((كلمة سعادة الدكتور سعد البازعي))
|
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الهدى وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. |
السيدات والسادة أيها الجمع الكريم، كنت أدرك أن مهمتي صعبة هذه الليلة فإذا هي أصعب مما تخيلت، حتى إنه خطر ببالي قبل قليل أن المفترض في مثل هذه المناسبات وبسبب سماعي مثل هذا الكلام أن يقام التكريم في ليلة ويكون الحديث في ليلة أخرى، لكي يهيأ الكلام استجابة لما قيل، ولكي يكون بمستواه، وأخشى أن ما لدي لا يرقى إلى هذه التوقعات الكبيرة التي سمعناها من أساتذة أجلاّء أولهم سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه الذي شرّفني هذه الليلة بهذه الدعوة الكريمة، لأقف أمامكم في هذا المحفل الكريم، ثم استمعنا إلى كلمات أفاضت عليّ في مضمونها، وأيضاً بحضور أساتذة أجلاء منهم أساتذتي المباشرون، مثل الأستاذ الدكتور عزت خطاب الذي يشرفنا هذه الليلة كما ذُكِر. |
مداخلتي أراها الآن مقدمة لحديثنا هذه الليلة وليست كل ما ينبغي أن يُقال فيه، فالقضايا كثيرة وما يمكن الحديث حوله قد تساعدنا هذه المداخلة على فتح بعض القضايا أو الموضوعات؛ لنتحدث فيها إن أردتم بتفصيل أكثر على النحو الذي يساعدنا الوقت به. |
على مدى الأعوام الخمسة والعشرين الماضية كنت أبحث وأكتب وأتحدث عن أشياء كثيرة، قضايا في الثقافة ومسائل في الأدب ورؤىً في الحياة، شيء واحد كنت بعيداً عن تناوله وإن اقتربت منه ففي حذر وعلى استحياء. لم أتحدث أو أكتب عن نفسي من أين جئت وكيف تطورت وما الذي واجهته من صعوبات وإخفاقات ونجاحات، وأظنني في هذا لم أكن الوحيد، فمعظم من يكتب ويحاضر ويؤلف أشبه بالروائي الذي يرسم العالم ويحلله، ويحكم له أو عليه بينما هو شخصياً متوارٍ عن المشهد يحجب نفسه عمداً، أو تحتجب نفسه نتيجة لطبيعة الانشغال بالآخر والآخرين، وقد يكون ذلك لصعوبة التناول أو تعقد المسألة ولعل هذا السبب الأخير كان فعلاً سبباً رئيساً بالنسبة إلي، فليس من السهل أن يتحدث المرء عن نفسه كما يتحدث عن الآخر، ليس من السهل أن يحول أحد منا نفسه إلى موضوع لنفسه، أن يستبطن داخله ويدرك أبعادها وتشابكاتها.. يدرك المرء منا أنه أسهل على نفسه أن تكون موضوعاً لتناول الآخرين من أن تكون موضوعاً لتناوله هو، مثلما من السهل أن يكون الآخر هو الموضوع. |
هكذا بدت لي صعوبة أن أتحدث عن نفسي في هذا المقام، أو أن أقدم نفسي لكم، تساءلت ماذا لو قدمت سيرة ذاتية كالتي تقدم عادة للتعريف بأنفسنا، فتذكرت مقالة كنت قد نشرتها قبل أعوام عنوانها "سيرة (غير) ذاتية" وكلمة (غير) التي جاءت في العنوان محاطة بقوسين كانت محاولة للفت الانتباه إلى ما يكتنف مفهوم السيرة الذاتية المتداول، ما يكتنفه من التباس وما يعتريه من خلل.. أشرت في المقالة إلى أنني تساءلت وأنا أعد سيرة ذاتية استجابة لمطلب إحدى الجهات قلت: هل أنا هنا حقاً؟! أي ذات تترجمها هذه القائمة من الأبحاث أو الكتب أو الشهادات أو الوظائف، هناك بالتأكيد ما تتضمنه الأبحاث ويغير الأبحاث من اجتهاد وسعي للإضافة الفكرية والإبداعية، لكن هل تلك هي النفس أو الذات؟ هل هي المشاعر والرؤى والأفكار الخاصة التي تؤلف تلك الذات؟ ثم أفضى بي هذا التساؤل إلى اكتشاف أن السيرة الذاتية شكل من أشكال الثقافة الطارئة على حياتنا الثقافية والاقتصادية والوظيفية، جاءتنا ضمن طوارئ ثقافية كثيرة أخرى استلزمتها المتغيرات الحضارية التي مررنا بها ولا نزال نمر، ولعل من الطريف أن يدل المفهوم في جذره اللغوي اللاتيني على مسيرة حياة الإنسان، هكذا تعني الكلمة في أصلها الأجنبي CV (Curriculum vitae) مسيرة حياة الإنسان، هذا المعنى الأصلي للكلمة، كأن مجموع الوظائف التي شغلها الإنسان وما ناله من شهادات وخبرات كاف لاختصار مسيرة حياته، لكنه الطابع الاقتصادي العملي الذي تشكل به المفهوم في مرحلة من مراحل تطور الحضارة الغربية، والذي جعل تلك الوظائف والخبرات وما إليها هي الزبدة من حياة الإنسان، وليس كيفية تفاعله مع الحياة، ورؤيته لها ومواقفه منها. إنها نظرة عملية براغماتية بحتة؛ فمع التسليم بأن الوظائف والخبرات والأبحاث وما إليها تتداخل بشكل حيوي مع الرؤى والمواقف مع أنها تمثل شكلاً من أشكال التفاعل مع الحياة -فإنها تظل جانباً من سيرة الإنسان وليس كلها أو حتى أهمها، إن أنت تذكرت جوانب أخرى في غاية الحيوية، ثم أنهيت مقالتي باستنتاج حول ما نسميه "الموضوعية في مقابل الذاتية"؛ فمع أننا نسميها سيرة ذاتية فإنها في الحقيقة نقيض ذلك تماماً، الموضوعية هي التموضع خارج الذات، هي نسيان الذات تماماً، قلت في المقالة: السيرة الذاتية التي نكتبها في الوظيفة هي الموضوعية متجلية كأوضح ما تكون، شاخصة كمخطط آلي.. كهيكل خال من الروح.. كحياة بلا حياة، مجموعة من الوقائع، والوقائع وليس الحقائق، (Facts).. فاكتس لا تعني حقائق، تعني وقائع، هي الأعوام والعناوين والأسماء، هكذا فقط، هي سيرة غير ذاتية، هي أبعد ما تكون عن الذاتية، هي الوعد بها، الإيماء بإمكانية حضورها، لكن دونما تحقق للوعد أو للإيماء، فبين الاسم والميلاد والوظيفة الحالية والعنوان تصطخب حياةٌ وينهار غبار، وتعتلج مشاعر لا مكان لها لا في السيرة ولا لدى جهة التوظيف. |
فليس لدى مدير البنك أو رئيس الدائرة رغبة في معرفة رؤيتك للحياة، أو موقفك من الآخرين، أو شكل أحلامك أو همومك، سيرتك بالنسبة له هي ما تملكه من خبرات، تساعد على إدارة العمل وتحقيق قدر أفضل من الإنتاج، تلك هي السيرة الذاتية كما تُرى. فكيف أقدم نفسي إذن؟ لا شك في أن الميلاد والتعليم والخبرات الوظيفية مهمة، لكن هي الهيكل كما قلت، هي المخطط الذي تشكلت ضمن تعرجاته الكثيرة وتلافيفه الشديدة التعقيد حياة وأفكار وتفاعلات مشتبكة، مثرية حيناً ومثبطة حيناً، لكنها هي المسؤولة في المقام الأول عن تشكلنا الإنساني، وسيتضح الالتباس وتبدو التعاريج منذ المعلومات الأولى. |
تقول سيرتي الذاتية الهيكلية إنني ولدت في الشمال، في مدينة القريات ولكني في واقع الأمر لست من أبناء تلك المنطقة العزيزة علينا جميعاً، لست من أبناء تلك المنطقة لأنني لم أعش بها؛ وتقول أيضاً إن المنطقة التي لم أولد بها أي منطقة القصيم هي التي أنتمي إليها بحكم الإنتماء الأسري، فالعائلة من القصيم، وسيزداد التعقيد حين أقول: إن المنطقة التي شهدت ولادتي الحقيقية الأولى أي تشكلي التربوي والتعليمي ثم تدرجي في الحياة العملية هي غير تيْنك المنطقتين: هي الرياض. |
في الرياض قرأت حروفي الأولى على يد والدي الذي لم يتلق تعليماً في حياته سوى فك الحرف -كما نقول- تهجأت معه -رحمه الله- عناوين الصحف وأنا في السنة الدراسية الأولى، وفي المرحلة الابتدائية علمني أخي الأكبر الدرس الكبير الثاني بعد القراءة، الدرس المتعلق بتطوير المدارك، قال لي وهو يراني أختصم مع أختي حول لُعَبٍ صغيرة، لم لا تكون لديك مكتبة؟ وقد حاولت أن أعبر عن امتناني لهذين الإنسانين، فأهديت رسالتي للدكتوراه لوالدي ووالدتي، وآخر كتبي المنشورة وهي "سرد المدن" لأخي، لكن بين الأب والأخ كان ثمة إنسان أعظم وأبعد أثراً في حياتي من الجميع، إنها والدتي -رحمها الله- التي علمتني ما يفوق في أهميته بالنسبة لي ما حملته القراءة واحتوته الكتب، علمتني والدتي أن أسعى لكي أكون إنساناً نافعاً ليس من خلال القراءة والكتب فحسب وإنما من خلال الإيمان بالله وما يقتضيه الإيمان من تعامل مع الآخرين ومع الحياة، وبالتأكيد فإن أياً من أولئك المؤثرين في حياتي كما في حياة كل منا لا يضار.. هؤلاء لا يضارون بما إذا كنا نمونا أم لم ننمُ في الاتجاه الذي وضعوا غرسه وعلقوا عليه الآمال. |
حين دخلت معمعة الثقافة المختلفة، ثقافة الآخر، متمثلة في الأدب الإنجليزي في جامعة الرياض (الملك سعود حالياً) ثم في الولايات المتحدة، وجدت نفسي إزاء تحديات لم يتخيلها من هيؤوني للحياة، وجدت نفسي بعيداً عن حضن الثقافة الأم، أجول بعيداً في مجاهل المعتقد المختلف، والسلوك المختلف إلى جانب الطبيعة المختلفة أيضاً من حولي، وكنت أغبط زملائي الذين يدرسون الهندسة أو الفيزياء في أن حقول تخصصهم تحميهم وإن بقدر نسبي عما يعرضني له الأدب من مواجهة مقلقة مع الآخر ثقافة ومفاهيم ومشاعر، مواجهة تهز ما بداخلي حتى لتكاد تزلزله، وأظن أن تلك المواجهة هي ما دفعني للتمسك بثقافتي العربية حتى في غربةٍ أكاديمية في مهجري القصير، فكنت أستعيد أدب العربية خوفاً على هوية تتفلت مني مع كل قصيدة لـ بودلير أو مسرحية لشكسبير أو رواية لـ (همنغواي)، بل وأكثر من ذلك مع كل مطالعة لنيتشه أو قراءة لفرويد، كنت أدرس الشعر وهو غربي طبعاً وحين يطلب الأستاذ منا أن نكتب ورقة حول قصيدة تعجبنا من خارج ذلك الشعر أذهب إلى البحتري أو إلى أبي القاسم الشابي، فأجعل مساهمتي في المناقشة الصفية من هذين الشاعرين أو غيرهما. |
في أواخر السبعينيات، وبعد حصولي على الماجستير عام 78 وتهيئي لما بعدها، سعدت كثيراً وأنا أتلقى رسالة من الكاتب السعودي عبد الكريم العودة المتواري الآن، وكان إذّاك يشرف مع محمد علوان على الصفحات الثقافية بمجلة "اليمامة".. الرسالة تضمنت طلباً مني بأن أسهم في عدد ستصدره مجلة "الآداب" البيروتية عن الأدب السعودي، وقد عرفني الإثنان من خلال مقالات كنت أرسلها لـ "اليمامة" بين الحين والآخر، لم أدرك حينها أن انعطافة مهمة في حياتي تنتظرني مع الانشغال بقصائد الشعراء السعوديين الشباب في تلك المرحلة، قصائد أُرسِلت لي لكي أقرأها وأكتب حولها، قصائد الثبيتي ومحمد جبر الحربي وعلي الدميني.. لم أدرك في بداية السيرة الأخرى التي تجاور سيرتي الأكاديمية أن دكتور الأدب الإنجليزي سيصير بالنسبة لكثيرين سيقرؤونه في ما بعد "دكتور الأدب السعودي" أو "الناقد السعودي" في المقام الأول أو ليس إلا، لكن هذا هو ما حدث بالفعل؛ فحين عدت كان كتابي الأول في مطلع التسعينات الميلادية جِماعاً لما اشتغلت عليه منذ عودتي في أواسط الثمانينات وليس في مجال تخصصي.. كان الكتاب ليس في مجال تخصصي، وإنما في الأدب السعودي وفي ثقافة الصحراء، وعنوانه الثانوي "دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر". وجدت نفسي مشغولاً ليس بالأدب فحسب وإنما بالقضية التي تلازمني أو لم تزل تلازمني على امتداد أوراق بحثية ومحاضرات وكتب أخرى: قضية الهوية، وأظن أنني لو بحثت عن كلمة تشكل لازمة متكررة في مجمل ما كتبت فستكون الهوية، كان سؤال الهوية بالنسبة لي وما يزال سؤالاً وجودياً ومعرفياً وثقافياً، كان منطقة اشتباكي مع الذات الثقافية والاجتماعية بقدر ما كان منطقة اشتباك مع الآخر الذي قضيت ثمانية أعوام في محاولة التعرف عليه في عمقه الحضاري. |
الهوية بالنسبة لي تمثلت في دراسة الأدب السعودي من حيث هو انتماء للمكان وللتاريخ أمام متغيرات الفكر والثقافة، ومن هنا كان اهتمامي بذلك المفهوم الذي ذكره عبد الله نور -رحمه الله- ذات ليلة في أواسط الثمانينات الميلادية في الرياض، لكني سرعان ما وجدت نفسي آخذ المفهوم بعيداً عما أرادنا نور أن نفهمه منه فأجعله صفة لهوية يسعى إليها جيل الحداثة الشعرية في تلك المرحلة، إذ يتلبسون شخصية البدوي أو يستعيدون أجواء الصحراء بدلاً من أن تكون ثقافة الصحراء ثقافة البدوي نفسه كما أراد نور. عبد الله نور أراد من ثقافة الصحراء ثقافة البدوي نفسه وكان قصدي بها أو استعملتها لأشير إلى قصائد تتلبس هذه الثقافة أو تتمثلها، لكن مسألة الهوية كانت تنمو باتجاه آخر أيضاً وعلى نحو متزامن مع نموها في دراسة الأدب السعودي، كانت هي الأدب المقارن أو الدراسة المقارنة للأدب، الميدان الذي أفرز العديد من الدراسات والكتب مثل مقاربة الآخر الذي نُشِر في القاهرة عام 1999م والذي تشرفت بإهدائه إلى أُستاذَيْ الدكتور منصور الحازمي والدكتور عزت خطاب، عرفاناً بجميلهما، ففي المقارنة كان سؤال الهوية ملحاً يُطرح على الأجنبي مرةً وعلى الذات مرةً، فتتناسل من ذلك أسئلة وتلمع إجابات تُفضي إلى أسئلة أخرى، ومن تلك الأسئلة كان سؤال المصطلح الذي يطرحه مفهوم الهوية، ذلك السؤال بحد ذاته مهم تستدعيه المفاهيم على اختلافها، فكان من ذلك الكتاب الذي عملت على تأليفه مع الزميل والصديق الدكتور ميجان الرويلي أي "دليل الناقد الأدبي" الذي صدر في ثلاث طبعات وكان أحدثها يضم سبعين مصطلحاً، وتياراً نقدياً، وهو الكتاب الذي عُرفتُ من خلاله ربما أكثر من أي كتاب آخر في الوطن العربي وخارجه، وبقدر ما انشغل دليل الناقد بإشكالية الهوية على مستوى مصطلح أي بدلالة المصطلحات وما تحمله من هوية ثقافية كان انشغاله بهويته هو ككتاب، يراوح بين شخصية المعجم وكتاب المقالات، ساعياً إلى تأسيس أسلوب مختلف، في التعامل مع مفردات الثقافة القادمة من الغرب بشكل خاص. |
لقد سعى "دليل الناقد الأدبي" إلى فتح نوافذ على المصطلحات الثقافية الغربية أكثر اتساعاً ووضوحاً ودقةً من المسلك الذي عبرت تلك المصطلحات من خلاله في أعمال عربية أخرى توخت مثل الدليل أن تمد جسوراً على الآخر وتفتح نوافذ للتعرف عليه.. كان الدليل بتعبير آخر نافذة على الآخر، وحين أقول نافذة أتذكر كم تكرر تلك المفردة ومرادفاتها وما يتصل بها في محاولاتي المتكررة لكتابة أعمال تفتح النوافذ وتضيء الطرقات، متوخياً في ذلك السبل التي سلكها أساتذة لي بعضهم عرفته وعرفني وبقي البعض الآخر بعيداً أتعلم منه مثلما تعلم غيري من خلال ما ترك من أثر. |
النوافذ والأبواب والشرفات وعملية التواصل والاستقبال هي ما استوقف أحد الزملاء في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك "سعود"، وهو القسم الذي عملت فيه حتى تقاعدي المبكر هذا العام. ففي احتفال صغير أكرمني به أولئك الزملاء حين تسلمت إدارة النادي الأدبي بالرياض، تساءل ذلك الزميل عن السبب في شيوع الشبابيك والأبواب والشرفات وما يتصل بها في عناوين كتبي، وكان يشير إلى عناوين مثل "شرفات للرؤيا"، "أبواب القصيدة"، "استقبال الآخر" ولم يكن الزميل يدري أن أول سلسلة مقالات كتبتها كانت بعنوان يحمل دلالة مقاربة فقد كانت زاويتي الأولى بعنوان "تواصل" في جريدة "الرياض" في أواسط الثمانينات الميلادية، وحين ألتفت الآن إلى ذلك كله يُخيّل إليّ أنني لم أكن أخرج عن الطريق الذي رأيت نفسي أسير فيه منذ أدركت معنى أن أكون متخصصاً في أدب أجنبي، كان ذلك الوعي يتبلور عام 1975م وأنا أقف أمام أحد أساتذتي الأمريكيين وقد وصلت للتو إلى قسم اللغة الإنجليزية في جامعة (بوردو) الأمريكية، طلب مني الأستاذ أن أكتب مقالة حول السبب الذي دفعني لدراسة أدب أجنبي، وكان طبعاً يعتمد على كتابة تلك المقالة أو مستواها دخولي القسم مباشرة أو اضطراري لاجتياز "كورس" في اللغة الإنجليزية، فكتبت بإنجليزيةٍ أدركت لاحقاً هشاشة أسلوبها، قلت لتبريري هذا الاختيار يمكنني أن أقول أنه ليس تفضيلاً لأدبٍ على آخر، وإنما هو أمل في أن أتمكن يوماً من خدمة أدبي القومي من خلال دراسة أدب أجنبي، كانت تلك هي النافذة الأولى أو التواصل الأول. |
إنني بكل تأكيد غير واثق من أنني خدمت الثقافة التي أنتمي إليها على النحو الذي تمنيت، لكني أذكر سعادتي حين ألقيت ورقة قبل حوالي عشرين عاماً في مهرجان الجنادرية حول الرومانسية في الآداب الأوروبية، فكتب أحدهم معلقاً ببعض السخرية: لم نعهد البازعي متخصصاً في الآداب الأوروبية.. كنت سعيداً بذلك التعليق لأن معناه أنني تركت انطباعاً لدى ذلك الكاتب وغيره أنني أقرب إلى الأدب العربي على الرغم من تخصصي، وعلى الرغم من الرسائل الجامعية والأبحاث المحكَّمة والترقيات في مجال الآداب الأوروبية، ذلك المجال الذي لم أُعرَف به لدى البعض والذي لم يكن ذلك الكاتب يعرفه كما اتضح لي، بل كم شعرت بمزيد السعادة وأنا أتلقى دعوات قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود إلى مناقشة الرسائل في الأدب العربي، أو حين يذهب بريدي خطأً إلى قسم اللغة العربية. |
حين أتأمل كل ذلك يبدو لي أن الأمر ينتهي إلى شعورٍ بالاغتراب في ثقافة الآخر، وأنني كنت طوال الوقت أشبه بالابن الضال الذي يتلمس طريقه عائداً إلى بيت أبيه، فيفتح كل ما يستطيع من أبواب ونوافذ وطرقات للبقاء متصلاً بالثقافة التي أَحَب والتي إليها انتمى أو حاول أن ينتمي. أشكركم جميعاً لاستماعكم، وأعتذر إن كنت قد أطلت. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
معالي الدكتور محمد عبده يماني: شكراً للأستاذ الدكتور سعد البازعي وقد خشي أن يذكر كثيراً حياته أو سيرته الذاتية، ولذا ضمخها بالنواحي العلمية وإن كنا قد أحببنا اللمسات الأولى في البداية لأننا نشتم منها فعلاً رائحة التربية، وأنا قد قلت في نفسي إنك رجل عصامي مع ما حفك من أسرة أنيقة ورائقة لكنك ذلك العصامي. قبل أن آخذ الأسئلة منكم، هناك ونحن في المنصة أوراق تذهب وتجيء لِيُذكِّر بعضنا بعضاً، فنرحب بأصحاب القدرات لا أقول الخاصة وإنما القدرات الجميلة من فئة عزيزة على أنفسنا وهي تنتج عملاً جميلاً متى أتيحت لها التربية، فحيوا معي هذه المجموعة التي تنطق بعيونها وتسمع بقلوبها. |
ومن المناسبة الطريفة أنتقل في هذا المقام لكي نعزي أنفسنا بوفاة شاعر كبير منهم هو الأستاذ محمد فقيه رحمه الله. مرة أخرى تشير الأوراق التي تأتي إلي بأنه قد جيء على ذكر الأستاذ عزت خطاب فاستغربوا لماذا لا نسمع صوته، لذا نحن نريد أن نستمع إليه وهو المربي والأستاذ وكنت قلت قبل أن ندلف إلى هذا المكان إنه من الخمسة المبشرين.. فحيوا معي الدكتور عزت خطاب ونعطيه الكلمة. |
|