌ جهرَةً |
حاكَت يدُ الطُّغيانِ أكفانَه |
يا ليلُ، ما غِشيانُنا عالَماً |
كاسيهِ لا يرحَمُ عُريانَه؟ |
عالَمنا -يا ليلُ- ذو قَسْوةٍ |
راويهِ ما يَعبَأُ ظَمآنَه! |
يا ليلُ، لن نأمنَ في عالَمٍ |
شَبعانُه سَخَّر جَوعانَه! |
إن طَلَب الحقَّ به فاضِلٌ |
هدَّ عُرامُ الظُّلمِ بُنيانَه |
أو طامَنَ الحُرُّ به نفسَه |
أباحَ للطّاغين إهوانَه |
والأعزلُ المدلِجُ نَهبُ القَنا |
فيه، وإن سالمَ عُقبانَه |
يا ليلُ، دنياكَ سِمامُ الحِجى |
أضلَّ فيه الرّوحُ سُلوانَه! |
الفَتكُ فيها سنَّةٌ تُقتَفى |
والفَوزُ للمُقحِم عُدوانَه |
فاسبق إلى الفتكِ بمن خِفتَه |
تَرُدُّ على الظَّالم طغيانَه |
واحمِل على الآمنِ في سِربه |
إن لم يكن لاقِيكَ.. أوكانَه |
فالعيشُ حرب، سادَ فيها الهَوى |
وأسلَمَ النَّاظرُ إنسانَه |
يا ليلُ.. لا، فالدِّينُ فوق الحِجى |
فَليُعلِنِ الثَّائرُ إذعانَه! |
بَصيرةُ الدِّين، وهل غَيرُها |
رَدَّ على الحائِرِ إيقانَه |
تقودُنا للخيرِ في حِكمةٍ |
تَروِي لهيفَ القلبِ حَرّانَه |
جَلَّ عُلا اللهِ، وقَرَّت به |
ضمائرٌ تُلهِم عِرفانَه |
فتُؤثِرُ الخيرَ على ضدِّه |
وتستميحُ الله غُفرانَه |
* * * |