((كلمة سعادة الأستاذة ليلى عبد الله العثمان))
|
أحيّيكم في هذا المساء الجميل، وأحيّي مُؤسّسَ هذا الملتقى الأدبيّ الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه، -وأهنئ المؤسّسة بمناسبة مرور 25 عاماً على ولادة الاثنينية، كما أشكر الأخ عبد المقصود على هذه الدعوة الكريمة وهذا التكريم لشخصي المتواضع. |
جميل أن أكون في حضرة الرجال بينما بنات جنسي يستمعن إليّ في مكان آخر -لست مُستاءة ولا مُعترضة، فأنا أحترم عادات الشعوب أينما ذهبت- أحيّيهنّ وأحيّيكم جميعاً، وأنا سعيدة أن أتحدّث إليكُنّ، وإليكم في هذه الأمسية. |
عادةً يتمنّى المُتلقّي أن يستمع إلى تجربة الكاتب الذاتية، وبصراحة.. لقد تحدّثت عن هذه التجربة كثيراً عبر الندوات، والصّحافة، وأجهزة الإعلام خصوصاً التلفزيون. وأعتقد أنني صرت كتاباً مفتوحاً، ولا شيء جديد أضيفه لما تعرفون. إذن سأحوّل المسار من الحديث عن التجربة الشخصيّة وتفاصيلها إلى محور آخر جاء ضمن رسالة الدّعوة التي وصلتني، وهو محور يُعطي الخيار للضيف المُحتفى به أن يتكلّم عن أحد أعماله، سواء التي يُحبّها، أو تلك التي يكرهُها -معقول؟ هل تُصدّقون أن هنالك كاتباً يكره عملاً من أعماله الأدبيّة؟ |
كنت مثل كثيرين أتصوّر أن مُؤلّفات الكاتب مثل أولاده، يُحبّهم جميعاً ولا يُفرّق بينهم. لكنّني أُخالف هذه المقولة لأنني وإن كنت لا أفرّق بين أولادي في الحب، إلاّ أنني أفرّق في حُبّي لما يمتاز به كل واحد عن الآخر؛ فهذا أحب فيه حنانه وتلك موهبتها وآخر شجاعته، وأخرى ذكاءها و... هكذا. |
وأعود للسؤال: هل يُعقلُ أن يكره الكاتب مُؤلفاً من مُؤلفاته؟ أقول: نعم.. فأنا أكره روايتي الأخيرة "خذها لا أريدها"، وأظن أن بعضكم قد قرأها وربما كرهها مثلي. |
قبل هذه الرواية تعذبت كثيراً وأنا أكتب كتاب "يوميّات الصّبر والمُر" الذي يعرض لتجربتي الشخصية أنا وأولادي أثناء الغزو. لكنني رغم ذاك العذاب أحب هذا الكتاب ودائماً أخصه بين أفضل ما كتبت مثل "رواية المحاكمة"، و "رواية العصعص". إلا أنّ رواية "خذها لا أريدها" قد أمرضتني جسدياً ونفسيًّا منذ البدء في كتابتها وحتى صدورها عام 2009. لذلك سأتكلّم عنها لأفسّر سرّ كراهيتي لها. |
بدأت الفكرة تلح عليّ بعد وفاة أمي عام 1981م وكنت أهرب منها متعمدة حتى أتلافى شرّ ما تدعوني إليه لأن موضوعها عن الموت، ورغم أن كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (الأنبياء: 35) إلاّ أن قلقي الوحيد في الحياة هو الخوف من هذا المجهول. |
استمرت الفكرة تُرهقني.. تُلاحقني.. تُؤرّقني ليل نهار. والكاتب... أيّ كاتب حين تُؤرّقه الفكرة يجد نفسه مُضطراً للخلاص منها باستخراجها من داخله إلى فضاء الكتابة. بدأت أكتب قليلاً ثم أرميها في الدرج وأنساها أو بالأصح أتناساها لأرتاح. واستمرّرت على هذا الحال بين وصل وهجران حتى اكتملت وقدّمتها لدار النشر بداية عام 2009م لتصدر قبل معرض الكتاب في بيروت. وقد تمّ التوقيع عليها في حينه. |
كم سنة وأنا أحتمل عذاباتها وأهجرها لأصدر قبلها عدّة كتب: المحاكمة، يوميات الصبر والمر، أيام في اليمن، ليلة القهر، قصص قصيرة جدًّا، ورواية صمت الفراشات. كنت في كل هذه المُؤلّفات أشعر بمتعة الكتابة والفرح رغم المعاناة وكنت أحب ما أكتبه. أما هذه فقد كنت أعود إليها معصوبة وكارهة، ولكني بإصرار شديد قرّرت أن تخرج مني لأرتاح. |
بدأت منذ عام 1996م ولمدّة سنتين أقرأ كل شيء عن الموت وعن الجنازات وطرق تجهيز الميّت ودفنه عند المسلمين والمسيحيين، لأن الرواية تقدم شخصيتين: واحدة مسيحيّة والأخرى مسلمة. هذه القراءات المُكثّفة والمخيفة أيضاً أحدثت عندي نوعاً من اليأس والتشاؤم. ثمّ جاءت حرب بيروت التي آلمتني كثيراً وجلبت لي الكآبة، فابتعدت عن الحياة المُفرحة والتفاؤل وغُصت في العتمة. وأخطر ما حاق بي أنني بتّ أخشى النوم مخافة أن أموت، وقد رفضت أيّ نوع من المهدّئات والمُنوّمات. قبل هذا وأثناء قراءاتي عن الموت أُصيبت صديقة لي مسيحية عزيزة عليّ بمرض السرطان وكنت أُتابع حالتها وأتأثّر بآلامها ممّا ضاعف عندي حالة الأرق والكآبة إلى أن توفّيت وحضرت كل تفاصيل الجنازة والدفن. وكنت قد كتبت الفصل الأول عن بطلتي المسلمة وكيف شاهدَتْ لحظة غسول أمّها الميتة، كنت أكتب هذا المشهد وأنا مرعوبة. وحين قدّمت الرواية لدار الآداب طلبوا مني أن أنقل الفصل الأول إلى مكان آخر في الرواية لأنه فصل مرعب وصادم للقارئ، لكنني رفضت. |
لن أطيل عليكم لقد تحولت الكآبة إلى اكتئاب وسقطت أنا المرحة المُحبّة للحياة ولعشرة الناس في الحزن والوحدة. وجدتني كالدودة منطوية على نفسي لا أطيق الكلام مع أحد حتى أولادي. وقبل أن أنجز الرواية أُصيبت أختي بمرض السّرطان ولازمتُ الحالة وتحوّلاتها الرّهيبة حتى توفّيت قبل شهر من صدور الرواية. وهذا ضاعف أكثر من سوء حالتي. |
هذه الرواية كتبتها أكثر من إحدى عشرة مرّة. كنت أمزّقها ثم أعود وأكتبها بشكل آخر وفي هذا عذاب جسديّ ونفسيّ شديد، حتى استقرّت على حالتها المنشورة. لم أستطع أن أضع لها عنواناً وحين ألحّت علي رنا إدريس المسؤولة بدار الآداب صرخت بوجع: "خذيها لا أريدها واختاري أنت العنوان"، فكانت هي الكلمة التي نطقت بها الأم للأب (خذها لا أريدها) والتي شكّلت عقدة الكراهية عند البنت ضدّ أمها. وحين صدرت الرواية شعرت وكأن ثقلاً كبيراً قد انزاح عني، وبدأتْ أشعة الشمس تتسلل إلى روحي وبدأت أعود لحالتي الطبيعيّة. |
عادةً حين يصدر لي كتاب أقرأه مرّة أو مرّتين، بل إنني قرأت المحاكمة ست مرّات، أما هذه فلم ألتفت إليها حتى لا أستعيد تفاصيلها وأتعب. إنني حقاً أكرهها. |
لقد عاتبني كثير من القرّاء والأصدقاء والنقّاد وبناتي أيضاً بسبب أجوائها الكئيبة الحزينة التي أبكتهم، وكذلك تكرار مشاهد الموت فيها. وليس رغبة مني أن أجلب لكم الحزن. |
شكراً لحسن استماعكم.. وأرحّب بأسئلتكم عن تجربتي أو عن الرواية. |
الدكتور جميل مغربي: شكراً، شكراً الأستاذة ليلى على هذه اللحيظات الإبداعية. في الحقيقة وصلتني جملة من الأسئلة، غير أني أود أن أستفتيكم: ألا ترغبون في طرح الأسئلة بأنفسكم؟ لذا يحسن بكم طرح الأسئلة فهو أفضل من تدوينها كتابة. |
|