شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين))
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله وأتوب إليه، وأصلي وأسلم على خير خلقه سيدنا محمد خاتم رسل الله، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار.. وبعد:
سيدي الصديق الشيخ عبد المقصود بن محمد سعيد خوجه مؤسس الاثنينية والمنفق عليها، حفظه الله.
أريد في البداية أن أشكر فضلك مجدداً، فأنت تسعى إلى الأعلام من العلماء في مختلف عالمنا العريض، حفياً بهم ومقدراً لهم استجابتهم لدعوتك الكريمة، المتعددة في التكريم، ولن أذهب بعيداً إذا قلت إن ما تنهض به تفرد بالحفاوة والتقدير والاهتمام، ودعوني أيها السيدات والسادة أستشهد بما كان يردده أستاذنا الكبير محمد حسين زيدان رحمه الله وغفر له، كان يقول: "ذهب الذين يعاش في أكنافهم".. وإني لأرجو الله أن يمد في حياتك ويعزك، لتمضي بالاثنينية إلى المزيد من التألق والنجاح واستمرارية باقية مع الأيام، لأنك تزرع الجميل وتعمل له ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.. وإني الشاكر لفضلك المتجدد بهذا الاحتفاء الثري الكريم، وهو فضل الله عليّ وعلى الناس، وإني لأدعوه سبحانه أن يجعلني وحضور هذا المحفل من القليل الذين قال فيهم في كتابه العزيز: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سبأ: 13)..
وبعد،
فإن أيامي أو حياتي في النادي، التي بلغت في حساب الزمن ربع قرن، قد اكتنفها الكثير من العناء والظروف الصعبة، وأخي المحتفي بي الليلة، شكر الله فضله وأعزه، كان مع النادي حضوراً ومتابعة لما يؤديه، كريماً يدعو الضيوف الذين ندعوهم، ليُفضل بالحفاوة بهم في داره العامرة، ليدرك أولئك المدعوون إلى النادي، أن في الوطن أخياراً، يدعمون المعرفة ويقفون معها ولرموزها هنا وهناك، وأولئك الضيوف يشيدون بالفضل وأهله، ويذكرون في أوطانهم هذا التعاون المتجدد للنادي في أجمل الظروف وأحلكها.. وقد كان ذلك لي ومعي، يوم قيل لي وأنا في النادي: مع السلامة، فخاطب الشيخ عبد المقصود، مرتين الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز رحمهم الله.
كان أخي الشيخ عبد المقصود يدافع عني ويدافع عن نادي جدة الأدبي الثقافي، تفضلاً منه ووفاءً لمنارة في وطن غالٍ، يعمل فيه وفيها -أي النادي "المنارة"- من ارتضى المغارم، لأن العمل في الثقافة في الوطن العربي مغارم، ولن يكون في يوم من الأيام مغانم، ذلك أن الكثير ممن يتحدثون ويكتبون أن في هذه الأندية مغانم ظفر بها من فيها، لم يعوا قولة قديمة يضرب بها المثل: فلان أدركته حرفة الأدب، فيقول السامع: أدركه الفقر.. وليس عيباً أن يقبل أحدنا أو يعشق المغرم الثقيل، الذي يقبل عليه أحدنا مختاراً أو مجبراً، وعجباً أن يقبل أحدنا على المغارم! وأن يمضي هذا المقبل على المغارم، يصارع المشكلات والاتهامات والطعن في عمله ووطنيته ونجاحه، إلى ما لا نهاية، من كثير من خلق الله، من شيعته ومن أعدائه، ومع كل هذا العناء، يبقى أمثالي يصارع الموج في تحدٍ، ذلك أنه يؤدي رسالة لوطنه اعترافاً بحق الوطن على أبنائه، لأن واجب الوطن كبير لا ينهض ببعضه إلاّ المخلصون والمحبون له، أعانهم الله على ما يلاقون من تضحيات في سبيله، وسدد خطاهم في استعانتهم بالصبر الجميل..
وبعد هذه المقدمة التي أمعنت بالسبح فيها، أجنح إلى تجربتي في نادي جدة بدءاً من البداية:
فلقد قرأت في الكتاب السنوي لنادي جدة الأدبي عام 1395-1396هـ الذي كتبه رئيسه الأستاذ الكبير محمد حسن عواد رحمه الله ورطب ثراه، قال في مطلع ذلك الكتاب: "في ساعة مشرقة من ساعات النهار، في فصل هادئ من فصول العام، هو فصل "الحوت" آخر فصول الشتاء.. وفي مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، ولدت فكرة تأسيس الأندية الأدبية المنظمة، وهي: نادي جدة الأدبي، ونادي الرياض الأدبي، ونادي المدينة المنورة الأدبي، ونادي مكة الأدبي.. ونادي جازان الأدبي.. ونادي الطائف الأدبي.. ولدت هذه الأندية الستة في ساحة واحدة، انبثاقاً من حوار جرى بين صاحب السمو الملكي الأمير الشاب فيصل بن فهد بن عبد العزيز الرئيس العام لرعاية الشباب، وطائفة من الأدباء السعوديين الذين تجمعوا للسلام عليه في مكتبه في مبنى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية هناك".. وكان السبب الرئيسي للاجتماع في العاصمة، هو حضور مؤتمر إحياء "سوق عكاظ"، الذي دعا إليه سموه حوالي أربعين أديباً من مختلف مناطق المملكة، للدراسة وتنظيم إحياء هذه السوق سنوياً.. وكان ذلك الحوار المشار إليه في يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر مارس 1975م، وهو آخر يوم من أيام المؤتمر الأربعة التي حددتها الدعوة. وقد فرغ المؤتمرون من إنجاز مشروع إحياء "سوق عكاظ".. ثم تحولت سوق عكاظ إلى إقامة أندية في مدن البلاد التي بدأت بستة.. ويبدو أن إقامة سوق عكاظ جاهلية رؤية صرف النظر عنها، ربما كان هذا التحول في صرف النظر عن عكاظ بعامل من أهل الحسبة وأمثالهم.. غير أن "سوق عكاظ" ظهرت مجدداً قبل عامين، وذلك بفضل اهتمام الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة.. وهذه السوق الأدبية بدأت ضعيفة.. وقد كتبت للأمير خالد عند توليه إمارة البلد الحرام وجدة والطائف، رسالة سلمتها إليه بيده عما تحتاجه جدة.. وحول سوق عكاظ، ودعوت -بل رجوت- أن تكون هذه السوق "دولية" يأتي إليها الناس من القارات الست في شهر من فصل الربيع، ويذلل موضوع التأشيرات عبر سفاراتنا في القارات الست.. لكن قبل ذلك ينبغي الإعداد والاستعداد لتلك السوق من خلال مشروعات كبار في موقع عكاظ؛ من سكن مريح فيه كل احتياجات الحياة، وكيان كبير عالمي فيه كل المتطلبات التي تليق بحجم المملكة الكبير واسمها. وقلت في خطابي للأمير خالد، عن فتح الأبواب على مصاريعها لسوق عكاظ، سيكون مشروعاً سياحياً عالمياً على نحو "الأندلس" في إسبانيا والعدد الكبير من السياح الذين يتوجهون إلى مختلف دول العالم التي فيها ما يريدون من المباح، وأكبر الظن أن سمو الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، الأمين العام لهيئة السياحة والآثار سيشارك في هذا المشروع، وأقدر أن أمير منطقة مكة المكرمة قد يدرس هذه الفكرة أو هذا المشروع، لكن في حساباتي أن هناك أولويات لدى الأمير في مقدمتها البلد الحرام مكة المكرمة، التي لها في ذهن الأمير اهتمامات كبيرة من مشروعات كبار تليق بأم القرى، وكذلك هذه المدينة التي تقلنا جدة، تحتاج إلى جهود وإلى مال وإلى زمن لتكون كما ينبغي، بوابة الحرمين الشريفين وعاصمة تجارية كبيرة للمملكة، وهذه المدينة ظلت طوال سنوات من دون أن يدق فيها مسمار، وقد توسعت وزاد عدد سكانها وتأخرت عن ركب التقدم عقوداً، ولا بد من الصبر حتى تعود كما يريد لها المخلصون، وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله وأمد في حياته وأعانه وأعزه، لأنه يعمل جاهداً في سبيل ارتقاء الأمة المسلمة لتكون كما أرادها الله، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 110)..
في سنة 1401هـ توفي الأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله، فأجريت انتخابات، كان فيها سهم الأستاذ مطلق مخلد الذيابي الأول على أقرانه، ومنهم الأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي والدكتور عبد الله الزيد مدير عام التعليم يومئذ في جدة، غير أن الدكتور الزيد اعترض على أن يكون الأستاذ مطلق رئيس النادي، وبطيب نفس ورضى، تنازل الأستاذ مطلق للأستاذ حسن عبد الله القرشي، غير أن الأستاذ القرشي لم يمارس عمله في النادي، ذلك أنه اختير ليكون سفيراً للمملكة في السودان، فتم اختياري لرئاسة النادي في العام نفسه 1401هـ.. وكان أول نشاط نهضت به بعنوان: "المثقف ما له وما عليه"، أُقيم في صالة الغرفة التجارية والصناعية يوم كانت في شارع الملك خالد بن عبد العزيز -طريق الميناء- الطريق الشرقي، حضره الكثيرون، منهم أستاذنا الكبير محمد حسين زيدان والدكتور عبد الله مناع، والأستاذ تركي السديري رئيس تحرير جريدة الرياض. وكان لهذا الملتقى حضور كبير متميز وصدى كبير، قال عنه الدكتور مناع في مجلة اقرأ في "منحنى الوداع" بالعدد 317 الصادر بتاريخ 5/6/1401هـ الموافق 9/4/1981م تحت عنوان "هموم الآخرين": "عندما كان يجري الحوار داخل قاعة الملك فيصل بغرفة جدة التجارية، عن "المثقفين ما لهم وما عليهم"، لم يدر بخلدي أن أحداً من خارج القاعة وحضورها المتميز، سيهتم بهذا الحوار أو سيحفل به ولو لبعض الوقت".. ويعزو الكاتب هذا الاعتقاد إلى أن حياة الناس جلّ همها ينصب على ملبوسات فاخرة.. ومأكولات فاخرة.. وعربات فاخرة.. ووظائف فاخرة.. وكان يخص بهذه النظرة الأجيال الصاعدة كما أسماها، وعلّل هذه الرؤية بقوله: "إن الثقافة ترف الأجيال السابقة، وإنها شظف تلك الأجيال وهمها الذي لم تجن من ورائه شيئاً".. ثم يعقب الكاتب من خلال هذا المعنى قائلاً: "إنني أعترف بأنه لم يدر بخلدي أن أحداً من خارج القاعة سوف يهتم بذلك الحوار عن "المثقفين".. كان إفراطاً في التشاؤم، إلا أن الذي حدث -وإن كان محدوداً- كان يدحض تشاؤمي وإفراطي، فقد انتقل الاهتمام بالحوار من القاعة إلى خارجها، ومن خارجها إلى ظهور الصحف والمجلات"، ولعلّ مرد ذلك أولاً لفرسان الندوة وتباين هوياتهم.. من أديب مؤرخ إلى كاتب صحفي إلى أكاديمي متخصص.. وثانياً كذلك الاختلاف الحيوي الذي نشأ بين فرسان الندوة وبين حضورها المتميز حول تعريف "المثقف".. ومضى الكاتب عبر تلك الوقفة يبدي اهتمامه بما حفل به ذلك الملتقى المتوثب في طرحه وحيويته فقال: "إن علاقتي بذلك الحوار الجذّاب عن المثقف لم تنته بانتهاء ساعتيه؛ بل شدتني إلى البحث في محاولة للوصول إلى "التعاريف" السابقة المختلفة على وجه الخصوص عند عدد ممن لا يختلف جيلنا حول تقدير "مكانتهم الثقافية".. ووصلت الاهتمامات وأصحاب الموقف والدور في كل حوار.. وهم أصحاب كل التعاريف.. وهم الشهود على مجتمعاتهم.. وهم الذين تتسع همومهم لهموم الآخرين".. ولعلّي أقول اليوم بعد مضي ثلاثة عقود، إن النادي بعد ذلك الملتقى شرع يشق طريقه الجاد والمتجدد بكثير من الحيوية والعطاء المتواصل والإنجازات الكبيرة التي بقيت مع الأيام الطوال، حافلة بالحيوية والقوة والتواصل، عبر حياة قوية جادة إلى آخر يوم كنت في النادي، في الشهور الأولى من عام 1427هـ، ذلك أن العمل عندي عشق لا حدود له، وأنه ليصيبني القلق مع كل مشروع ينهض به النادي، والقلق للعمل وفيه ومن أجله هو ما كان لي ومعي، وأردد أن كل نجاح وراؤه عون الله وفضله.. وأنا أعتذر كل الاعتذار ذلك أن الإنسان في رأيي لا يتحدث عن نفسه وما صنع، لكن يتحدث عنه الآخرون.. وأقدمت على هذا الحديث، وفيه شطر من حياتي أو أيامي في النادي، استجابة لدعوة كريمة غالية من راعي الاثنينية.. وسأمضي في هذا الحديث تلقائياً.. إلى أن يقول لي أخي: حسبك! بعد فيلا شارع الهدى التي بدأ بها النادي إدارته ونشاطه المنبري، انتقل إلى فيلا للأستاذ شكيب الأموي، بعد أن أصبح الأستاذ شكيب عضواً في النادي، وذلك على أثر خروج بعض الأعضاء وأنا منهم، كما انضم إلى النادي معالي الدكتور حسن نصيف وزير الصحة سابقاً..
بعد مرور أربع سنوات على تكوين مجلس الإدارة الأول، أُجريت انتخابات جديدة لم يرض عنها الأستاذ أحمد فرح عقيلان ممثل الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وكان حضور الناخبين قليلاً، فكتب على إثر ذلك الأستاذ عقيلان مقالاً نشر في صحيفة عكاظ، عنوانه: "أنصفونا من أدباء جدة"، بتاريخ 6/12/1400هـ الموافق 15/10/1980م جنح فيه القول إلى أن الجداويين مشغولون بالتجارة والمال.. وخلال تلك الفترة خرج من النادي الأستاذ الكبير عزيز ضياء، رحم الله الجميع.
منذ البداية في عام 1401هـ، أخذنا نشرق ونغرب من أجل المحاضرات والجمهور الذي هو أساس بعد الضيف الذي يدعوه النادي للحديث.. ذهبنا إلى مدرسة الثغر النموذجية، وإلى جامعة الملك عبد العزيز في صالة تتسع للمئات، والأخ الدكتور عبد الله الغذامي كان يومها رئيس قسم اللغة العربية، وأخذ يغري الطلاب الذين يدرسون في المساء، بأنه سيعطيهم درجات إضافية، لكن التجربة لم تجدِ، إذ لم يحضر أحد من المدرسين أو الطلاب رغم كل المحاولات.
ثم سعينا إلى "نادي الاتحاد" في شارع الصحافة، وكانت البداية فيه مع الدكتور حسن ظاظا. ويتحدث الدكتور الغذامي عن تلك الليلة، فيقول إنه صحب الدكتور عبد الله المعطاني، وحين اقتربت السيارة من النادي، وجدا أرتالاً من السيارات ففرحا، وبعد أن ترجلا نحو بوابة النادي، ثم دلفا إلى الصالة، لم يجدا فيها أحداً، إلاّ المكيفات التي تبرد المكان المضاء.. فتوجها إلى أحد المسؤولين في النادي وحادثاه، فقال لهما إن تلك السيارات للاعبين، يأتون إلى النادي للتسلية والسباحة والتحادث، فحزنا إذ كانت ليلة بلاء، رغم أنهما حاولا مع المسؤول بأن الضيف رجل لطيف، وأن منسوبي النادي سيتمتعون بما يقدم المحاضر، لكن غير مجدٍ كما قال أبو العلاء، وكتب الدكتور الغذامي في خميسية الرياض، بأن العقل السليم ليس في الجسم السليم..
وينتقل النادي لبعض الوقت إلى العمارة المكتوب بأعلاها "لا إله إلاّ الله"، المطلة على شارع فلسطين وطريق المدينة في الدور العاشر، ثم رحلنا عنها إلى فنادق العطاس في البغدادية الشرقية حيث الحياة والجمهور.
نقرأ للدكتور الغذامي مقالاً آخر في خميسية الرياض: "صناعة الجمهور" ومضاف إلى العنوان كلمتان هما: "نار الحداثة".. وحين أُلقي بقضية الحداثة، كان الجمهور يبادر إلى صالة الفندق، والبعض كان يصلي العشاء هناك.. كان فريق من الجمهور مع الحداثة، لكن الأكثرية كانت ضدها..
هناك كان تزاحم الجمهور، وكانت الخصومات، وصاحبت الحداثة، البنيوية. كان ذلك في عام 1405هـ-1985م.. في الماضي كان النادي يستجدي الناس، أما بعد بدء قضية الحداثة، التي اشتعلت بالحوار وحوار الحوار، وجدت الصحافة مجالاً كبيراً بالنسبة لهذا التحول، وكانت الإثارة وطرح الأسئلة، وجاء الناس إلى النادي، من مكة المكرمة والطائف، فلقد كانت سوق الحداثة رائجة ومشتعلة، وعرف الناس طريقهم إلى حيث نشاط النادي في فنادق العطاس!
وازدهرت أيام النادي واستمر النجاح المتجدد.
في شهر ربيع الآخر 1409هـ الموافق شهر نوفمبر 1988م، أقام نادينا مؤتمراً كبيراً دعا إليه واحداً وعشرين أستاذاً باحثاً من الوطن العربي، من الدار البيضاء مروراً بتونس ومصر واليمن وجدة والقصيم.. عنوان هذا المؤتمر: "قراءة جديدة لتراثنا النقدي"..
من المدعوين أستاذ جامعي اسمه كمال أبو ديب، يعمل في جامعة صنعاء، والرجل يقيم في لندن اليوم.. ورفضت السفارة السعودية إعطاءه تأشيرة، فأفزع إلى الشيخ عبد المقصود حفظه الله، فخاطب السفير، وقال له إن الدكتور كمالاً من ضمن المدعوين لمؤتمر النادي الأدبي بجدة، فحصل على التأشيرة بالعون الكريم.
ويسعى الشائنون إلى سماحة المفتي حسداً من عند أنفسهم، يسعون إلى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ليقولوا له إن النادي سيقيم مؤتمراً فيه نصارى لهدم اللغة العربية.
ويفزع الشيخ إلى الرئيس العام لرعاية الشباب فلا يجده، ويجد مدير عام الأندية الأدبية الأستاذ عبد الله الشهيل، وهو رجل واعٍ مثقف، فيرد على المفتي بأن المؤتمر صدر به أمر سامٍ، وإذا أراد سماحته بعث من يراه لمتابعة ما يُلقى في المؤتمر فلا بأس.
وبعد نهاية المؤتمر طلب رئيس الهيئة بجدة من النادي نسخة مما ألقي في المؤتمر ففعلنا، ولم نُدَن بشيء والحمد لله.
وتذكرني المناسبة، أن الأمير فيصل بن عبد العزيز الملك رحمه الله، سمع أن بعض الناس يقولون في مجالسهم: إن الحكومة سوف تشتري أسلحة من الاتحاد السوفياتي. فقال: إذا قررت الحكومة ذلك، فإنها ستستورد أسلحة لا مبادئ.
ودعا النادي أستاذاً من جامعة الملك عبد العزيز لإلقاء محاضرة، كان عنوانها: "تأثير الأدب الصهيوني في الأدب الأمريكي"، وعلّق أستاذ زميل في الجامعة تعليقاً سيئاً، اتهم فيه النادي بقول شنيع. فهرعت إلى معالي الدكتور رضا عبيد مدير الجامعة، أشكو من ذلك الجور، من رجل ينتمي للجامعة، فمنع الدكتور رضا ذلك الرجل من الذهاب إلى النادي.
ويكتب كاتب في جريدة عكاظ، صديق للأستاذ الجامعي قائلاً: "إن أبا مدين يمنع فلاناً المجيء إلى النادي، والنادي ليس ملك أبيه"، وأصبر على الظلم.
ويعلن النادي عن جائزة للإبداع، فيفوز بها الشاعر محمد الثبيتي -عافاه الله- عن ديوانه: "التضاريس" الذي طبعه النادي، وجاء الشاعر بفسحة من إدارة المطبوعات في الرياض.
ويوم الاحتفال جاء الدكتور علي البطل الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز المختار لحضور المناسبة وقراءة محضر الفائز وجاء الشاعر الثبيتي إلى النادي.
ومررت بالقاعة لأرى الحضور، فرأيتها ملأى، فقلت في نفسي: هذه الليلة لها ما بعدها.. فجئت إلى الشاعر والمحكم، وقلت لهما عودا من حيث جئتما فلا احتفاء الليلة، وبلغني أن في باب النادي جيوباً وسيارات للقوم.
وجئت إلى الدكتور ناصف وقلت له: قل بما يفتح به الله عليك، فلا جائزة هذا المساء ولا "تضاريس".
وكان مقرراً في الأسبوع التالي الاحتفاء بأديبنا الأستاذ محمد سعيد العامودي رحمه الله، وكان حياً يوم الاحتفاء به، لكنه لا يستطيع المجيء إلى النادي من مكة، وأقول: إن نادي جدة كرم لفيفاً من أدبائنا.. منهم أساتذتنا محمد الحافظ بن موسى خال الدكاترة أسامة عبد الرحمن وزاهر ونعيمان وإخوتهم.
كما كرم النادي كلاً من أساتذتنا: محمد حسين زيدان، ومحمود عارف، وحسين سرحان، ومحمد حسن فقي، ومنصور الحازمي، وعزيز ضياء، وعبد العزيز الرفاعي.
تحدث الدكتور ناصف في ليلة "التضاريس" الملغاة، عن الدكتور عبد الوهاب عزام مدير جامعة الملك سعود، وقال قائلهم: وحفل الجائزة؟ فأجبت بهدوء: أجلناها.. لأطفئ النار قبل أن تشتعل، ورب قائل يقول: إذا اشتعلت فكيف تطفأ؟
في صباح اليوم التالي جاء اللهب من سمير خوجه بكه في "الندوة"، وجاءني صوت الأمير فيصل بن فهد من الرياض يسأل عما حدث.. فقلت له الحقيقة.
طلب الأمير فيصل ديوان "التضاريس"، وكتاب الدكتور أحمد زكي الأستاذ بجامعة الملك سعود: الأساطير -وهو من مكتبتي الخاصة- فبعثت بذلك مع خطاب فيه ما كان.. وبعد أسابيع ثلاثة، جاءني خطاب الأمير يقول فيه: أطلعنا على ما بعثتم به إلينا.. وهنا نلاحظ أن المشكلات لا تأتي إلاّ من نادي جدة.
قدرت أن النادي الذي يعمل هو من تظهر فعالياته.. وأنا لا أستطيع أن أكون في كيان لا حراك فيه.. وكان الدكتور زكي مبارك -أبو الدكاترة- يقول إنه إذا توقف عن المعارك الأدبية، فإنه يضطر إلى مراجعة الطبيب.
وكان أستاذي الحافظ، وهو اسم على مسمى، يقول لي: أنت ولدت في يوم فيه أعاصير! وأنا أزعم أني رجل إداري، وأؤكد أنني استفدت كثيراً من الصحافة، منذ "الأضواء"، و "الرائد"، والعدد الأسبوعي من "عكاظ"، ومؤسسة البلاد للصحافة والنشر، ودار البلاد -المطابع-.. وأردد في مواقف كثيرة: إن كل عمل ناجح وراؤه إدارة ناجحة، وإن كل عمل فاشل، وراؤه إدارة فاشلة.
سمير خوجه بكه المحرر الصحافي، قال لي مرة: إن الذي يأتي بعدك سيتعب.
جماعة حوار:
حينما انضم إلى نادينا الدكتور حسن النعمي عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبد العزيز -قسم اللغة العربية، كان الرجل ذا حماس ليعمل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومن طبعي أنني أحب العمل والتجديد فيه والأخذ بالأمثل.. فاقترح الأخ حسن النعمي إضافة نشاط ينهض به بعض الطامحين ممن حول صاحبي، يجمعهم الطموح والعمل.. كان ذلك منذ ست سنوات، فاستجبت بلا تردد وأنشأنا فريقاً أسماه الدكتور حسن "جماعة حوار"، وبدأ عمله بنشاط وحماسة، يلتئم مرة في الأسبوع، وأحياناً مرة كل أسبوعين، ما دام النشاط المنبري الذي يقدم المحاضرات لم يعد ذا بال.. ونجح فريق "جماعة حوار" لأنهم واعون ومتعاونون، وهذا ملمح مهم وأساس..
وبدأ "جماعة حوار" في عملهم الأول بتقديم محور "الرواية في المملكة العربية السعودية منذ بدايتها"، وأفرز هذا المحور كتاباً تجاوزت صفحاته الستمئة، ومضى يقدم كل نشاط جديد بمسمى جديد محققاً نجاحاً أشاد به المثقفون الذين حضروه والذين شاركوا فيه، وها هو من خلال عزم الفريق المتعاون الطامح، يمضي في نجاح متجدد مع الأيام، عبر لقاءات دورية متفق عليها، يعملون وينجزون وينجحون بعون الله، وقد كسب النادي رجلاً طموحاً وصديقاً ذا حماسة للعمل المستمر الثري بلا شك، يحدوه الطموح الفاعل والمنجز والمتحاب، وهذه الخصال الحميدة والجميلة قلّ أن تكون أو يستمر عطاؤها دون خلافات وصدام، فالحمد لله على فضله وعونه، وبعزم الصادقين المحبين للطموح والطامحين المخلصين، أهنئ أخي الدكتور حسن النعمي ورفاقه من النساء والرجال على العزائم التي قال فيها شاعر الأمة العربية أبو الطيب المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
استقالة مجلس الإدارة:
خلال بعض الأيام من عام 1426هـ، مر بالنادي ذات مساء الصديق الأخ الدكتور عبد العزيز السبيل وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية سابقاً، وقال: "إن الوزير عليه ضغوط من أجل تغيير مجالس إدارات الأندية الأدبية"، فكتبنا الاستقالة في المساء ذاته، وكان في مكتبي بعض أعضاء مجلس الإدارة، ووقعتها نيابة عن المجلس، وفي الصباح كانت على مكتب الوزير.. وسأل الوزير الدكتور السبيل: لماذا استقال مجلس إدارة نادينا؟ فأجابه أنه سمع الرغبة في التغيير فاستجاب.
أقدمنا على تلك الخطوة الإيجابية لأن الخروج أمسى حتمياً، ولأنني قدرت أن نادينا قد أدى واجبه في حدود الإمكانات المتاحة له، وكذلك لكي تبادر مجالس إدارات الأندية إلى الخروج، ليتاح للوزارة تشكيل مجالس إدارات جديدة!
وقد قال بعض الناس إن استقالة مجلس إدارة نادينا مجرد تمثيلية، فيما أنكر علينا خطوتنا آخرون.. ولقد حدثني أخي المحب الدكتور عبد الله الغذامي، أنه ما دخل مجلساً في الرياض أو التقى أناساً إلاّ أثنوا على ما جنح إليه نادي جدة الأدبي الثقافي، وفي ظني أننا كسبنا الجولة كما يقال، بما أقدمنا عليه من التخلي، فيكفينا الزمن الذي لبثنا فيه في النادي، وحان الوقت لكي يأتي فريق آخر يحل محلنا، لعلّه يستطيع أن يقدم أحسن مما قدمنا، ولنفسح المجال لدماء جديدة بأن تحل محلنا، لأن دوام الحال من المحال كما نردد ذلك المثل.
خمس وعشرون سنة حافلة بعون الله وتوفيقه، وإن كثرت المشاكل فيها، لكني وأنا أعمل وأتعب لا أحس بالتعب ومرد ذلك النجاح، وكان أمام عيني قول المؤرخ رائد الاجتماع الأول ابن خلدون: "كل عمل يصيبني ولا يقتلني فإنه قوة لي".
أوجزت الحديث لأتحاور مع أنصار الاثنينية، ذاكراً الجميل لأهله.. وبالمناسبة، فقد كنا في فندق اليمامة بالرياض أيام كانت لنا صحف فردية، كنت مع شيوخي أحمد السباعي وعبد القدوس الأنصاري نتحدث.. فقال الشيخ الأنصاري: إن الأخ أحمد -يقصد الأستاذ السباعي- رجل نسّاء. فما أسرع أن قال الأستاذ السباعي: لكني يا شيخ عبد القدوس لا أنسى الجميل.. وأنا أيضاً لا أنسى الجميل، فلي أعزة: بدءاً من صاحب هذه الدار العامرة بأهلها، وآخرين من وطني وخارجه في الوطن العربي وسواه، ربطتني بهم وشائج الألفة، من خلال دعوتهم إلى النادي، وكذلك عبر دوريات النادي التي لها جمهورها في الخارج أكثر من الداخل، وكذلك الكُتّاب الذين يشاركون بالكتابة في دوريات النادي في الوطن العربي الكبير، إنهم من مكاسب النادي الباقية. فالثقافة تواصل وتعارف وصلات جميلة، وحين يكون لأمثالي تلك العلاقات مع أشخاص ألتقيهم بهم في أوطانهم أو في خلال الملتقيات الثقافية، أو حين يأتون إلينا زائرين بدعوات منا إليهم، فإنني أعتبرها مكاسب بحق. لقد أسعدني ذلك التعاون الأثير الجميل، فما أمتع أن تكون لك صداقات وتواصل في وطننا العربي الكبير، فإنها بحق مكاسب عزيزة كريمة..
وفي النادي هنالك من احتفوا بي يوم ودعتهم، من الأستاذات والأساتذة مع حفظ الألقاب، وحبوني بكرمهم وفضلهم، وكذلك الأعزة الذين تحدثوا في ذلك اليوم الجميل، يوم الوفاء والتقدير والفضل، ولم أسمِّ خشية أن أنسى أحداً منهم.
ولي أهل وأحبة في دار الهجرة، في تلك الجيرة الغالية، في دار السكينة والحنان، ولي أحبة وإخوة في مصر المحروسة، ولي أبناء وأحفاد وأهل، بارك فيهم خالقهم الرحمن الرحيم، وكل ذلك من فضل الله عليّ وعلى الناس، اللَّهم اجعلنا من الشاكرين.
لعلّي لم أتحدث بما يكفي، وأذكر دوريات النادي التي بلغت خمسة إصدارات. فبعد أن أصدرنا خمسة عشر عدداً من "علامات"، وطبعناها في جدة، وكانت الشركة السعودية للتوزيع تتولى مهمة التوزيع، تبيّن لي أن التوزيع غير كافٍ.. فسعيت إلى بيروت، حيث الحراك القوي المتجدد.
وفي لقاءين في ساعتين، اتفقنا مع رجل ينهض بالتوزيع إلى العالم العربي، كما اتفقنا مع مطبعة المتوسط على طباعة الدوريات والكتب التي يصدرها النادي.
ولقد ترجم النادي كتاباً صادراً عن جامعة "كامبردج" عنوانه: "الأدب العربي الحديث"، وأصدره. ومنذ سنوات شرع النادي بإقامة ملتقى سنوي أسميناه: "قراءة النص"، يشارك فيه لفيف من مثقفينا وأساتذة من الوطن العربي في جامعاتنا، والمحصلة لكل ملتقى أكثر من ألف صفحة، وبلغ ما صدر في عهدي ستة ملتقيات.
ويدرك النادي الفلس، ذلك أن هذا الملتقى السنوي يكلف مئة وخمسين ألف ريال والدوريات أربعمئة وخمسين ألف ريال، وكنت في بعض الأوقات أستلف من أخي الشيخ عبد المقصود تكاليف الملتقى..
وأقول إن الإنفاق على الثقافة فيه شح كبير، فمليون ريال من وزارة الثقافة والإعلام لا تحقق إلاّ ثقافة رخيصة، والأدباء الذين أدركتهم حرفة الأدب كما أشرت آنفاً، لشيء مخجل أن تعطي أحدهم مئتين أو ثلاثمئة أو خمسمئة ريال، فتذهب السلعة الجيدة لمن تعطيه الصحافة ثلاثمئة وخمسمئة دولار، "والغلابة" الذين يتعاملون مع نادينا وأنديتنا الستة عشر في عسر لا يليق بنا ولا بالمعرفة ولا بالوطن الغالي.. ولسان حالي أنا وأمثالي يردد قول أبي الطيب: "أنا الغني وأموالي المواعيد"..
كلمة رجاء من منبر الاثنينية، إلى الرجل المحب ذي الخلق الكريم الغالي الدكتور عبد العزيز محيي الدين خوجه، أن يدعم الثقافة، ذلك أن المعرفة الحقة عنوان أي أمة راقية في مضامينها، وهي مدنيتها وحضارتها في الحياة الكريمة، والحمدلله رب العالمين..
عريف الحفل: شكراً لسعادة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، وقد تجول بنا بين دهاليز التاريخ، وأروقة الكلمة من خلال رحلته وحياته في النادي، وما حملته من مواقف وذكريات. الآن أيها السيدات والسادة، قبل أن نفتح المجال للأسئلة، وأذكركم بأن السؤال يلقى كالمعتاد من قبل السائل أو السائلة، بعد أن يذكر السائل اسمه ومهنته. كما أذكركم بأن الوقت المخصص للأسئلة من السادة والسيدات، خمس وأربعون دقيقة فقط للحوار والأسئلة، وليكن السؤال الأول من قسم السيدات. الآن وقبل أن نبدأ بالأسئلة، أنقل لاقط الصوت للسيدة نازك الإمام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :525  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 116 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج