ما تم عمله في هذا الديوان |
|
بقلم: الدكتور بكري شيخ أمين |
|
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام، على سيدنا محمد أفصح العرب أجمعين.. وبعد.. |
فلقد سعدت يوم كُلِّفت بالإشراف على ديوان الشاعر الكبير المرحوم حمزة شحاتة، وإعداد ما يلزم من نواح علمية أو فنية لإخراجه إلى الناس على الصورة الطيبة المقبولة. |
وكان من أسباب سعادتي أن هذا الديوان يخرج بهذا التكامل لأول مرة، وأن العلماء والأدباء والمثقفين في قلب المملكة العربية السعودية وخارجها، سيتلقّفون الديوان، ولسوف يَنْكَبّ فريق من الباحثين على دراسته، وقد يكون موضوعاً لعدد من الدراسات العليا في الجامعات المختلفة. |
إضافة إلى ذلك، فإن الشاعر حمزة لم يكن بالشاعر الهيّن، أو الليّن، أو الضعيف، وإنما كان يملأ الساحة الأدبية في أيامه، يُصاول ويُجاول، ويُصالح ويُخاصم، ويقف كالطَّود في كثير من القضايا وأمام عديد من الناس، حتى لَيَصدُق فيه قول القدماء عن أبي الطيب: (مَلأ الدنيا وشَغَل النّاس). |
ولقد يظن كثير ممن لا يعرفون هذا الشاعر حق المعرفة أن شعره شبيه بما نُحِت من الشراع الحجري المنصوب على جانب من شواطئ (كورنيش) الحمراء بمدينة جدة، فيه السهولة والسلاسة والحلاوة، حتى لكأنه شِعر البُحتري أو الشريف الرضي.. من تلك الأبيات قوله في جدة: |
النُّهى بين شاطِئَيْكِ غَريقُ |
والهَوَى فيكِ حالمٌ ما يُفيقُ |
ورُؤى الحُبِّ في رِحابِكِ شَتَّى |
يَسْتَفِزُّ الأسيرَ منها الطَّليقُ |
ومَغانِيكِ، في النّفوسِ الصَّدِيَّا |
تِ إلى رَيِّها المنيعِ رَحيقُ |
إيه! يا فتنة الحياةِ لِصَبٍّ |
عَهدُهُ في هواكِ عَهدٌ وَثيقُ |
كمْ يَكُرُّ الزَّمانُ، مُتَّئِدَ الخَطْـ |
ـوِ، وغُصْنُ الصِّبا عليكِ وَريقُ |
ويَذوبُ الجَمالُ في لَهَب الحُبِّ |
إذا آبَ، وَهْوَ فيكِ غَريقُ |
جدَّتي! أنت عالَمُ الشِّعرِ والفِتْـ |
ـنَةِ، يَرْوي مَشاعِري، وَيرُوق |
|
لكن الحقيقة تختلف عن هذا، فبَيْنا تجده في القصيدة مُنساباً، متَرقرِقاً، إذ هو في أخرى معقَّد، غامضٌ، ميّالٌ إلى اللفظ الغريب، والمعنى الغامض، والتركيب المتعاظِل. |
لهذا، فإن شعر حمزة شحاتة لا يمكن أن يُقرأ بسرعة، ولا بد من التوقف بين الحين والآخر، وإعادة القراءة -أحياناً- مرة بعد مرة، ليتضح المراد، ويترابط الموضوع، وبدون ذلك يبقى المقروء في عالم الغموض والإبهام. |
من هذا الجانب كان الديوان بحاجة إلى جُهد، ومراجعة، وتأمل، وإعادة نظر، وشرح، وإتقان في الطبع، ليمكن الإفادة منه، وبدون ذلك نكون قد ظلمنا الشاعر والقارئ. |
كان في النسخة المعتمدة للطباعة غير قليل من أوهام نحوية وإملائية وتطبيعية.. وكان أمر تصحيحها سهلاً يسيراً. |
أما التصحيف، والكلمات المحرَّفة، أو غير الواضحة، فكانت كثيرة -إلى حد ما-. |
ويبدو أن ذلك أمرٌ عادي وطبيعي، فبعض هذه القصائد أُخِذ من الصحف أو المجلات، ووجود مثل هذه الهنات مألوف، ومعضِلةٌ مزمنة، وداءٌ قديم وعريق. |
ولقد أعان الأخ الفاضل الشيخ محمد علي مغربي على توضيح عددٍ منها، وراجَع معي الأصول المختلفة التي بين يديه في أكثر من جلسة، وأكثر من لقاء. |
ومع ذلك فقد كان في النسخة التي بين يدي عدد من الألفاظ، يقل عن المائة بقليل، يحتاج إلى تقليب نظر، وتدقيق، كما يحتاج إلى تأمل طويل، ليمكن فهمه وربطه في سياق ما جاوره من ألفاظ، وما ارتبط به من معان، وحاولت -قدر الإمكان- أن أجتهد، وأصل فيه إلى أقرب الحلول، وأصحّها -من وجهة نظري- وكان معظم تلك الألفاظ قد أصابها التصحيف، أو التطبيع -في غالب الظن- من ذلك مثلاً: (أشعاري) صحّفت إلى (أسفاري)، و (الوجد) إلى (الوجه)، و (وصله) إلى (مصله)، و (مزقوا) إلى (فرقوا) و (ترامى) إلى (تراخى)، و (فزعت) إلى (قرعت)، و (شأو) إلى (شأن)، و (اعبثي) إلى (اعتبي)، و (يعيب) إلى (يغيب)، وهكذا.. ومثل هذا يحتاج إلى أناة، وتبصُّر قبل الإقدام على أقل تصحيح أو تصويب. |
الأمر الآخر هو أن الشاعر كان -على ما أظن- يغوص في المعجم، ويستخرج في أحيان كثيرة ألفاظاً غير متداولة، يصعب فهمها على القارئ المتوسط، وتحتاج إلى شرح وإيضاح، وبدون ذلك يبقى المعنى غير مفهوم.. وكان القاموس المحيط وصحاح الجوهري ولسان العرب، والمعجم الوسيط وسيلتي لهذا الشرح في الحاشية. |
وهنا لا بد لي من الإشارة إلى أن بعض قصائده الهازلة، أورد فيها عشرات المفردات غير الفصيحة، منها ما يرتد إلى أصل هندي، ومنها ما يرجع إلى أصل إنكليزي، ومنها ما هو عامي محلي، أو مصري، ومنها ما هو من اختراع الشاعر، كما فعل بشّار في غَزَل حماره فاخترع (خَدَّ الشَّيْفَران). وكان الأخ العالم الأستاذ المغربي خيرَ عَوْنٍ على شرح هذه الكلمات. |
أضف إلى ذلك أن الشاعر -رحمه الله- كان على ما يبدو -عريض الثقافة، واسع الإطلاع كثير القراءات... فأنت تجد في شعره إشارات إلى بعض مناحي الأدب وتاريخه، وإشارات إلى أساطير شتى يونانية، ورومانية، وفرعونية، وإشارات إلى كتب وكتّاب من مختلف بلاد العالم من مثل كتاب اللامنتمي، للكاتب كولن ولسون، وغير ذلك... وكان مرجعي في هذه الإشارات موسوعة المَوْرِد، والموسوعة الميسَّرة، وتاريخ الحضارة لدْيُورَانْتْ. |
وتقضي الأمانة العلمية أن أشير إلى أن كثيراً من الأبيات لم تكن مقسَّمة الشطرين تقسيماً عروضياً سليماً. فلقد تجد -أحياناً- شطراً فيه تفعيلات أكثر، أو أقل، مما في الشطر الآخر، أو تجد بيتاً يختلف في عدد تفعيلاته عن سائر أبيات القصيدة أو المقطوعة، ولقد حرصت على إعادة التوازن العروضي بين الشطرين من جهة، والإشارة في الحاشية إلى زيادة التفعيلات أو نقصانها. |
أما موضوع ضبط الكلمات وتشكيلها فقد آثرت أن أضبط ما يُشكِلُ على القارىء -بوجهٍ عام- وما يُسهِّل عليه القراءة، والفهم وراء ذلك، ولم أضبط الكلمة كاملة، كما هو الأمر في القرآن الكريم وكثير من كتب الحديث النبوي، لظني أن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا التشكيل، وكانت إشارات الترقيم التي وضعتها عوناً آخر -في اعتقادي- على الوصول إلى فهم المعنى والقراءة الصحيحة. |
واستكمالاً للعمل، قمتُ بنفسي بمراجعة التجارب (البروفات) للديوان، خلال مراحل الطبع المختلفة، للاطمئنان على سلامة النصوص، لتخرج كما تركها الشاعر الراحل حمزة شحاتة -قَدْرَ الإمكان-. |
وفي الختام: لا أدّعي أن عملي في هذا الديوان جاء مستكملاً لأسباب التحقيق والتوثيق لتعديلات جئت على بعضها في ما تقدَّم، ولأن النقص من صفات البشر، فالله، سبحانه وتعالى، أبى إلا أن يكون الكمال لكتابه العزيز، ولكنني أرجو أن أكون وُفِّقتُ في حدود طاقتي وعملي في إخراج هذا الديوان على الصورة التي تكفل للباحثين أن يُعوِّلوا عليه، ويُفيدوا منه، دون أن يجدوا فيه كبير مشقة أو وعورة مسلك. |
وإذا أخطأني التوفيق في شيء من عملي هذا، كاجتهاد في ضبط، أو شرح، أو تقويم، أو تفسير، أو توجيه، فأرجو الله ألا يحرمني أجر من اجتهد فأخطأ. |
والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات. |
|
الدكتور بكري محمد شيخ أمين |
|
جدة المحروسة: |
|
10 شوال 1408هـ/25 أيار (مايو) 1988م |
|
|