شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هذا الشاعر
بقلم: الأستاذ عزيز ضياء
في اللحظات التي أوشكت فيها أن أفرغ من قراءة مجموعة القصائد، التي آن لها أخيراً، أن تجتمع بين دفتي كتاب يمكن أن يطلق عليه: (ديوان حمزة شحاتة)، وأن تطبع فعلاً على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله الفيصل آل سعود، فتتواجد بين أيدي المئات من القراء الذين لا أستكثر أن أقول إنهم فُتنوا، أو إنهم مفتونون فعلاً، ليس فقط بشعر الشاعر، وإنما باسمه الذي قلَّ بين المثقفين من لم يسمع به... في هذه اللحظات كان أغرب ما يتبلور في ذهني، هو أن حمزة -رحمه الله- قد تمتع بشهرة واسعة مستفيضة، ليس لأنه هذا الشاعر، الذي يجد القراء اليوم شعره بين دفتي هذا الديوان، وإنما لخصائص أخرى غير الشعر قطعاً، أو لأسباب، إن كانت لها علاقة بالشعر، فلأن بعض هذا الشعر، ومنه الهجاء، بينه وبين الأستاذ محمد حسن عواد -رحمه الله- قد ظهر في فترة كان فيها حمزة، الشاعر، والصديق، والعضو البارز وربما الأهم بين كوكبة من الشباب الذي كان يشق طريقه إلى تلك الآفاق المسحورة أو الساحرة التي كانت تتلامح في حياتنا، أو هي تسطع كلما صدر في مصر أو في لبنان كتاب، لتوفيق الحكيم، أو الدكتور طه حسين، أو شبلي شميّل، أو لطفي السيد، إلى آخر تلك الأسماء التي توفّر لها من الإبهار في حياة أمثالنا، ما كان له الفضل في شدّنا إلى محاولة التحليق في تلك الآفاق. فكان يتاح للقصيدة من شعره -وهو في تقديري أوائل شعره- أن تنتهبها عيون وأذهان هذه الكوكبة من الأصدقاء... ولعلي لا أثير ذكريات غمرتها رمال الزمان، إذا قلت إن قصيدته القصيرة التي مطلعها:
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق
عزّ حتى السلام عند التلاقي
كانت تتردد على أذهان المجموعة في هوس أو هلوسة، لا تكاد تهدأ حتى تثور، ولعلي لا أنسى أن الأستاذ عبد السلام الساسي -رحمه الله- وكان من المدمنين أو الحريصين على ألا تفوتهم جلسة "المركاز" في رياض المسفلة، قد حفظ هذه القصيدة -كما يحفظ غيرها- فلا نكاد نجتمع، ويوضع على المنضدة براد الشاهي، حتى يردد الساسي أحد أبيات هذه القصيدة مازحاً، أو مثيراً لشهية الحوار، فنسمعه يقول:
أنت حر، والحسن لا يعرف القيـ
ـدَ، فصادر حرّيتي وانطلاقي
لم يكن باليسير صبري على عسْـ
ـفِك لو أنني طليق الوثاق
فلا يكاد ينتهي الساسي، حتى نسمع عبد الله عريف -رحمه الله- يرسلها ضحكة صاخبة قائلاً: يعني إيه؟ يعني كنت رايح تعمل إيه؟ تتضارب معاه؟
فيلاحقه أحدهم قائلاً:
لا... كان يزيد من وثاقه... كان يربط نفسه في روشان المقعد... عشان يشوفه وهوّه نازل يتمشى في العصر.
وتتلاحق الضحكات، ليفاجئنا الساسي بسرد قصيدة من أبياتها تلك الأبيات:
واهاً لماضٍ أنيقِ اللهو كنتُ به
إلى وفائك بالآمال أختلفُ
يجري الحديثُ رموزاً بين أعيننا
يَلينُ مَسراه تاراتٍ ويَعتسفُ
والصّحبُ بالحفلِ مشغولون عن بِدَعٍ
تجلو فنونَ جناها الروضةُ الأُنفُ
واليومَ يَثنيك عن داري وقد قَرُبتْ
ما لفّق الصّحْبُ عن سرّي وما اقترفوا
وعند الدار التي قربت، يدور أشد الحوار صخباً وتعليقات، ربما يداخلها الأستاذ أحمد قنديل رحمه الله ليقول:
ما تزال دارك في جدة... وأنت هنا... فكيف قربت الدار؟
ويجيب آخر:
إنك لا تدري أنه الآن قد نزل داراً في الطريق إلى المركاز.
ولا أذكر الآن مَنْ مِنْ ذلك الرعيل الذي عاش مركاز المسفلة، يذكر ذلك المساء الذي ظهرت فيه تلك القصيدة، التي ما تزال -في تقديري- تعد أروع وأحفل شعره بمعان، أثارت الكثير الكثير من الحوار والنقاش، حين وجد من قال إنه متأثر فيها بالشريف الرضي، ومن نفى التأثر كلياً، مصرّاً أنها فريدة من فرائد الشعر العربي، في القرن العشرين... إنها: التي تظهر في هذا الديوان بعنوان (لِمَ أهواك)... وهكذا ظهرت، في المجموعة التي نشرها الأستاذ الساسي رحمه الله... إنها التي يقول فيها:
يا حبيبي.. يا مُلتقى السّحرِ والفتـ
ـنةِ، يا غالبي على أمرِ نفسي
لِمَ كانت -ولا أسومُكَ لوماً-
قِسْمتي في هواكَ قِسمةُ وَكْسِ
ألأني آثرتُ في حبّكَ القا
هرِ عزّي ذهبتَ تطلبُ تعسي
أم لأني ضحيّةُ الألم الصّا
متِ أطوي على الجوانح حِسّي
ومنها ذلك البيت الذي يقول فيه:
أمْ لمعنىً شَفَّتْ مفاتنُكَ العَذْ
بةُ عنه فكادَ أن يَتراءى
فالمعاني في الكونِ ليست على الإنـ
ـسانِ وَقفاً إلاَّ هوىً وادّعاء
وهو بيت، زعموا يومها أن حمزة، رحمه الله، كان ينظر فيه إلى رأي الجاحظ في المعاني، التي قال إنها لا تميّز شاعراً عن شاعر، وإنما التمييز والفحولة، في صياغتها... في الألفاظ التي تصاغ بها المعاني.
ويبدو أنه لا بد من وقفة عند هذه القصيدة التي تعد من أشهر ما كتب حمزة، بل قد لا يبالغ من ذهب إلى أنها رائعته الكبرى، التي ندر أن قرأها قارئ في تلك الأيام ولم تعلق بذهنه بعض أبياتها. والوقفة تحتمها حقيقة أن الأستاذ أحمد قنديل قد ظهرت له في نفس الفترة قصيدتُه التي تُعدّ هي أيضاً من روائعه، والتي تستوقفك بأنها تحلّق في نفس الأفق الذي تحلق فيه رائعة حمزة.
وُجدَ من ذهب إلى أن القنديل كتب رائعته متأثراً، إن لم يكن منافساً للأجواء التي حلّق فيها حمزة، إذ نجد في (لِمَ أهواك؟) تساؤلاً، يتدفّق بعده حمزة في شتيت من الصور والمرائي والأفكار، والرفض لحقيقة، ثم التناغم مع نفس الحقيقة، بفكرة أن التناقض طبيعة المشاعر التي يشعل أتونها الحب... أو نظرة الحب.
ولا نكاد نمضي مع قصيدة قنديل (ما الذي فيك؟) حتى نشعر أننا في نفس الآفاق التي كنا فيها مع (لِمَ أهواك؟)... ونفس الآفاق هذه لا تعني التطابق أو التماثل، أو حتى التشابه في المعاني والصور،... كلا... وإنما هي آفاق التساؤل... والحيرة... والوقفة الذاهلة، والإلحاح على اكتناه ما وراء اكتناه المحجوب المستور من معاني الحسن، كما يزدحم بها إحساس الشاعر.
وأجواء الأستاذ أحمد قنديل في رائعته، تعايش مكامن الحسن، وتلتمسها هنا وهناك، وكأن الشاعر يحلق في أجواء فردوس عبقري لا يدري هو نفسه، كيف يصوّره أو يعكس إحساسه نحو مرائيه.
كلّ ما فيك فاتنٌ، يَعجز اللفـ
ـظ إذا رام للذي فيك حلاّ
وإذا شاء أن يحدد معنا
ك تناهى فما يكاد يُبين (1)
ثم.. تستدرجه مكامن الحسن والحس فيقول:
في البريق الذي يضيءُ بعينيـ
ـك معانٍ كثيرةٌ لا تُسمَّى
ملؤها السحر والدلال و (شيءٌ)
لست أدري لمعنييه مُسمَّى
فهو نورٌ يهدي القلوب إليه
وظلامٌ (يُصيّر العقل أعمى)
كلّما امتد من معانيه ضوءٌ
كان قلبي لذلك الضوء مَرمَى
فإذا قلت (ما الذي فيك؟) -من بعـ
ـدُ- تراءى هذا الخفيُّ المبينُ (2)
ويسترسل القنديل، فيقف، تارة عند هذا الشعر المتسق... فهو الحياة تأخذ العين، وتخفى في منتهى شفتيه، وتارة أخرى عند (الجمال) ككل... ولكن الحبيب، يتعالى حتى على هذا الجمال، إلى أن يقول:
ليس أمر الجمال والود إلاّ
متعة تنقضي وإلفاً تَغالى
فتفنّنْ في الظن، ينكشف الأمـ
ـر، فيا طالما تصيب الظنون (3)
ومع أني صديق للشاعرين، ولم يكن عندي ما يمنع أن أسأل كلاً منهما عن الذي سبق الآخر في إبداع قصيدته، فإني رغم تعدد المحاولة، لم أظفر بجواب حاسم... ومن هنا يظل التساؤل معلّقاً... وتظل القصيدتان، تعيش كل منهما حياتها في الأذهان، رائعة من روائع الإبداع، لو قُدّر لهما أن تجدا مجالهما للنشر في العالم العربي -منذ ما يقرب من ربع قرن من الزمان، لكان من الطبيعي أن تتصدّرا الكبير من الأعمال الفنية، التي كانت تصطخب بها حركة الإبداع، في هذا العالم، ومصر منه خاصة، التي كنا نتهافت على ما يتسلّل إلينا منها بين الحين والحين.
وليست هاتان القصيدتان، هما وحدهما، اللتان، تشابهتا موضوعاً وآفاقاً، فهناك قصيدة (جدَّة)، لكل من الشاعرين الكبيرين... والشاعران في القصيدتين عن جدة، لا يجاري أحدهما الآخر في الوزن أو القافية، بل ويختلفان في النظرة إلى هذه العروس التي رأياها، بمشاعر وأحاسيس بالغة الرهف، بل بالغة الحب، عروساً قبل أن تتألق وتتبرج، وتتيه هذا التيه الذي يكاد يملأ النفوس انبهاراً بها، وبما تحقق لها من النمو.
نظرة الأستاذ حمزة شحاتة إلى جدة، فيها هذا الخيال الجموح الذي يرى في جدة، في تلك الأيام (دنيا رفافة بمنى الروح وكون بالمعجزات نطوق) و:
جدَّتي أنت عالم الشعر والفتـ
ـنة يَروي مشاعري ويَروق
فإذا أومض الخيال بذكرا
ك تداعت المشاعر بعض لبعض يتوق
ويحلق حمزة تحليقاً بالغ السموق في إحساسه بجدة حين يقول:
جدّتي... لا التي يحب الخليو
ن شقاءٌ عذبٌ وأسرٌ أنيق
وصراع بين الحجا والأماني
يطلق الحس تارة ويعوق
ولم يستوقفنا، الشاعر، مع مشاعر التفجع والأسى، بل والاستنكار حين يقول:
حبذا أنتِ لو وفيتِ وأجملْـ
ـتِ، ولم ينتهك لديك الصديق
فوفاء الحبيب أسمى معاني الـ
ـحسن، والطهر بالجمال خليق
إلى أن يقول، في نبرة توجّع ملؤها الحزن:
أكذا أنت للنقائض وِرد
يستوي عنده التقى والفسوق
بين من تمنحينهم وُدَّك السا
ئغ قوم ودادهم ممذوق
من مياسير جاهلين أضاعو
ك، وكلٌّ بما يَشين عَلوق
ومهازيل كالضفادع في الظلـ
ـمة أقصى ما يستطعن النقيق
قادهم أخرق الخطى للدنايا
وهم فيهم بما جناه مسوق
وشباب غراسُه ما زكت فيـ
ـكِ -ولا غرو- فالغراسُ العروق
لعلعت صرخة النهوض حواليـ
ـكِ، وأصواتهم لديك نعيق
هم أسارى مناعم العيش والحـ
ـق عليهم -مما أذيل حنيق
إلى أن يقول:
لا تلومي على عتابك حراً
قلبه منك بالجراح شريق
أنا للمجد -والهوى يؤثر العز
وغيري لغيره مخلوق
وتختلف نظرة الأستاذ أحمد قنديل إلى جدة، في هذه القصيدة، إذ فيها إلى جانب مشاعر الحب والوله، لمسات من الذكرى... ذكرى الأمس البعيد، ومشاعر الانتماء أبناء وجذوراً، وطفولةً وصبا وشباباً، والإحساس العميق (والهادئ) بأنها جزء من موطن (ملء القلب)... وفيها وقفات الوصف المبدع عند الخضم، الذي يشبهه (بصب على الباب طريح وهي عنه عيوف).
ويترامى من هوى فتقصينه عنك
فيرتد... والمحب ضعيف
وفي قوله (والمحب ضعيف) نوع من النظرة الراثية لهذا المحب، الذي لا يملك إلا أن يرتد أمام الحسن، أو أمام الحب، إلى أن يقول:
هكذا أنت فتنة من كوى الفكـ
ـر يراك المدلّه المشغوف
ولدى عالم الحقيقة شيء
دون هذا لولا هواك العنيف
* * *
وبعد... فهذه المجموعة من الشعر الذي قدر له أخيراً أن يظهر ديواناً، كانت بالنسبة لي شخصياً مفاجأة، إذ كان مما رسخه الشاعر عندي، وعند فريق من أصدقائه الشعراء وغير الشعراء أنه لا يحتفظ بشيء مما يكتب من شعره... يمزّقه، أو يتناساه، فيما يتناسى من مهملات ملفاته وأوراقه... ولقد عكفت على قراءة معظم قصائد المجموعة، متوخياً أن ألمس تطور حركة الإبداع عنده، وإذ وجدت المجموعة ضخمة نسبياً، قدّرت أنني سأجد شواهد هذا التطور فيما لم يسبق أن قرأت من هذا الشعر، ولكن لست أدري، إن كانت نظرتي إلى مفهوم التطور في الإبداع، أم توقف حركة التطور في شعر حمزة، هي التي جعلتني أقول بعد كل قصيدة قرأتها: إن أوائل ما أبدع من شعره في مكة وجدة، وربما بعد ذلك بفترة قصيرة في مصر، يظل هو الذي بنى له هذه الشهرة وذيوع الصيت كشاعر في القمة... وعدم التطور أو وقوف حركة التطور لا تعني بطبيعة الحال أنه هبط عن مستواه... ولكن لا شك أنه لم يرتفع، وباستثناء (نفيسة) أو (فتاة بولاق)، وقصيدة (قالت شجرة لأختها)، وقصيدة (العجل أبيس)، لا أجد في جملة ما قرأت، ما يجعلني أشعر أنه تفوق على نفسه، أو حتى جاء بمثل الروائع التي عرفت له في بداية حركة إبداعه، مما سبق أن نشر له في الصحف، أو في ما عني بنشره الأستاذ عبد السلام الساسي، رحمه الله.
تلك نظرة أعلم أن كثيرين يرفضونها، إذ للشاعر ذلك الأثر الفتّان، على كل من سمع عنه، أو قرأ له روائعه الأولى... ولكن قد ينبغي ألا أحجم عن أن أقول: إن الشعر لم يكن وحده خصيصة الشاعر الذي استقر في الأذهان عبقرياً من عباقرة هذا البلد في القرن العشرين، فهو -رحمه الله- طراز فريد في شخصيته، كمحدث، يملك أذهان وأسماع مستمعيه...، وككاتب أشعر أن نثره، إنْ لم يكن أقوى من شعره كثيراً، فإنه النثر الذي تشعر بقوته، ولا تملك إلاّ أن تستزيد من قراءته، كما في (المحاضرة) التي ألقاها في جمعية الإسعاف... وكما في رسائله إلى ابنته (شيرين)... بل وفي الكثير جداً من رسائله إلى أصدقائه، وهو ما أرجو أن يتجمّع، وأن يظهر في كتاب في يوم ما.
وبعد... فليرحم الله الشاعر الفذّ، وليغدق عليه من شآبيب رضوانه... ولعله قد آن الأوان بعد اليوم، لنسمع ونقرأ آراء النقاد في إبداعه... وهو ما لا بد أن تزدحم به أنهار الصحف، والفضل في ذلك لليد الكريمة، يد الشاعر الأمير عبد الله الفيصل، الذي يعطينا المثال الفذّ، لرعاية دوحة الأدب والفن... ولا عجب فهو الأديب الفنان، الذي سيأتي اليوم الذي يعكف النقاد على دراسة شعره، في ما صدر، وفي ما سوف يصدر له، إن شاء الله.
عزيز ضياء
 
طباعة

تعليق

 القراءات :729  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 169
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج