شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان))
بسم الله الرحمن الرحيم، الإخوة والأخوات الكرام.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أولاً: أحمد الله سبحانه وتعالى أن جمعنا في هذه الليلة المباركة إن شاء الله، ولو أني ببطء أتعود على الرطوبة بعد أن قدمت من الصحراء وبردها، ثانياً: أنا في الحقيقة أسعد دائماً بالدعوة من هذا الرجل الكبير الصديق لوالدي والصديق لي والصديق لوطنه، وأسعد في الحضور سواء للتكريم أم لغير ذلك، وأنا أقدر هذه البادرة وأعتقد أن التكريم هو اليوم لكل من يعمل في هذا المجال سواء كان ضيفاً أو معاوناً له في أعمال البر والخير التي يستضيفها عنده، ودائماً كنت أقول لابني سلمان -وقد كان في السيارة معي اليوم-: إذا أردت أن تعرف أين بيت الشيخ عبد المقصود، اتبع الناس الكثر وهم يمشون مسرورين.. وحقيقةً هذا البيت المفتوح المنير الجميل لهو كذلك بأهله وبكم.. لقد التقيت اليوم بأصدقاء كثر والتقيت بأناس أعزاء ومعلمين كثر، أعتز بصداقتي وعلاقتي معهم في مسيرة حياتي كلها، لذلك أنا أولاً سعيد بهذا الحضور الليلة، وسعيد بكم وأنا أعرف أنكم أتيتم اليوم لكي تستمعوا لما فيه مصلحة وطننا جميعاً، اليوم أنا لا أجلس معكم كموظف في الدولة بل أجلس معكم اليوم كمواطن، حقيقةً موظف الدولة هو مواطن أولاً كلف بمهمة، ولا يجب الخلط بين موظف الحكومة هو يعلم أكثر وهو الذي يقرر لوحده، وهو الذي يجب أن يتحمل جميع المسؤولية أو يجب أن يتناسى أن هناك رأياً آخر.
أنا عملت طيلة حياتي، وتعلمت من والدي ألا آخذ قراراً في مستوى المسؤولية التي أنيطت بي في أي مجال إلا بعد أن أشاور كثيراً من الناس، وأستطلع خبرة أفضل من خبرتي، ولذلك فإن عملنا كله في الهيئة وخاصة في مجال حساس كالآثار والتراث الوطني: هو عمل تعاوني.. عمل شراكة.. عمل تضامني. كل خطة وضعت لتطوير دور المتاحف، وكل كلمة وضعت في الخطة قد روجعت من مجموعات كبيرة، بل أزيد -وهناك من يشهد على ذلك- أنه عندما جمعنا مجموعة كبيرة من الناس -من الرجال والنساء- لوضع خطة تطوير الآثار والمتاحف في المملكة قبل بضع سنوات -ولو أن قطاع الآثار والمتاحف تأخر عن نظام الهيئة عدة سنوات- كلمت أحد مدراء الجامعات وكلمت آخرين وقلت: أريدكم أن تبلغوني من هم المعارضون لتطوير الآثار في المملكة العربية السعودية، حتى ندعوهم ليجلسوا معنا، فلم نرد أن نغلق أنفسنا بأن الناس تتفق على اتجاه واحد، بل أردنا أن نجلس مع الجميع، لأن الرأي الذي ينفع في هذا المجال هو رأي الجميع، وهذه الآثار لا يملكها شخص ولا تملكها مؤسسة، تملكها الدولة والدولة هي المواطن والمواطن جزء لا يتجزأ من الدولة، والمحافظة على هذا الإرث العظيم -ولا أقول فقط الكبير- هو مسؤوليتنا جميعاً، وهذه هي نقطة التحول قد أنتقل إليها في كلمتي هذا اليوم.
نحن نظرنا لقضية الآثار من منظورها الشامل، أي منظور التراث الوطني، ونظرنا إلى أن هناك أيضاً أبعاداً لم تحظَ سابقاً بالاهتمام اليوم وضعت والحمد لله على رأس القائمة، منها التراث العمراني، وأنتم في جدة اليوم تعرفون معاناة جدة مع قضية التراث العمراني، (تعرفون أن جدة "القديمة" هذا مسمى خطأ، لأنه يقلل من قيمتها هي جدة "التاريخية")، أنا أتذكر في أولى مراحل الاجتهاد، ولا أسميها جهاداً، لأن كلمة الجهاد ابتذلت للأسف لكن مراحل الجهاد والأخ عبد المقصود يعرف هذا الأمر وكثير من الجالسين اليوم يعرفون أننا كنا من أيام سمو سيدي الأمير ماجد بن عبد العزيز رحمه الله، وتعاقب رؤساء الأمانات ورؤساء البلديات على جدة، نعيش حالة حرب ولم يكن ذلك الوقت مكلفاً بالهيئة ولا حتى بمؤسسة التراث، الدكتور سعد يتذكر هذا الأمر، كنا نحارب من أجل ألا تضيع جدة التاريخية، وأنا اليوم، وإن كنت أقيم في الرياض إلا أن نصف قلبي لا يزال في جدة. لقد عشت في جدة سنوات طفولة جميلة جداً، وجدة من الأماكن التي أشعر فيها دائماً براحة خاصة ولي فيها صداقات وعلاقات كثيرة جداً، ولو استمعت لرأي زوجتي لكنا سكنا هنا من الغد. إن جدة التاريخية وما حدث لها في فترات متعاقبة ليست مجال بحثنا اليوم، جدة تحولت من موقع تاريخي دولي هام مؤلف من تسعمئة بيت قديم إلى أقل من ثلاثمئة بيت احترق أحدها قبل أسبوع تقريباً، ومع ما نأمله لا نزال نرى أن هناك تباطؤاً كبيراً جداً في تحقيق ما نريد أن يتحقق في جدة.
للأسف سجل أول موقع للمملكة في قرية التراث العالمي منذ وقت قريب، ولم يكن من المستغرب أن يسجل موقع في المملكة العربية السعودية في قائمة التراث العالمي، بل من المستغرب أن المملكة العربية السعودية لم تسجل إلا موقعاً واحداً حتى الآن، أيضاً قطعنا مساراً جهادياً لمدة أربع أو خمس سنوات للانتقال من مرحلة الرفض التام إلى مرحلة الانتقال والحضور التام في تقديم موقع حساس مثل موقع مدائن صالح، والآن يتم تهيئته بعد تقديمه وتسليم شهادته من رئيس اليونسكو سابقاً ورئيس اليونسكو حالياً وذلك في الرياض في العام الماضي.
أما مواقع الدرعية التاريخية فقد انتقل العمل بها الآن من مرحلة التخطيط إلى مرحلة الإنشاء. الآن هناك مشروع ضخم جداً تقوم به الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وهيئة السياحة والآثار في إعادة تطوير موقع الدرعية التاريخي وتحويله إلى معلم وطني ومتحفي وموقع تراثي حي، وقد قدمت وثائقه التي أعدت في الحقيقة بمهنية عالية جداً، برئاسة زميلي وأخي الذي أعتقد أنني أيضاً تعلمت منه الشيء الكثير، ألا وهو الدكتور علي (الغبان) نائب رئيس الهيئة لقطاع الآثار والمتاحف ومجاهد أيضاً معي في هذا الاتجاه.. قُدِّم ملف الدرعية لليونسكو وقُبِل. وإن شاء الله يتم التصويت عليه في البرازيل هذا الصيف.
أما ملف جدة التاريخية فقد قُدِّم هو الآخر لليونسكو وينتظر إن شاء الله دوره في التصويت بعد عامين، ولذلك فإن قضية العناية بالتراث الوطني واستدراك ما ذهب منه وما ضاع ليست قضية الهيئة بل قضية كل إنسان. أريد أن أعكف على نقطة أساسية قد تكون نقطة انطلاق جديدة ربما في طرحها اليوم؛ عندما يذكر الأخ الكريم الذي قدمني اليوم بأنني طيار فإنه محق، إذ إنني لا زلت -رغم الوظائف الحكومية والمسؤوليات- أعتبر نفسي طياراً أولاً ثم كل شيء آخر ثانياً، ولا زلت أمارس هذه المهنة والهواية، وأمارسها بجدية، وقد انتقل الكثير مما تعلمته في مجال الطيران إلى المؤسسات التي أعمل فيها، ومنها المؤسسة العامة للسياحة والآثار في مهنيتها، وفي انضباطها، وفي متابعتها، وفي تميزها في العمل الإداري المنظم وهذا حديث آخر، إن شاء الله تقرأون كتاباً سأصدره قريباً جداً، لكني أيضاً وجدت كطيار وشاركت في رحلة فضائية أيضاً -تصور أنها كانت قبل 25 سنة تقريباً- أيضاً هناك كتاب سوف يصدر هذا العام، أنا الآن أعمل على ستة كتب هذه السنة، أي أنني تعديت الأخ عبد المقصود ما شاء الله، مع الدكتور أحمد أبو خطوة الصديق العزيز لا أدري إذا كان موجوداً الليلة أم لا.. والدكتور فدعق طبعاً.
عندما ترى الأمور من مسافة أبعد تبدو لك أوضح، وهذا ينطبق على كل شيء تريد أن تقوم به في حياتك، لقد اكتسبت من والدي ووالدتي النظر إلى الأمور من مسافة أبعد.. لا تنظر من زاويتك الضيقة ولا تحارب وتكافح لتجعل الأمور كما تريدها أنت فقط. عندما كلفت في ثاني اجتماع لمجلس إدارة الهيئة العليا للسياحة في ذلك الوقت والتي كان يرأسها هذا الرجل العظيم بالفعل وبكل المقاييس، هذا الرجل الإنسان صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز، وقد كان نائباً ثانياً في ذلك الوقت، كلمني هاتفياً لأول مرة فيما كنت مسترخياً في بيتي أعمل بعد التقاعد في المؤسسات الخيرية وفي مجالات كثيرة أخرى، أستمتع بالمدة التي منحني إياها، والتي تمتد إلى خمس سنوات يستدعيني بعدها، فكنت أنتظر إلى حين وقت ممارسة الرياضة بعد العصر، وأنا لا أنام عادةً بعد العصر، بل أرتاح قليلاً (أتسطح)، "الله يسلمه" بالتليفون -وهذا أقوله لأول مرة- وقال لي: أريد أن أكلفك بمهمة جديدة وأستطلع رأيك في أحد الأمور. وقبل أن يكمل قلت له: أنا جندي لا يستطلع رأيه، الجندي يقال له احمل بندقيتك واذهب، قال: أنا عندي كذا وكذا... حقيقةً انقبض قلبي.. لست أكذب عليكم إذا قلت إن قلبي قد انقبض بشكل لم أعتده. فأيام رحلة الفضاء لم يكن لدي هذا الخوف.. كنت صغيراً في السن ذلك الوقت وأصغر بكثير من هذا السن، وكنت أريد أن تتم الرحلة وكنت خائفاً ألا تتم، أو يذهب زميلي مكاني أو تُلغى الرحلة.. ربما جهل حتى.. جهل الشباب أنني لم أكن خائفاً في ذلك الوقت.. لم يكن لدي أولاد، لم تكن لدي مسؤوليات، فكنت طامحاً أكثر من خائف، لكني في تلك اللحظة بالذات شعرت بانقباض فأجبت بسرعة: يا سمو الأمير حفظكم الله أنا جندي من جنودكم لكني لا أعرف في السياحة شيئاً، فهي قضية معقدة وشائكة وجمرة حارة. قال لي: يا بني أنا أريد جندياً، أنت عسكري وعملت وأعرفك وأعرف عملك وأنا أريد جندياً يواجه القضية هذه وأريد إنساناً يتفاهم مع المناطق ويتفاهم مع المجتمع، يتفاهم مع القرى والمشايخ والجمهور ويفككها؛ لتطمئن الناس بأن الأمور سوف تتم بالطريقة التي يقبل بها الجميع إن شاء الله.
وأضاف إضافة في موضوعنا اليوم وقال: أريد اليوم أن أضم الآثار بالسياحة، فانقبض قلبي عشر مرات بعد الذي سمعته. إذاً في ثاني اجتماع للهيئة كُلفت بمنصب الأمين العام للهيئة، وكنت لا أفقه شيئاً في هذا المنصب.. لم تكن هناك هيئة أساساً، إنما ثلاثة موظفين استعرتهم بالقوة وبسرعة من أحد المكاتب. كنا نعمل بورقة وقلم -وهذا حديث آخر لكتاب آخر سيصدر بعد سنة ونصف أو ربما سنتين ويتناول تأسيس هذه المؤسسة من الصفر وعملها- فعرض حفظه الله للمجلس أمر ترفيعي بضم الهيئة، فأجبته حفظه الله، بأن الموضوع حساس وشائك، وبأن وزارة التربية والتعليم تقوم بالمهمة حقيقةً بصورة مقدرة وكبيرة جداً، وبأن الدكتور سعد -وهو زميلي الآن ومستشار رئيس الهيئة وعضو مجلسها، وبأنه يقوم بعمل دؤوب، وكان يشغلني -قبل الهيئة- بقضايا الآثار، وهو يتذكر ذلك بالطبع. وأضفت: لماذا لا ندرس الموضوع بتمعن وننطلق فيه؟ فأتت توصيتنا في ذلك الوقت بعد أن درسناها لمدة سنة بإنشاء هيئة مستقلة للثقافة والتراث الوطني تكون الآثار تحت سلطتها، وتتعاون هيئة السياحة معها، وأمينها العام يجلس على مجلسها.. وكان هناك خيار آخر يقضي بأن تستلمها الهيئة وتعيد تطوير الآثار والتراث الوطني بالكامل ثم تنظر الدولة في أمره مستقبلاً، وهذه المعلومة أقولها الآن أول مرة للتاريخ. اتخذ القرار بضم الآثار ومتاحف الهيئة وانطلقنا في خطة وطنية تجدونها منشورة على موقع الهيئة، بالإضافة إلى كلامي الليلة.
المهم في الأمر أنني أردت أن أرى الأمور من أعلى، أو من بعيد.. إن مجال الآثار والمتاحف تختلف عن مجال السياحة، فكنت أقرأ.. قرأت ما كتبه دكتور مصري الدكتور العزيز ومعلمنا في هذا المجال، كذلك الدكتور الأنصاري، قرأت قدر الإمكان ولا أزال إلى اليوم تلميذاً مبتدئاً في هذا المجال الحساس الكبير، ودوري ليس في أن أكون عالم آثار حقيقةً، لكنني عندما نظرت في هذا الموضوع انتبهت إلى نقطة مهمة جداً وحساسة لم أنتبه إليها من قبل: منا اليوم من يطالب بحماية الآثار الإسلامية وكلنا نطالب بذلك -وعندي لكم أخبار ممتازة ستسمعونها اليوم.. ومنا من يطالب بحماية آثارنا الموغلة في القدم وآثارنا ما قبل التاريخ، لكن النقطة الأساسية هنا أنه عندما ننظر لبلادنا وخاصة في هذا العهد الزاهر المبارك الكبير نجدها تحتل في منظور العالم ثلاثة مواقع أساسية:
الموقع الأول بدون منازع هو موقعها الديني، كمهد رسالة الإسلام العظيمة، بلد "الحرمين الشريفين" وقبلة المسلمين كل يوم، هذا شرف عظيم، وبلادنا عرفت بأنها بلاد الإسلام بلاد الحرمين وعرفت بإيجابيات ذلك وللأسف رُمي عليها أيضاً من التهم بصفتها بلد الإسلام والحرمين، فعرفت بجوانب أخرى والحمد لله زال الكثير من هذه المعلومات وهذه الاتهامات، ويعود الفضل في هذا لله تعالى أولاً ثم لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله وما يقوم به من أعمال جليلة في الحوار -حوار الأديان- وفي الانفتاح وفي الإثبات اليومي للعالم بأننا نحن أيضاً بلد العلم وبلد النهضة وبلد النمو، هذا هو الموقع الأول. الموقع الثاني: هو بلا شك موقع اقتصادي. لقد سئلت في البي بي سي قبل شهر ونصف تقريباً من اليوم، حينما كنت هناك لرئاسة لجنة اختيار مؤسسة التراث، سؤالاً حول الموقع الاقتصادي للمملكة تحديداً سأعود إليه في ما بعد، إذ إنني أود إخباركم بأن مؤسستكم التي أنشئت قبل عدة سنوات -مؤسسة التراث- تقوم الآن بإنتاج فيلم بتمويل من شركة سوليدير التي تمول برامج تاريخية وتراثية كبيرة ولهم التقدير الكبير، إضافة إلى برنامج وثائقي مع البي بي سي "أبطال من التراث"، كنت أرأس مجموعة من كبار الشخصيات في العالم لاختيار الشخصيات المميزة التي تستحق أن ينتج عنها فيلم وثائقي ضمن حلقات في العام 2010 إن شاء الله، وأود أن أذكر هنا الدكتور شهاب جمجوم رئيسي السابق ومعلمي في مجال الإعلام.. كنت أشتغل تحت قيادة الدكتور شهاب وكنا في الدورة الأولمبية أيضاً في الإعلام الخارجي عندما أغمي على الدكتور شهاب من شدة التعب، إذ كنا نعمل 17 أو 18 ساعة في اليوم وكان ذلك منذ سنين خلت. كما أود أن أذكر أيضاً معلمي الآخر ورئيسي معالي الشيخ محمد عبده يماني، كان وزيراً للإعلام أول ما تعينت في الوزارة. هو يتذكر عندما كلّم والدي وقال: وصلنا الأمير سلطان وعينّاه الآن في المرتبة السابعة في الإعلام الخارجي، وهو يبدو لي أنه نبيه (هو ما يعرفني كويّس لكن المظاهر خدّاعة)، وأنا سأعتني به سأرده بسرعة إن شاء الله، فأجابه والدي -وهو يشهد على ذلك- قال له: "تكفى لا تخرّب ولدنا علينا، نحنا ربيناه خليه ينحك ويندقّ شوية إلى أن يطلع نفسه بنفسه".. وأنا أشهد بالله أن هذا كان نتاج تربية وتعليم وثقة كان فيها التواصل مستمراً، ثم أتى فيما بعد رئيسي السابق معالي وزير الإعلام الحالي الدكتور عبد العزيز خوجه الذي سعدت بالعمل معه في تأسيس وكالة الإعلام الخارجي ولا زلت إلى اليوم عندما أراه أقول له: (Boss) يعني الشهادة لله هو يفرح عندما أقول له (Boss) ولا أكبِّر سنه.
بالعودة إلى الموقع الاقتصادي، عندما سألتني السيدة زينب بدوي في محطة B.B.C وقالت: أنتم بلد النفط معروفون بأن لديكم أكبر مخزون نفط في العالم، والعالم يعرفكم بذلك، ماذا عملتم لتغيروا هذه الصورة؟ قلت لها: لا نريد أن نغير هذه الصورة!! أنا ألاحظ أن كثيرين ممن يقال لهم أنتم أكبر بلد نفطية وأغنى بلد في النفط وأنتم لديكم أكبر بلد ولديكم المال، يبدأون الاعتذار ويقولون: لا والله نحن لسنا بلد نفطياً فحسب بل عندنا بشر وعندنا تعليم.. إلا أنني أقول لهؤلاء: نحن لا نريد أن نغير هذه الصورة. مسرورون لأننا أكبر بلد في العالم ونعتز بذلك واليوم أعلنت ميزانيتنا بعض الأرقام الضخمة التي تدل أن هذا النفط يضخ في دمائنا وفي قلوبنا وفي تعليمنا وفي اقتصادنا.
فالبعد الثاني الذي عرفت به المملكة العربية السعودية هذا العام والعام الماضي هو البعد الاقتصادي، أي متانتنا الاقتصادية، ورزانتنا الاقتصادية، وعمقنا الاقتصادي المتجذر في عدة الطبقات وهي اليوم خارج النقاش في مجال الاقتصاد وكانت جزءاً من عملي. هو هذا العمق الاقتصادي الضخم الواسع الذي يعرفنا العالم به، ونحن اليوم معروفون أيضاً محلياً ولا شك خارجياً عند الناس من خلال موقعنا الثاني أي الموقع الاقتصادي.
البُعد الثالث والذي يتنامى ويتعاظم أيضاً في هذا العهد الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، وعهد ولي عهده الأمين حفظه الله، وعهد هذه الدولة المباركة دولتكم أنتم وأنتم الدولة، هو البُعد السياسي. فبلادنا طوال تاريخها، ومنذ أيام المؤسس والكتب المنشورة ومذكرات المترجمين، ومواقف المؤسس الواضحة المعلنة في لقاءاته مع الرئيس روزفلت، وفي لقاءاته مع تشرشل، وفي لقاءاته المعلنة المدونة والتي نُشرت كوثائق تاريخية ولم تُنشر من عندنا كلها، تدل على أن هذا البلد يضع نفسه في عين العاصفة في القضايا السياسية وفي القضايا المصيرية لهذه الأمة.
تنامى ذلك عبر السنين وعبر الأزمان في عهد جميع ملوك المملكة العربية السعودية، وما زال يتنامى بالذات في هذا العهد الزاهر، بحيث إننا وضعنا أنفسنا في عين العاصفة في قضايا التعاون الدولي، في قضايا الحوار بين الدول وبين الأديان، في قضايا إطفاء الحرائق. الناس اليوم تتعدى على المملكة، لكن إن احترق بيت أحدهم أتى إلى المملكة لِتُطفئ الحرائق، لذلك نحن نعتبر اليوم أن دورنا السياسي المتنامي في هذه القضايا الدولية، والمبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في الكويت، والمصالحة التي بدأت تؤتي ثمارها اليوم وأصبحت قدوة، هي أيضاً في صلب العمل السياسي المتقدم الذي يطلبه إنسان القرن الحادي والعشرين، ويطلبه الجيل الجديد من الشباب، وهو العمل الذي يهدف لأن يكون عالمنا الذي نحن مقبلون عليه إن شاء الله، عالم علم وبناء وتصالح لا أن يكون عالم تضارب وخدع ومؤامرات، لذلك فإن الموقع السياسي أيضاً موقع معروف وظاهر وبارز.
البُعد الرابع الذي لم يُخدم في بلادنا إلا بالقدر اليسير وباجتهادات وجهاد أجيال تعاقبت من الإخوان الموجودين هنا ومن مسؤولين وغيرهم، ومن الناس الخيرين من أمثالكم الذين يجاهدون للحفاظ على تراثهم، وأذكر بالخير المهندس سامي نوّار، وجهاده في الحفاظ على جدة التاريخية، فهو من الناس الذين يلقون مني إعجاباً خاصاً لأنه مواطن يستهلك ما يأتيه من انتقادات ويستهلك مجهوده وصحته في سبيل رسالة، لكن هذا البُعد الرابع هو البعد الذي لا يعرفنا العالم فيه. العالم اليوم لا يرى المملكة بلداً ووطناً وبأن هذه الجزيرة العربية كانت تدير اقتصاد العالم في يوم ما.. العالم اليوم لا يعرف أن المملكة العربية السعودية هي بلد الحضارات وتعاقب الحضارات والتاريخ، هو لا يرى إلا الجزء اليسير من الناس الذين يقرؤون أنها ممر لطرق التجارة وطرق السياسة والأحداث التي غيرت مجرى التاريخ.. العالم اليوم لا يرى المملكة العربية السعودية من هذا البُعد الرابع.. يرى أنها دولة من الوزن الثقيل في بُعدها الحضاري، والذي لا يعتقد اليوم أن هذا البُعد الحضاري هو أيضاً بُعد مؤثر وسوف تكون له قيمة عالية جداً في البُعد السياسي والحضور المتنامي لأبناء المملكة في أنحاء العالم فهو لا يعرف ترابط هذه الأمور مع بعضها البعض.
إن المملكة العربية السعودية بشخص قائدها وولي أمرها تُدعى اليوم لتكون حاضرة في القضايا المستقبلية لبناء الإنسان، ونحن اليوم بهذا الحضور الذي أريد أن أضع تحته خطاً، نساهم في بناء مستقبل الإنسانية، عندما تأتي دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية بشخص رئيسها النبيه أوباما لاستشارة خادم الحرمين الشريفين ودعوته للمشاركة في المؤتمرات الكبيرة فذلك لأن أوباما يدرك أن دولة بهذا الوزن والثقل يجب أن تكون حاضرة في صناعة المستقبل الإنساني. إن القضية ليست قضية مستقبل بترول أو مستقبلاً اقتصادياً فقط، إنما مستقبل إنساني، ولذلك علينا في المقابل أن نمنح اهتماماً خاصاً لتراثنا الوطني الكبير الذي اندثر جزء لا يُستهان به منه في بلادنا بسبب الإهمال، أو بسبب التعدي أو تقادم الزمن.. علينا أن نعطي هذا البُعد أهمية خاصة في هذا الوقت، لأننا يجب أن نظهر للدنيا أننا لسنا بلداً طارئاً على التاريخ، نحن لسنا بلداً مثل البلدان التي تحدث عنها منذ قليل الشيخ عبد المقصود والتي تريد أن تصنع لها موقعاً من الإعراب، فتبدأ بتجميع القطع وبمشاريع الحفر الأثرية، وتصنع لنفسها قيمة حضارية جديدة. نحن اليوم في بلادنا كلما رمشت عين تقف على أثر، كلما نظرت شمالاً ويميناً تنظر إلى تراث وتاريخ، وكلما رفعت رأسك أو طمرته تنظر إلى تقادم وتعاقب حضارات، فنحن جميعاً بدورنا التاريخي ودورنا في صنع المستقبل يجب أن نقول حقيقةً بأننا أمة ولسنا دولة فقط.. وأمتنا في هذا الوطن ليست طارئة على التاريخ وليست متطفلة على المستقبل، نحن كنا دائماً وسوف نستمر إن شاء الله.. هذه هي الرسالة التي أراد خادم الحرمين الشريفين حفظه الله أن يوجهها في إحدى أبلغ الكلمات التي سمعتها قبل سنتين حسبما أعتقد، وقد كررها في جامعة الملك عبد الله واستنبطت منها دورنا في العلوم وصناعة المستقبل، فأمامنا اليوم مهمة تاريخية ليست مهمة الهيئة التي تمثل 13 وزارة ومجموعة من الناس وشركاء كثيرين فحسب، إنما مهمة جميع المواطنين.
أنا أبشر الأخ الكبير الشيخ عبد المقصود بأن أمنيته بزيارة المتاحف من قبل طلبة المدارس قد تحققت، وليس هذا فقط، بل بجهود كلٍّ من معالي الدكتور محمد الرشيد حفظه الله وزير التعليم سابقاً، ثم معالي الدكتور عبد الله بن عبيد وزير التعليم سابقاً أيضاً، ثم أخي سمو الأمير فيصل بن عبد الله عالم الآثار الذي زار مواقع آثار في وقت تفرغه، أكثر مما زرت أنا، والآن ليس بمتفرغ، وسعادة الأخ فيصل معمر نائبه، أبشركم بأننا اتفقنا -والدكتور سعد يقوم الآن مع فريق معهد التربية والتعليم بتوقيع الاتفاق قريباً جداً إن شاء الله- على تطوير كامل للمفهوم العام لدى الأجيال القادمة في المدارس في جميع المراحل التعليمية في ما يتعلق بالآثار والتراث العمراني، ويشمل ذلك بالطبع زيارة مواقع التراث وزيارة المتاحف، وأبعاداً كثيرة جداً بحيث لا نجلس إن شاء الله بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً في ليلة كهذه لنحثَّ الناس على المحافظة على الآثار.
نريد إخراج الآثار من حفرة الآثار، وأنا قلت سابقاً هذه الكلمة وكان إخواني في الآثار يتحسسون من بعض كلماتي، لكنهم عندما عرفوا طريقتي في العمل معهم عرفوا أني حقيقة في الخندق معهم.. نريد أن تكون الآثار الوطنية معلومة وسهلة المعرفة ومفتوحة للناس ومنظمة، وأن تكون ملكاً لكل مواطن وليست ملكاً لجامعة الملك سعود أو ملكاً للمجموعة الأثرية أو ملكاً لعلماء الآثار فقط. إن مهمة الهيئة العامة للسياحة والآثار إخراج الآثار من حفرة الآثار، وقد انطلقنا بشكل قوي لكننا نأمل أن ننطلق بشكل أكبر إن شاء الله من خلال الدعم المالي الذي سوف يُعزز هذه القيمة.
لقد انطلقنا في تطوير الآثار من منظور إبراز هذا البُعد الرابع -بعدنا الحضاري- بشكل قوي وحاضر محلياً قبل أن يكون دولياً. لقد تفاجأت بأن المواطن السعودي أقل إنسان يعرف بلاده سياحياً، حتى أقل من الأجنبي. أنا أستعين ببعض الإخوة الأجانب وهم يعملون في بلادنا ويعيشون فيها، ويعرفونها أكثر مما يعرفها المواطنون، فلقد كان معي وفد من نبلاء أسبانيا وأمرائها ومجموعة من رجال الأعمال الأمريكيين قبل شهر تقريباً تلبية لدعوة وجهتها إليهم خلال زيارتي إلى إسبانيا، حيث قضيت في إشبيليه معهم حوالي أسبوع رأيت خلاله العجائب من طرق التطوير كما زرت مواقع التراث.. والله يا إخوان -وأنا أتمنى من الأخ ماجد الشدي رئيس الإعلام لدينا أن ننشر رسائلهم بعد أن نستأذنهم عبر "الإيميل" غداً- لو تقرؤون رسائلهم -وبعضهم من كبار رجال الأعمال الذين أسسوا في أمريكا ثروات بمئتي مليار أو أكثر- وممن يملكون ثقافة عالية.. لسمعتم منهم أنهم عاشوا في هذه البلاد أياماً لن ينسوها في حياتهم، إذ تأثروا قبل كل شيء بالناس.. بالبشر. (وأنا دائماً أقول إن أكبر ثروة في هذا البلد هي البشر)، وبعادات الناس وتقاليدهم وقيمهم، فيما نحن نقول إننا متخلفون والناس لا تريد أن تأتي.. لكنهم أتوا وانبهروا بتواضع الناس ومحافظتهم على قيمهم وعلى تقاليدهم وعلى كرمهم وعلى ابتسامتهم، ولذلك فإن إظهارنا للبُعد الحضاري وإبرازه لنا كمواطنين قبل غيرنا، ولأبنائنا في المدارس وبناتنا، هو إحدى المسؤوليات الضرورية وليس من المسؤوليات الترفيهية. ثانياً إعادة الاعتبار، وأضع خطاً تحت كلمة إعادة الاعتبار. فإعادة الاعتبار لتراثنا الوطني وآثارنا الوطنية ليس ترفاً ولا يجب أن يُنظر إليه كما يقولون (Its a good idea) هو في الواقع أمر خطير وفي غاية الأهمية، ولن يسامحنا التاريخ فيما لو تركنا هذه الآثار مكشوفة أو تُنتهَك كما يحصل اليوم، ونحن نجهد لمنع هذا ولا زلنا مقصرين جداً، إذ تركنا المواقع التي أُخذت آثارها ووضعت تحت الأرض في متاحف هنا وهناك، مكشوفة للتعرية. لقد زرت أحد المواقع المهمة، وهناك دمعت عيني عندما رأيت الموقع الذي نسمع عنه ونقرأ عنه، وهو بهذه الحال التي لا يقبلها إنسان.
أنا أتأثر عندما أرى دولة عظيمة وتستحق التقدير وبموارد محدودة جداً مثل مصر وهي تحدث هذه النقلات العظيمة في آثارها، وقرأتُ مقابلة بهذا الخصوص للدكتور زاهي حوّاس قبل حوالي خمسة أو ستة أيام في "الشرق الأوسط" وخرجت بنتيجة مفادها أننا لا نزال متخلفين عن العناية بآثارنا الوطنية وتراثنا العمراني، اسمحوا لي لو قلت هذه الكلمة حتى أنتقل للجانب الآخر من الحديث.. لذلك عندما انطلقنا وأُقرَّت الخطة الوطنية التي حظيت وتحظى بدعم الدولة إن شاء الله في هذا العام بشكل كبير، فإنها لم تكن خطة مشاريع فقط، بل خطة إحداث نقلات.. نقلات في نظرة الناس للآثار والاعتراف بها واحتضانها -ضع خطاً تحت كلمة احتضانها-، كل مواطن اليوم يجب أن يحتضن آثاره الوطنية ويكون هو الحارس الأول بعد الله، إذ يكفينا بحث عن حراسات وأبنية وملاحقة سرقات، نريد الآن أن نُحدث هذه النقلة من خلال المواطن، الذي عليه أن يكون هو الحارس للآثار، هو الذي يعتز بالآثار، وهو الذي يعرفها أكثر من أي شخص آخر.
ثانياً: نريد أن نستعيد ما انهدم واندثر من آثارنا، فنحن اليوم نعمل في مشاريع كثيفة جداً بأقل الموارد المالية؛ لإعادة الاعتبار للقرى التراثية وتحويلها لموارد اقتصادية. وما يحدث اليوم من نقلات في إقناع المجتمعات المحلية لا زال يعاني من تقصير إعلامي كبير، ويبقى من أجمل الذكريات أن الزيارات التي قمنا بها إلى تلك المجتمعات والتي بلغت ستمئة زيارة، وقد شاركت في لا يقل عن خمسين أو ستين منها، وهناك كنا نجلس في القرى الصغيرة بين المزارعين ونقنعهم بداية أن يجتمعوا، ثم نؤكد لهم بأننا لم نأت لنُثمِّن وننزع ملكية، كي يطمئنوا فقط، ثم نساعدهم في تأسيس جمعيات تعاونية تنطلق إن شاء الله هذا العام، وقد انطلقت ثلاث منها حتى الآن، وفي تمويل وتأسيس شركات، وإني أُبشركم الآن بأن جميع السكان المحليين في المواقع التي أُنشئت فيها الجمعيات التعاونية قد وقّعوا على إعادة قراهم التراثية وتطويرها وجعلها مصدر دخل ومصدر رزق لهم، نحن ننظر حقيقة للسياحة في الأرياف ولتطوير المناطق الزراعية، أنها بديل مهم لانحسار الزراعة في المملكة العربية السعودية.
نحن ننظر أيضاً لإحداث نقلات في المتاحف، فالمتاحف ليست مباني يوجد به الآثار فحسب، إذ إن كثيراً من الأحيان المتاحف ذات المباني الحديثة لدينا لو مررت بجانبها لاعتقدت أنها مبنى بقالة، مع الاحترام لمن صممها طبعاً، كما نجد أن القطع الأصيلة من المناطق نفسها قد انتقلت إلى مواقع أخرى ولم يبق منها شيء، وهذا فيه تقليل من اعتبار أهل المناطق كما القرى الصغيرة والمحافظات والمواقع الإنمائية. نحن نريد أن نعيد الاعتبار لمتاحفنا بأن تصبح متاحف حيّة يقصدها الجمهور، نريد النقلة أن تحدث والحمد لله سوف ننشئ هذه السنة خمسة متاحف جديدة، وسوف نتقدم بحوالي ستة أو ثمانية متاحف جديدة في العام القادم تبنى بطريقة مختلفة تماماً، تكون كوادرها من المحليين، وتتعاون المدارس معنا في إدارتها وفي جعلها جزءاً من العملية التعليمية. نريد أن نحدث نقلة في المتحف الوطني، وما نأمله إن شاء الله الآن أن نؤسس له مجلس أمناء -ربما يصل الشيخ عبد المقصود خطاب بهذا الموضوع قريباً إن شاء الله- نريد أن ننتقل من المتحف الوطني ليماثل المتاحف الدولية التي نتعامل معها كل يوم والتي يقول مسؤولوها لنا: "بلادكم كلها متحف مفتوح، وعندكم من الآثار هنا ما يبهر العالم".
إن القضية مرتبطة بنظرة العالم لنا.. أتعرفون أننا إلى اليوم لم نخرج بعمل متحفي متكامل خارج بلادنا؟ هذا العام إن شاء الله وبتوجيهات سديدة من سيدي خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، وعطفاً على طلب من الرئيس الفرنسي شيراك عندما أقامت الهيئة معرضاً للآثار الإسلامية بالتعاون مع اللوفر في الرياض قبل سنتين، سوف يتم افتتاح أول معرض مهم للكنوز الأثرية في المملكة العربية السعودية في اللوفر إن شاء الله في بداية شهر يوليو من الصيف القادم كما أعتقد، أي في أهم وقت من أوقات الذروة في اللوفر.
القصة هي التالية: عندما بدأنا واستأذنت سيدي خادم الحرمين الشريفين الانطلاق في هذا الجانب، وجّهنا بالانطلاق بكل قوة، فبدأنا التحضير وأتى رئيس اللوفر وهو صديق محب لتاريخ هذه البلاد واجتمعنا، فقال: نريد المتحف في عام 2009م بعد سنتين من تاريخ الزيارة. وبدأنا منكبين على هذا الترتيب، وللعلم فإن اللوفر هو الذي سوف يتكفل بالكامل بجميع مصاريف هذا المعرض.
عندما أتى فريق اللوفر وكلهم خبراء من الوزن الثقيل قلت للزملاء: دعوهم يزوروا موجوداتنا في المخازن والمتاحف خصوصاً متحف جلالة الملك سعود ويتجولوا ويشاهدوا مدائن صالح وكذا، وعندما تنتهي الزيارة يأتوني هنا ويبلغوني رأيهم وما يريدون من قطع وكذا. طبعاً نحن لدينا حرص شديد أن تكون القطع المعروضة مقبولة بالكامل من قبل لجنة كبيرة جداً قد تم تشكيلها خصيصاً لهذه الغاية من خبراء ومواطنين، وكان أحدهم من علماء التاريخ المعروفين.. والله يا إخواني وأخواتي لقد قال لي ودمعته في عينه: أنا انبهرت بما رأيت لديكم.. لديكم ما يملأ عشرة متاحف. ثم أردف: أستطيع اليوم أن أموت وأنا مسرور لأني طوال حياتي كنت أسمع وأقرأ عن تاريخ الجزيرة العربية وتعاقب الحضارات ولم أعتقد أنني في يوم من الأيام سوف أرى هذا الكم من هذه القطع موجود عندكم في هذه الأماكن! ثم كلمني رئيسه بعد ذلك بيومين راجياً أن نمدد المعرض سنة إضافية حتى 2010م لأنهم يريدون الاستفادة من أهم وقت في السنة أي ثلاثة أشهر الذروة، وسيخصصون لهذه الغاية قاعة (هول) وكل ساحات اللوفر مفتوحة أمامنا وتحت طلبنا. طبعاً اتفقنا على ذلك ونأمل إن شاء الله افتتاح هذا المعرض الضخم وغيره من المعارض، إذ تقدمنا الآن بحوالي ثمانية أو تسعة طلبات لإقامة معارض في متاحف العالم المرموقة التي تريد أن تستقطب معروضاتنا بعد اللوفر مباشرة متحملةً جميع تكاليف العرض.
أنا أريد أن أسأل: ماذا يضر المملكة العربية السعودية اليوم وهذا الوطن عندما يعرض هذا الجانب الثقيل الوزن في التراث لأول مرة؟ صحيح أننا نعرض تراثنا: الحرف والرقصات الشعبية والمأكولات وتراث التنمية، إلاّ أن العالم اليوم لا يرانا كدولة حضارات تقف على قمة التاريخ، وإني لأتساءل: ألا يكون ذلك أيضاً بُعداً يضيف ثقلاً ووزناً إلى دورنا ودور بلادنا المتنامي في هذا العالم؟ فالعالم اليوم أصبح قرية صغيرة.. وربما أجد لقائي هذا معكم منشوراً غداً في اليوتيوب. فكل كلمة ينطقها إنسان يسمعها الكون... وهذا ما يعود بالنفع على المملكة العربية السعودية، فلم يعد العالم اليوم يعتمد على الصحف التي كانت تهاجمنا وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، أو إبان قطع البترول أو غيرها من الأحداث، بل أصبح يرانا بمنظور مختلف تماماً بعد أن بات لنا حضور، ويسعدني اليوم أن يكون السعودي من أكثر الحاضرين في هذه المواقع ويعملون فيها بشكل قوي إذ أمطرنا كثير منهم بالإيميلات.
لذلك تعمل الهيئة اليوم مع شركائها في عدة جبهات، وأسميها جبهات، لأن الله وحده يعلم ما تأخذه هذه الجبهات من الوقت في تهيئة الناس والإقناع، وقد يكون أصعبها جبهة وزارة المالية، في المقابل كانت جبهة المواطنين، من أسعد الجبهات فقد اعتقدت أن الصعوبة تكمن في إقناع المواطنين، إلا أن أسهل شيء عندي بات إقناع المواطنين، فالمواطن اليوم في المملكة العربية السعودية محب لوطنه ومنطقي، فنحن في ثقافتنا ثقافة البحر، ثقافة الجبل، ثقافة الصحراء، وقبل أن يبدأ التعليم كنا على الدوام منطقيين وشفافين قبل أن تصبح كلمة الشفافية "موضة" عندنا، كان الناس يقولون يا أخي أعطني ما في رأسك أعطيك الصحيح، وكنت أقول: يا فلان واحد زائد واحد يساوي اثنين، فيقول: صح جزاك الله خيراً.. لم يكن هناك تعقيد على الإطلاق.
لذلك تعتبر اليوم النقلات التي نعمل على إحداثها نقلات في العمق ونقلات صعبة. نحن في جدة نشتكي... وأنا أيضاً أضم صوتي للتعزية بالذين توفاهم الله في حادثة جدة وبالذين توفاهم الله الآن على الجبهة في الجنوب، جزاهم الله خيراً يدافعون عن هذا الوطن العظيم وكلنا اليوم مع الجنود إن شاء الله. المعاناة هذه كيف تبدأ؟ هناك خياران؛ حتى في العمل هناك جماعة تريد أن تعمل وتريك فقاعات أي تبهرك مثل الطفل الصغير.. فالطفل الصغير عندما يأتيك تجد الألوان التي تجذب الانتباه مثل أفلام الكرتون، وهناك جماعة أخرى تريد أن تعمل على التأسيس.. نحن اخترنا الطريق الصعب غير المبهر، طريق التأسيس، طريق النماء، نضع اليوم اللبنة التي يُبنى عليها، كما قلت للدكتور رضا عبيد منذ قليل: لقد وضعت لبناتك في البحث العلمي في المملكة وتقوم عليها اليوم طبقات من البناء لأنك وضعت لبنة صحيحة، وذلك ينطبق على المدن أيضاً.. فالرياض عندما تزورها اليوم تجد فيها بنية تحتية لأنها أرادت أن تضع اللبنة للتأسيس، التأسيس صعب لا يحوز رضى الناس.. الناس تريد نتائج مستعجلة، لكن في قضية متشعبة بين السياحة والآثار والقضايا الاجتماعية والدينية والأمنية وقضايا التطوير وقضايا المنازعات على الأملاك وقضايا تطوير الأراضي والاستثمار لا ينفع الاستعجال، فأنا اليوم كرئيس مجلس هيئة السياحة والآثار أبدّل في مكتبي الطواقي باستمرار، أي كل من يأتيني المكتب يجده دكان طواقي. (يعني جالس أغير طاقية)، لذلك فقد احتجت صراحة أن أبني معرفتي في مجال الآثار، ومجال التراث العمراني، أما مجال التراث بشكل عام فكان أحد الأوعية التي بدأت بها منذ سنوات طويلة ولا زلت أعرفها وأجادل فيها بالإضافة إلى أني أسكن بيتاً تراثياً، لذلك لم أرد من إخواني في الآثار أن يأتوني دفعة واحدة ومعهم محاضراتهم ونظرياتهم المعقدة، فاحتجت أن أبني على الأقل قدراً مناسباً من المعرفة حتى أستطيع أن أخدمهم في قضيتهم، وأنهض معهم وأحارب من أجلهم من دون أن أتجادل معهم...
لذلك نحن نريد إحداث هذه النقلات في مجالات المتاحف، في مجالات الآثار، في مجالات الامتلاك الوطني والاحتضان، الاحتضان الوطني للآثار والتراث العمراني، التراث العمراني الذي كان مستهاناً ومستباحاً، كنا نسميه مواقع آيلة للسقوط، عندما يأتيني خطاب من أي جهة مكتوب فيه مواقع آيلة للسقوط صدقوني يا إخوان أرجعه رسمياً مشيراً بعدم قبوله. لقد وصلني مرة خطاب بمسماي السابق -أعتقد أمين عام الهيئة- فأعدته إلى الجهة المختصة مشيراً بأن ليس هناك أمين عام الهيئة، وبوجوب كتابته مرة ثانية، فصرنا نسميها مواقع آيلة للنمو، يعني كما سمّى الشيخ عبد المقصود المعاقين: ذوي الاحتياجات الخاصة، أو كما سمّاهم الأخ بندر الصالح -وأنا دائماً أنسب له هذا الفخر- ذوي القدرات الخاصة. اليوم نحن أيضاً نريد أن نغير اسم جدة القديمة إلى جدة التاريخية، نريد أن نغير مواقع آيلة للسقوط إلى مواقع آيلة للنمو، فاليوم -وكما قال الشيخ عبد المقصود: عندما يزداد تحضر الدول ويزداد مستوى التعليم تزداد عناية هذه الدول بتراثها، ويزداد تحضر الناس مما يجعل مهمتي الآن أسهل مما كانت عليه قبل عشر سنوات مضت، وهذا قلته في كلمة بحضور سمو الأمير خالد الفيصل حفظه الله عندما كان يتكلم عن العالم الأول في حفل جائزة التراث العمراني في جدة العام الماضي، ربما أو الذي سبقه أنت تتكلم عن العالم الأول وكلنا نريد أن نكون في العالم الأول، ونحن كمسلمين يجب أن نكون اليوم أول أناس في العالم الأول. لو جلسنا فقط وتمعنا في البحر، اليوم أنا كنت في البحر وشعرت بسعادة غامرة، لو جلسنا اليوم فقط وتمعنا ماذا يعني.. الحمد لله أكرمنا الله بالعمرة اليوم.. قمنا صباحاً مع بعض الإخوان وتوكلنا على الله وأحرمنا.. لو تمعّن كل مسلم في نفسه وتبنّى في أعماله الأخلاق والقيم التي أقرّها ديننا الحنيف، قبل أن يطالب بحقوقه، لوجب على كل واحد منا الآن أن يكون منذ زمن في العالم الأول.
ولذلك تجدنا كمسلمين أن نصفنا الآن في العالم الأول فيما الجانب المتعلق بنا كأفراد لا يزال بانتظار أن نحدث هذه النقلة في أنفسنا حتى نذهب إلى العالم الأول مئة بالمئة كما يقال.. وقلت في الكلمة بأننا إذا كنا نريد أن نكون في العالم الأول لا بد لنا من أن نصل إلى مستوى من التحضر لا يرتبط بعدد الطرق والمستشفيات والمدارس والجامعات وعدد المتعلمين فحسب، بل بمستوى من التحضر في تعاملاتنا وفي حفاظنا على تاريخنا وتراثنا.
اليوم هو الوقت المناسب للنهوض بتراثنا الوطني لاسيما لجهة الآثار والمتاحف وغيرها.. هو الوقت المناسب لأن قائدنا في هذا البلد حفظه الله وعضده الأيمن يقفان كل يوم في المجلس وفي المحافل المحلية والدولية وينهضان بنا، مثلما يقولون عندنا في نجد: قُم.. تحرك.. أنتج.. خلص.. ابني.. كن نزيهاً.. كن كذا.. فلذلك جاء الوقت اليوم لإطلاق هذا البرنامج المهم وهو إعادة تطوير البعد الحضاري في بلادنا وإبرازه وتمكين بلادنا من استعادة آثارها. وفي هذا المجال -استعادة الآثار- نحمل لكم بشرى سارة: لقد أتيت اليوم ودعوة الشيخ عبد المقصود غالية علي، فبيننا علاقات أسرية وأخوية وهو أخ أكبر وصديق لوالدي أيضاً، أتيت لا لأقول كلاماً مكرراً، فأنتم لم تعتادوا مني أصلاً في حياتي كلها الكلام المكرر، وأنا أعتبر نفسي مواطناً ووطنيتي الحمد لله مثل وطنيتكم في موقعها إن شاء الله، وكل كلمة تصدر عني أنا مسؤول عنها ومحسوبة علي، وكل كلمة أقولها أقصد بها أن تكون في سبيل البناء الوطني.. أبشركم بأن خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، وبمجهود من الهيئة وبدعم كبير من سيدي ولي العهد ومن سيدي النائب الثاني وزير الداخلية بالذات ومجموعة من لجنة المشايخ وغيرهم، قد أصدر قراراً قبل أكثر من سنة يحسم موضوع التعدي على مواقع التراث الإسلامي بشكل كامل، ويكلف الهيئة -ونحن أنجزنا المهمة الآن- بإجراء حصر كامل لجميع مواقع التراث الإسلامي في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويوقف جميع أنواع التعديات على جميع المواقع بما في ذلك المساجد، ويكلف الهيئة أن تعمل تحت إشراف جهات أصيلة في ما يتعلق بالمساجد بالذات، ووزارة الشؤون الإسلامية وزارة قديرة ومهتمة مثل اهتمامنا في ما يتعلق بالجانب الأثري، من ذلك أيضاً ما يتعلق ببعض المساجد التي لها قيمتها الدينية والروحية قبل كل شيء وقيمتها العمرانية والتاريخية أيضاً مثل المدينة المنورة، التي تعمل الهيئة الآن بتكليف ملكي كريم على إعادة ترميمها وتحديثها مع أمانة المدينة المنورة. وهناك إجراءات أخرى لا نستطيع ذكرها اليوم لخصوصيتها لكنها كلها تصب في كل ما يريد أي مواطن مخلص أن يراه في بلده، لأن الإسلام في نهاية الأمر ولد هنا، إذ لا يكفينا نحن اليوم أن نقول بأننا مهبط الوحي والرسالة ومهبط الإسلام وكذا، ثم نقول لا يوجد لدينا تراث إسلامي! الإسلام وُلِد هنا، وقصص الإسلام التي ندرسها في التاريخ وفي الكتب حدثت هنا لم تحدث على سطح القمر ولا على سطح المريخ، وكل ما يتعلق بتحرك الإسلام العظيم وانتشاره حدث هنا، ونحن في الوقت عينه نرى أن الطريقة التي يعالج فيها ما يحدث من تعظيم وتقديس للمواقع لا يكون بمسحها.. فأنا رأيت بعيني بعض المواقع التي مُسحت ولا يزال يحدث فيها نوع من هذا التبرك إضافة إلى بعض الأمور التي لا نراها حقيقة وهي بالطبع ليست مقبولة في ديننا الحمد لله. نحن موحدون.. لذلك نحن متفقون، وأنا أطمئنكم أننا كلنا مطمئنون إن شاء الله؛ فمشايخنا الأفاضل وبلا شك نحن كدولة، كلنا منتظمون في هذا الجانب، وملتزمون المحافظة على هذه المواقع وتطوير ما نستطيع تطويره منها وفتحها للمواطن بحيث يتلقى فيها الدعوة الصحيحة ويعرف التاريخ الصحيح..
وسوف أروي لكم ما حدث لي مع ابني سلمان حين زرنا المدينة المنورة مع زميل له في الدراسة، كان عمره في ذلك الوقت ثماني سنين تقريباً -طبعاً هو الآن عمره تقريباً عشرين سنة- وهو ما شاء الله مجتهد ويحاول أن يُظهر لي أنه يفهم أكثر مني في كل الأمور مثل أي واحد من أولادكم، وأنا أسعد بذلك طبعاً.. وقفنا أمام جبل أحد، فنظر إليه وقال لي: هذا جبل أحد؟ درسنا عنه في التاريخ لكني كنت أحسبه جبلاً صغيراً ويدور "دار حوله كذا". هل يعقل أن مدارسنا لا تزال إلى اليوم تدرس المادة مكتوبة ولا تدرسها في موقعها؟ صحيح أن هناك نوعاً من الخلل في المعادلة يعود لأسباب كثيرة وأنا أقدّر هذه الأسباب، إلا أنني اليوم أقول إننا الحمد لله مطمئنون إلى سير العمل في الهيئة مع شركائنا، لأننا نعمل تحت مظلة هذه الدولة المباركة التي بدأت بتجميع الناس على الخير وعلى كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله. أنا كمسؤول في الدولة أعمل تحت هذا العلم وتحت هذه المظلة، ولا أخرج منها إلى مسار يختلف عن مسار هذه الدولة، فلذلك نحن نعمل بحذر وبتروٍ في هذا الجانب، ونتطلع الآن إن شاء الله إلى انطلاق أعمال إنشاء دار القرآن الكريم في المدينة المنورة بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية، إذ لا يُعقل أن يُنشأ متحف للقرآن الكريم في إحدى الدول الخليجية ولا يكون هناك أهم عمل متحفي للقرآن الكريم في المدينة المنورة، لا يُعقل ولا يصدقها إنسان، لا يُعقل أن لا يكون عندنا أهم متحف في العالم لآثار مكة المكرمة والآثار الإسلامية هنا في مكة المكرمة، لا يعقل أن يبقى قصر خزام على هذه الحال البائسة، والحمد لله فإن سيدي خادم الحرمين حفظه الله قد وجّهنا لاستعجال إنشاء متحف خزام لأن متحف خزام هذا شاهد على بعض الأحداث التاريخية، منها توقيع اتفاقية البترول التي نعيش اليوم كلنا في ظلها والحمد لله.. والتصاميم الجديدة في طريقها إلى الإنجاز.
لقد انطلقنا في عدة مسارات ونعمل الآن على عدد من المشاريع -ليست أمامي في "اللاب توب" وأنا ألوم إخواني في الهيئة وجماعتهم على التقصير، انطلقنا بعدد من المشاريع منها: "مشروع القرى التراثية"، حيث نعمل على سبعة أو ثمانية مواقع هذا العام بميزانية محدودة نأمل أن نتوسع فيها العام القادم. "صندوق التسليف" سوف يبدأ هذا العام إن شاء الله في بدء تقديم السُلف للمواطنين لترميم مواقعهم الأثرية والتراثية. "الاستثمار"، وسوف يبدأ إن شاء الله الإعلان عن أول ثلاث أو أربع دفعات تمويل للجمعيات التعاونية في مجال القرى التراثية التي بدأت الآن في المملكة خلال هذا الشهر.
نعمل الآن على منظومة من المتاحف التي تُقام في القصور المملوكة للدولة. نريد أن تتحول هذه القصور إلى متاحف، نريد لكل بناء أقامته الدولة سواء من طين أو من حجر أن يُعاد الاعتبار إليه، والحمد لله أُنجز تقريباً حوالي 80٪ من عملية ترميم هذه القصور لتتحول إلى متاحف محلية حيّة تعقد فيها الاجتماعات عن البلدة، والمحاضرات، والنشاطات الثقافية، والفعاليات وتكون موقعاً حيّاً للصور القديمة للوثائق التاريخية لأن هذا أيضاً جزء من تنمية انتمائنا الوطني، وتنمية اعتزازنا بتاريخنا ولكل منكم تاريخ. لقد زرت إحدى القرى مرة في بداية العملية هذه أي من عدة سنوات وكنت أتكلم إليهم عن قريتهم القديمة التي تركوها وبأنه يجب أن نحافظ عليها ونعيد إحياءها؛ كي يستفيدوا منها ويجدوا فيها فرص عمل وكذا، فقال واحد: يا ابن فلان يا شيخ "إحنا نتفشّل كده" -وأراد أن يقول نخجل- إذا جاءنا ضيوف وَأريناهم هذه الخرابة وقلنا لهم بأننا كنا نسكن هنا، فهذا ليس بلائق.. لمَ لا نزيلها؟ لماذا لا نضع مكانها مباني حديثة؟ فقلت له أنت من؟ قال أنا فلان، ثم تابع: أنا أكره التاريخ والوالد سلمه الله لم يقصّر في هذا الأمر كلما أنهيت كتاباً يرسل عشرة: قلت له: جدك كان كذا ووالدك كان كذا وجدك الأول ذهب إلى الملك عبد العزيز وقدّم له قال أنا أريد كذا وانضم للرسالة المباركة وكذا كذا.. من أين خرج أبوك وجدك؟ سرايا التوحيد التي خرجت في بلادنا من أين خرجت؟ خرجت من طريق العلَيّا وخرجت من مكانٍ ما في جدة.. خرجت من هذه القرى.. الذين وحّدوا هذه البلاد والذين أقاموا هذه الدولة الحمد لله التي ننعم تحت ظلها من أين خرجوا؟ خرجوا من التي تسميها خرابة! فوقف الرجل وقال: جزاك الله خيراً، أنا بخير ولم أُرِد إعادة البناء لأني أكسب إن جاءني شيء سأقدمه للأعمال الخيرية، لكنك الآن ذكرتني وأنت على حق، فنحن أيضاً ننظر لهذا الموضوع من الناحية الوطنية. هل يعقل أن يندثر تاريخ هذا الوطن وبداياته وبناؤه؟ وهل يعقل أن نترك هذه الفرصة الاقتصادية المهمة تذوب مثل الطين بين أيدينا ولا نخلق فيها فرص العمل؟ أول ما بدأت في تلك الأيام مع رؤساء البلديات كنت أجد من المعارضة ما لا يصدقه عقل إنسان، والسبب أنهم لم يروا قط أمامهم تجربة حية، فقدمت لزملائي في الهيئة فكرة: لماذا لا نبدأ بإرسال رؤساء البلديات إلى المواقع، في عطلة الصيف زرت مع أسرتي متاحف كثيرة، فأنا أهتم بالتراث العمراني وأصور كثيراً وأدرس.. وقد انبهرت انبهاراً كبيراً جداً بما رأيت، فعندما عدت إلى المملكة قلت للدكتور عبد الواحد الوكيل جزاه الله خيراً -وهو من الأشخاص الذين تعلمت منهم الكثير: لقد رأيت ما لا بد أن يراه رؤساء البلديات. قال: هل تريد أن ترسل رؤساء البلديات إلى المناطق الأثرية؟ قلت له نعم، فالتفت إلى أحدهم وقال لي: أنت تعيش في عالم آخر، والأخ محمد الذي يجلس بيننا الآن شاهد على هذا الكلام، وهو من بين الذين رافقونا في الرحلة الأخيرة.. ركبنا طائرة وتكرم زميلي وأخي عبد الله صالح كامل (الله يذكره بالخير) وقدم طائرة تقلهم، ورتبت لهم بنفسي كل عناصر الرحلة: أين يأكلون وأين يشربون؟ كل المطاعم التي كانت تعد خرائب، الدكاكين التي يبيع أهلها يبيعون المنتجات المحلية التي كانت ترمى في البحر قبل أن يتم ترميم هذه القرى، رؤساء البلديات، رؤساء كذا وكذا.. المراكز العلمية.. وقد اعتقدَ بعض إخواننا في البلديات أنه ذاهب في رحلة حكومية، فاجتمعت بهم منذ اليوم الأول ووجهت لهم إنذاراً أخوياً، بضرورة رفع تقرير تلفوني كل يوم، وهنا أود أن أذكر بالخير الأمير متعب بن عبد العزيز حفظه الله، هذا الرجل الخيِّر الذي كان وزيراً للشؤون البلدية، إذ عندما أتانا كي نوقع اتفاقية مع البلديات من ضمن اتفاقية التعاون التي بدأتها هيئة السياحة وكانت المبادر الأول إلى توقيع اتفاقيات بلغت حوالي سبعين أو ثمانين اتفاقية بين اللجان الحكومية غير الهيئة، عندما جلسنا لنوقع اتفاقية بحضور سيدي الأمير سلطان وسمو الأمير متعب في إحدى ليالي رمضان، التفت إلى الأمير متعب وقلت: فليأتِ وكيل الوزارة كي يوقع معي، قال لي: لا، أنا أوقع معك، لأني إن لم أوقع بنفسي لن تتعاون البلديات معك، فأصدر القرار الحاسم ودعمه سمو سيدي وزير الداخلية الأمير نايف مرتين، وكذلك الأمير منصور الوزير النبيه المتميز المتفوق، لأني أعرف منصور منذ الصغر وهو صاحب قرار منع هدم التراث العمراني، وعندما قلت لسمو الأمير متعب يا سمو الأمير.. إني أريد أن أرسل مجموعة من رؤساء البلديات إلى خارج المملكة، اختر لي بعض رؤساء البلديات من ذوي الشهادات العليا. فالتفت إلي وقال: والله فكرة ممتازة توكل على الله، طبعاً سألني إذا ما كانت الرحلة على حسابنا أم على حسابهم، وقلت له: بل على حسابنا، فلدينا بند دعم خاص ولا نود أن نطلب شيئاً.
وبدأت الرحلة وبدأ برنامج الزيارات، وفي نهاية الرحلة تحدث رؤساء البلديات عن تجربتهم التي أبهرتهم، عبر فيديو مسجَّل أولاً ثم كتابة ومما لا يتعدى الصفحة الواحدة لكل منهم، فكتبوا ما يشبه الاعترافات ولم تكن مذكرات حتى إن بعضهم كرئيس بلدية عسير الحالي وهو حي يرزق، قال: أنا كنت أشغل التراكتور... أهدم التراث لأفتح الشوارع.. إني الآن أعدك بالعمل على استعادة هذا التراث، والآن هو يعمل على ذلك.
ولأول مرة في المملكة، تقوم حوالي خمسين أو ستين بلدية هذا العام بتخصيص ميزانيات لإعادة حماية التراث والقرى التراثية، الأمر الثاني: نحن الآن أيضاً نعمل على برنامج متكامل رفعناه للدولة، وسوف نرفعه إن شاء الله للمجلس الاقتصادي الأعلى، يتعلق بتأسيس شركة جديدة، ونعمل مع شركة في إسبانيا والبرتغال وشركات الفنادق التراثية لتأسيس شركة مع القطاع الخاص بهدف تطوير الفنادق التراثية.
لقد حان الوقت كي تبدأ المملكة في مسار تطوير الفنادق التراثية، وأنا أدعو القطاع الخاص كي يبدأ ويبادر. أنتم شاهدتم دبي.. دبي اليوم مثل نستطيع أن نتحدث عنه.. لقد قال لي الشيخ أحمد بن مكتوم صديقي من أيام الدراسة عندما كنا نتجول: إن أنجح فنادق دبي الآن هي تلك التي بنيت وفق تصميم تراثي وتقدم تجربة تراثية. أنتم تزورون مراكز وتزورون بلداناً وتلاحظون باستمرار أن تجربة المواقع التراثية هي التي تقدم خدمات مميزة. نحن انطلقنا في هذا المشروع بشكل واسع، وأنا أرى الآن مجموعة كبيرة من الناس بدأوا يتضامنون لتأسيس شركات الفنادق التراثية.
في جانب آخر نحن نعمل مع وزارة الشؤون البلدية والقروية بشكل قوي في وسط المدن. الأخ محمد رئيس بلدية الطائف أو أمين الطائف حالياً هو من الأشخاص الذين أعتز بصداقتهم سنين طويلة ومن المجاهدين أيام كان يشغل منصب نائب بلدية المدينة. نحن نعمل الآن لإحداث نقلات كبيرة في وسط المدن والطائف من ضمنها. أنا أرغب من الأخ ماجد الليلة أن يضع خطة تطوير وسط الطائف، وخطة تطوير وسط الهفوف كنموذج على موقع الهيئة على الإنترنت حتى تتمكنوا من الإطلاع عليهما.
عملنا على خطة محكمة وأتمنى إن شاء الله أن تكون ميزانية هذا العام قد أعدت وبتوجيه من الأمير خالد أيضاً نفقاتها، والخطة تتضمن تطوير وسط الطائف التاريخي واستعادته أفضل مما كان، لأن الطائف ليست مطاراً جديداً وطريقاً جديداً وجبلاً فحسب، بل لها طعم وذوق وأنا أذكرها أيام طفولتي عندما كنا نذهب لنصطاف فيها، كانت أجمل أيام العمر. حتى المجموعة التي تكلمت عنها (الإسبان وغيرهم)، عندما ذهبوا برفقتنا إلى الطائف قبل شهر، وزرنا المناطق الجبلية، وتناولنا طعام الإفطار عند صديق لنا يعيش في الجبل، لم يندهشوا فحسب، بل لم يتوقعوا حتى في الخيال أن يكون في بلادنا مثل هذه المواقع.
نحن نعمل الآن على استعادة برنامج كامل في الطائف، سمو الأمير منصور متحمس والجميع كذلك، ويقود هذه المهمة سمو الأمير خالد لاستعادة هذا الموقع الاقتصادي السياحي التاريخي بشكل جذري. الهفوف التي كانت ستندثر، قصتها قصة كفاح بسيطة.. هذه كلها قصص جديدة والشيخ عبد المقصود.. الأخ الأكبر.. لم يدعُني إلى هنا كي أعطيكم كلاماً مكرراً وكلام وزراء كما يقولون.. عندما احترق السوق في الهفوف قبل خمس أو ست سنوات.. الحقيقة أن الكثير منا انقبض. كان سوقاً من أهم الأسواق في الهفوف ويرتاده كل الناس، فقام من قام هناك ليقول: لو تبنون مكانه "مولاً".. نريد إزالته بأكمله من وسط المدينة ونبني مولاً. لم نقبل في الحقيقة أنا وزملائي بذلك، فذهبت بنفسي إلى سمو الأمير محمد بن فهد في المنطقة الشرقية، اليوم الناس تعتقد أن المسؤول يجلس في مكتبه ويتكلم في التليفون ويضغط أزراراً وهذا خطأ. لقد كنت مع والدي قبل عدة أيام نمشي في الرياض -تحديداً يوم الجمعة الماضي- كان يقول لي: "أنظر الأشغال"، ويشير إلى هذه الورشة وتلك، فكنا نمر في أنفاق وطرق، ثم روى لي ثلاث قصص لا أستطيع أن أذكرها اليوم بل أتركها ليرويها بنفسه إن شاء الله يوماً من الأيام في إحدى جلسات الاثنينية.. قال لي: إن كل هذه المشاريع اللي تراها كانت قصص كفاح، كانت قصص جهاد، فمنها ما استغرق سنة.. سنتين... ثلاث أو أربع سنوات. إحدى هذه القصص -ولا أستطيع أن أذكرها الآن- قال إننا عملنا عليها وأنجزناها ورتبناها ومن ثم علمت أن الموضوع سوف يلغى. والله أنا في حياتي كلها -والحمد لله أني بصحة وعافية والأمير بصحة وعافية- لم أشعر بانقباض في القلب، وبأن قلبي سوف أفقده كما شعرت تلك اللحظة.. ثم ذهب واستدرك الأمر.. فجزء من عملنا أيضاً هو استدراك الخلل، وأحياناً نحتاج بكل قوة إلى أن نظهر للناس مصدر الخلل. فذهبت للأمير محمد وقلت: طال عمرك، إذا ما تم هذا الأمر فإن الهفوف سوف تندثر سياحياً وتراثياً، ومعلوم أن وسط الهفوف من أفضل وأجمل مواقع المملكة على الإطلاق، وجرت فيه أحداث يحكيها التاريخ. وهذا السوق بالذات له قيمة تاريخية، فإذا ما بنيتم فيه مولاً، سيأتي غداً من يبني "مولاً" آخر قريباً منه بخمسة أو ستة كيلو مترات أي خارج المدينة، ويكتسحك عشرين مرة، لأن الموقع صغير أصلاً، فقال: ما رأيك إذاً؟ قلت: اتركوا المجال لنا على حساب الهيئة، هذه الهيئة حقيقةً تتكفل اليوم بكثير من المشاريع التي نتعاون فيها مع البلديات والآخرين، وهنا أشير إلى خطاب تلقيته من رئيس بلدية المدينة المنورة الأخ عبد العزيز الحصين العام الماضي، فكتبت كلمة في الجريدة قلت فيها إن هيئة السياحة لا تبحث عن الدخل، نحن نبحث عن البناء ومصلحة المواطن والوطن، لذلك نحن نعتبر أن البلديات هي قائد التنمية في المملكة التي يجب أن تسير إلى الأمام، ودورنا أن ندعمها ونساعدها لذلك نريد البلديات التي تحقق دخلاً إضافياً، ونحن من اليوم الأول لم ننافس البلديات وكل البلديات تعرف أن هيئة السياحة لا تنافسها اليوم ولا يمكن أن تنافسها على المواقع، فقلت: سلمني الموضوع لأربعة شهور، أوقف كل شيء، نحن نعود إليك. وقد قدمت الدولة 20 مليوناً لإعادة البناء.
اشتغلنا مع المكاتب الهندسية المميزة، وخرجنا بدراسة من أجمل الدراسات، وقد كان لي شرف أن أكون ضمن الفريق الذي شارك فيها، حيث حرصت على ألاّ أترك المجال مفتوحاً. إني أبشركم أن هذا السوق قد أُعيد بناؤه الآن بالكامل، وسوف يفتتح هذا العام إن شاء الله، وأبشركم بأن البلدية سوف تقوم حسبما أبلغني رئيسها -وهو بالمناسبة شيخ نبيه جداً وفعلاً متقدم على عصره كما أعتقد- بالتوسع في الجهة الأخرى، وفق النموذج النمط نفسه وبالمواد العصرية.. بالعكس هم علمونا كيف نبني بالمواد العصرية بطريقة حديثة، وأبشركم أيضاً بأن البلدية قد اعتمدت مشروع تطوير وسط الهفوف لإعادة الاعتبار بالكامل ونقلت جزءاً من مشاريعها في إنشاء مبانٍ وحدائق وجعلتها ضمن مشروع متكامل لتطوير وسط الهفوف. مثل مشاريع الأسواق الشعبية التي اندثرت نحن نعمل ضمن حوالي 12 مشروعاً مع البلديات الآن لاستعادتها، وهي علاقة نعتز بها، كما أن هنالك بيننا وبين البلديات اتفاقية شراكة تضم حوالي 52 مشروعاً رئيسياً أو أكثر عدا المشاريع الفرعية.
أنهي موضوع التراث العمراني بإبلاغكم أن المملكة سوف تحتضن في 18 إبريل القادم إن شاء الله أول مؤتمر للتراث العمراني في العالم الإسلامي، وكلكم مدعوون، وأخبركم بأنني عندما رفعت هذه الفكرة أو هذا المقترح لمقام خادم الحرمين الشريفين استجاب له بسرعة وحماسة لم أعهدها منه تجاه أي موضوع آخر، لذلك لم يكن المؤتمر مؤتمر خطب رنانة، ولم يكن مؤتمر أوراق علمية أكاديمية بحتة.. المؤتمر تنظمه مجموعة من الجهات من ضمنها "أرسيكا" أي منظمة المؤتمر الإسلامي، وعدد من الوزارات من بينها وزارة البلديات، والجامعات، لكن المؤتمر سوف يكون مؤتمراً حياً يمس الجمهور في مواقعهم، وسوف تشارك فيه المدارس وتخصص له يوماً كاملاً اسمه يوم "التراث" اتفقنا عليه الآن، تتخلله زيارة طلبة المدارس للمواقع التراثية التي سوف يعاصرونها ويبنون فيها، إضافة إلى مسابقات متكاملة للمدارس، وحصص تراثية، وسوف تعقد الجامعات يوم التراث الوطني في الجامعات الرئيسية في المملكة، وسوف ينطلق عشرات الخبراء الدوليين في أنحاء المملكة ليحاضروا، وسوف تحتضن البلديات مجموعة تضم حوالي ثلاثين رجلاً من رؤساء البلديات المميزة على مستوى العالم، التي أحدثت نقلات في المواقع التراثية وحولتها إلى موارد اقتصادية، عن طريق "ورشات عمل" وحلقات مشابهة، ثم اقترح الأمير نايف عندما علم برؤساء البلديات وزياراتهم أن يذهب محافظو القرى والمدن لأن المحافظ هو جزء هام من معادلة التنمية المحلية إلى اليوم نحن بعثنا بما لا يقل عن ثلاثمئة رئيس بلدية ومحافظ في المملكة.. أحد المحافظين يقول لي: أنا ورئيس البلدية لا نتقابل أحياناً إلا في الاجتماعات الرسمية، ثم أراني بعض الصور التي تظهره ورئيس البلدية يتمشيان وحدهما في إحدى هذه القرى في تونس في آخر رحلة وهما يتحدثان عن كيفية إنجاز بعض المشاريع لدى عودتهما. إن التحول الذي حصل ليس وليد قرار رسمي، أو قرار ميزانية، بل هو تحول ذهني، فكري، عميق جداً.. باعتقادنا أنه هو الذي سوف ينتقل بنا إلى الوجه الآخر. الدكتور علي جزاه الله خيراً هو أكثر الناس تعاوناً معنا اليوم في ما يتعلق بمكة المكرمة. عندما انطلقت عمليات التوسعة الأخيرة -تذكرون- كلمت الدكتور والأمير خالد بأن لا يجب أن تمر هذه المرحلة وتذهب الآثار التي معها.. وكان هذا حقيقة باقتراح ومبادرة سريعة من الدكتور علي، فكلمت سمو الأمير خالد وكلمت رئيس البلدية الأمين وانطلقت جيوش المتطوعين كان على رأسهم الدكتور الحارثي رحمه الله، الذي أذكره بكل الخير لما عمله لمكة المكرمة وتاريخها وحضارتها، وأتمنى أن يزودني أولاده أو المحبين له بما يحتاج النشر من كتبه، وأنا أتعهد اليوم أن أنشرها بالكامل لأنها حقيقة تمثل عملاً وطنياً يستحق التقدير والإشادة. إذاً بدأت هذه الفِرَقْ من الجنود المجهولين ومنهم الدكتور الحارثي العمل، وقد شاهدت صورهم بأم عيني وهم يدخلون المواقع والحراثات والتراكتورات تشتغل فوق رؤوسهم ومعهم الدفاع المدني، فكانت مخاطرة بالفعل، وتمكنا من استخراج حوالي 60.000 كسرة فخار ومئات القطع من المواد المتكاملة والأبواب والرواشين إلى آخره، وسوف يرسل جزء مهم منها إن شاء الله إلى متحف مكة وغيره من متاحف المملكة.
لقد انطلقنا أيضاً في عملية استعادة القطع، وبتوجيه قوي وصارم من الدولة شُكلت لهذه الغاية لجنة وطنية ترأسها الهيئة، وتعمل بشكل وثيق مع وزارة الداخلية، وأقول حقيقة إن تعاوننا مع وزارة الداخلية هو تعاون نموذجي.. اسمحوا لي إذا ما سكت عن شيء فالأفضل لي أن أسكت لكن الحق أقوله دائماً. في مجال الأمن السياحي، أسسنا مع وزارة الداخلية برامج لتبادل المعلومات الإلكترونية لم تؤسس من قبل في أي مجال آخر، وبتوجيهات من سمو سيدنا الأمير نايف كان تعاملنا في المجال الأمني كما ترون هادئاً ومنضبطاً وفي الوقت نفسه واسعاً جداً يتم كل يوم بكل هدوء، ونحن الآن نعمل مع وزارة الداخلية على عدد من القضايا، كقضايا المباحث التي تتابع السرقات ونصب الكمائن والقبض على السارقين، وهناك قضايا نتابعها خارج المملكة عبر الإنتربول، ونحن الآن بصدد إقامة معرض إن شاء الله يعتبر الأول في تاريخ المملكة للآثار المستعادة من خارج المملكة. إن قضية استعادة الآثار الوطنية أصبحت اليوم قضية رسمية ووطنية، ولا يمكن أن ننظر لدول متقدمة في هذا الجانب، ونستفيد أيضاً من تجربة بعضها كمصر إلا عندما نقود نحن هذه التجارب الدولية، لذلك فإن هناك أكثر من عشرة آلاف قطعة قد تمت استعادتها وأنا أتوقع استعادة قطع أكثر، وسوف ينشر عن ذلك إن شاء الله عندما يقام المعرض عام 2010م.
نحن نهيب بالمواطن أن يغار هو أيضاً على بلده الأول، فلقد اكتشفت أن تقييم المواطنين خاطىء لموضوع الآثار؛ إذ يقول أحدهم لي مثلاً أنا والله بُلّغت أن القطعة الأثرية التي أجدها حلال عليّ، سواء كانت ذهباً أو أي شيء آخر. أو يقول لي مواطن مخلص مثلاً: لقد وجدت قطعة أثرية فأخرجتها من موقعها وها أنا أحضرها لكم. نحن لا نريد من المواطن أن يخرج القطعة من موقعها لأنها تفقد المضمون، نريد أن يبلّغ عنها ويحرسها.. نريد من المواطن أن يعرف أن هذا الإرث الحضاري الكبير لا يملكه كل واحد منا، وإلا لكنت اليوم من أغنى رجال العالم، ولكانت "الأرابيان بيزنس" (Arabian business) كتبت اسمي على رأس قائمة أغنياء العالم في المملكة.
إن المواطن أو الإنسان لا يملك هذه الآثار، بل هي ملك للوطن، وعندما يعرف أحدكم بآثار معروضة وهي مسروقة فلا بد له من الإبلاغ عنها.
لقد انطلقت الهيئة الآن في ترخيص المتاحف وهنالك حوالي 70-80 متحفاً في أنحاء المملكة -أعتقد أن الشيخ عبد المقصود عنده ما يكفي من القطع لأن يؤسس متحفاً هنا..- إذاً انطلق ترخيص المتاحف وسيبدأ إن شاء الله الآن برنامج الدعم المالي للمتاحف الخاصة عن طريق البنوك الخمسة أو الستة التي نتعامل معها والتي تدعمنا في ذلك، وهي: صندوق المئوية، البنك الأهلي، بنك التسليف، برنامج عبد اللطيف جميل وبرامج أخرى.. بدأنا الآن برامج التدريب لإدارة المتاحف، وبرامج التدريب لإدارة مواقع التراث.. طبعاً تأسست كلية الآثار والمتاحف في السياحة والآثار جامعة الملك سعود في الكلية الأصلية، الآن أسست قسم الآثار في جامعة حائل وعدداً من الأقسام في أنحاء المملكة، وبدأنا ندرب الشباب على إدارة المواقع التراثية والمواقع الأثرية، إذ لا يكفي أن تكون لدينا مواقع نرممها بل نريد أن نشغلها.. نريد أن نحركها، نريد للمواطن السعودي أن يديرها وأن يستفيد من الفرص فيها.
الجانب الأخير.. نحن لدينا اليوم حوالي 14 مدينة تقريباً، ونتفاوض الآن على العدد، ونحن نعمل مع 14 فريقاً دولياً في مواقع الآثار (الحفريات) والناس تستغرب لماذا بدأنا بهذا الشكل وفي هذا الوقت؟ لسببين:
الأول: أننا لدينا اليوم علماء وخبراء من المواطنين نثق فيهم ليعملوا في آثارنا، إذ لا يعقل أن نأتي بفرق دولية كي تفتح لنا المواقع ثم نتركها تعمل كما يحلو لها ونطلب منها أن تعلمنا عندما تنتهي. اليوم كل موقع فيه ما لا يقل عن ثلاثين أو أربعين مواطناً من مستوى الدكتوراه إلى مستوى عامل الحفر وطلبة الجامعات. نعمل اليوم مع دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا واسكتلندا وفرنسا في عدد من المواقع، حيث نُخرج من هذه الحفريات قطعاً أثرية هي حقيقةً في أقصى درجات الأهمية وليست فقط بالغة الأهمية، وسننشر عنها لاحقاً إن شاء الله.
ثانياً: إن الفرق التي تعمل في هذه المواقع لا تعمل وفق الأسلوب القديم، أي تفتح موقعاً ثم تتركه وتقفله.. حتى العقد الذي نوقعه معها، فمثلاً نحن نتعاقد اليوم مع جامعة الملك سعود بشروط تشابه شروط العقد الذي وقّع مع الفريق الألماني في تيماء.. الموقع يجب أن يظل محترماً، يجب أن ينشر عنه، يجب أن يكون له موقع على شبكة الإنترنت.. يجب تهيئته للزوار.. وهَلُمَّ جرّا، لذلك نحن نعمل بأسلوب جديد ولدينا عشرات الطلبات، لكننا نريد أن نكون حضاريين ودقيقين في هذه القضية، لذلك ترون أيها الإخوة والأخوات أننا نعمل على عدد من المسارات وقد أكون نسيت كثيراً منها، لكن هذه المسارات المتزامنة تتطلب وقتاً.
عندما استلمنا قطاع الآثار والمتاحف بقي هذا القطاع مدة ثلاث سنوات من دون جهة مسؤولة لسبب ما. فلقد وقعت اتفاقية بين التربية والتعليم والهيئة بالاستلام وانتهينا من كل التفاصيل، ولست أدري ما الذي حصل لاحقاً ليبقى القطاع طيلة ثلاث سنوات تقريباً من دون مسؤولية مباشرة، ولقد أحدث هذا الأمر من دون شك تأثيراً عميقاً جداً على قدرات هذا القطاع، لأن الأفراد في القطاع لم تكن لديهم ميزانيات وإذا ما وجدت فهي غير مخصصة للتدريب والتحديث. نحن الآن أيضاً نقوم بعملية تحديث كامل وعميق لمنسوبي الآثار والمتاحف، في مجالات الآي تي.. في مجال تبادل المعلومات، في مجالات الإدارة حيث هيئة السياحة منضبطة فيها، في مجالات استخدامات التقنية لتمرير المعاملات اليومية والـ "Work flow"، تعرفون أن الهيئة -وبكل اعتزاز- قد صنفت كأول مؤسسة في العالم العربي عام 2008 في من حيث التعاملات الحكومية الإلكترونية، وهذا لم يكن من اختراعي أنا بل بتوجيه من الدولة التي أرادت أن نكون متقدمين جداً في مجال الآي تي وقد فعلنا هذا بأقل التكاليف.
اليوم نحن أيضاً نقوم على رصد معلومات إلكترونية (Data base) كاملة لكل الآثار الوطنية، وعندنا مشروع وطني متكامل الآن بالمسح الوطني للطبقات الأخرى من الآثار.
هناك عدد من العناصر أود أن أذكرها في عجالة كي أترك المجال للأسئلة. نحن قدمنا للدولة قبل حوالي أربع سنوات خطة متكاملة لتطوير الحرف والصناعات اليدوية في المملكة كقطاع اقتصادي مستقل، والآن علمت أنها بلغت خواتيمها في مجلس الشورى. إن هذه الخطة مهمة جداً لإحياء المواقع التراثية، فالناس تستفيد منها كما أسر كثيرة، لكن عندما ذهبنا بمجموعة من الوزارات في استطلاع التجارب الدولية في تركيا وتونس والمغرب قبل عدة سنوات، عاد موظفو هذه الوزارات الذين كانوا منهكين ولا يريدون هكذا رحلات، عادوا بفكر جديد منذ الاجتماع الأول الذي عقد بحضوري، إذ إني عشت مع كل فريق يعمل مع الهيئة مهما كان مستواه الإداري، ووجدوا أن قضية الحرف أصبحت صناعة اقتصادية متكاملة تدخل فيها بنوك المصدرين.. شركات التصدير.. شركات التجميع.. المواد الأولية.. والحرفيون جزء بسيط جداً من هذه العملية، فنأمل انطلاق هذا المشروع الوطني وتمويله هذا العام لأنه قد تأخر كثيراً، والبرنامج اسمه برنامج "بارع"، طبعاً الهيئة عملت كثيراً للتدريب في المواقع.. إذ هناك حوالي ألفي متدرب في أكثر من خمسمئة وخمسة وأربعين موقع تدريب، وقد أنشأنا ثمانية مواقع للحرفيين بالتعاون مع البلديات وهذه كلها بالبركة أي من دون ميزانية محددة حقيقةً.
أود أن أعرج على قصة حقيقية وقريبة لنفسي.. تتعلق بمؤسسة التراث. إن مؤسسة التراث معروفة لديكم ولها موقع على شبكة الإنترنت، وهي تقوم ببرامج كبيرة جداً، وأنا أعتز بها وسوف تشهد هذا العام نقلات جديدة إن شاء الله. فهذه المؤسسة الخيرية التي تقدم جوائز للطلبة كل سنة، سوف تقدم هذا العام ولأول مرة جوائز عالمية كل سنتين إضافة إلى الجوائز المحلية، وهذا الشهر سوف تكون في الهفوف إن شاء الله بعد أن كانت في جدة في الدورة الماضية، حيث نشرت العشرات من الكتب المهمة كان آخرها كتاب نعتز به للدكتور الأنصاري عن "حضارة تاريخ المملكة العربية السعودية"، وتقوم المؤسسة اليوم بتوقيع اتفاقيات لبرامج تعاونية كبيرة جداً مع مؤسسة الأمير تشارلز ومؤسسات أخرى مهمة على مستوى العالم العربي.. إني اليوم لا أمثل الهيئة للسياحة والآثار بل أمثلكم جميعاً، أنا أرى وجوهاً كثيرة من الناس الذين عملت معهم ومنهم الشيخ عبد المقصود. اليوم نحن كمواطنين نصبّ جل همنا واهتمامنا في قضية التراث الوطني والآثار، وتطوير المتاحف وتطوير منظورنا الوطني لهذا العنصر الهام من حضارتنا، وإن إبراز هذا البعد الأصيل من أبعاد تكوين بلادنا وتكويننا نحن كأمة هو حقيقةً مسؤوليتنا جميعاً.
لذلك أشكر هذا الصديق العزيز الذي تربطني به ذكريات كثيرة وجميلة جداً بعضها يقال في أماكن مفتوحة وبعضها لا يقال في أماكن مفتوحة لكنها حقيقةً من أجمل ذكريات العمر، واليوم في نهاية الأمر الإنسان مهما كان هو مجموعة ذكريات، لذلك فإن هذا اللقاء سوف يبقى في ذهني كما ذكر الأخ الأكبر عبد المقصود في كل اللقاءات السابقة أيضاً نقطة تحول وذاكرة. أنا اليوم أستغل هذه الفرصة لأني أعرض أمامكم ما لم يعرض من قبل، فإذا لم يُعرض هذا الأمر في هذا المحفل فمتى يعرض، في مقابلة تلفزيونية؟ في خطاب؟ في كلمة رسمية؟ طرحت اليوم أمامكم عدة قضايا بشكل موسع، وإني متأكد من أنني نسيت قضايا أخرى كثيرة بالأهمية نفسها لكني أحثكم على الاطلاع على موقع مؤسسة التراث على الإنترنت الذي ذكرته قبل قليل وفيه مشروع المساجد التاريخية بالتعامل مع وزارة الشؤون الإسلامية، حيث تقوم مؤسسة التراث اليوم بالعمل على حوالي مئتي مسجد تبرع لها أهل الخير، فمن يريد اليوم منكم أن يقدم تبرعاً لترميم أحد المساجد التاريخية التي قررت وزارة الشؤون الإسلامية ترميمه فأنا مستعد لتقبل هذا التبرع. سيدي خادم الحرمين الشريفين حفظه الله هو أول الناس الذين يقدمون الآن للمساجد.. أحد مساجد جدة التاريخية التي يتم الآن إن شاء الله إنجاز دراسات مؤسسة التراث وسمو سيدي ولي العهد حفظه الله قدم تبرعاً سخياً وتأسس البرنامج على تبرع سخي منه حفظه الله، إضافة إلى كثيرين من الخيرين أمثالكم. هذه إحدى البرامج القريبة إلى قلبي وأعتز بها بشكل كبير، وسوف تعلن مؤسسة التراث قريباً برنامجاً يتعلق بالمساجد في العالم الإسلامي.. يُعلن عنه في حينه.
أنا تشرفت أيضاً بتأسيس عدد من الكراسي منها كرسي التراث العمراني بجامعة الملك سعود بالتعاون مع مؤسسة التراث، وسوف ترون إن شاء الله الكثير من هذا الكرسي الذي يعتز بإدارة أحد الزملاء له، لذلك فإن كل شيء نقوم به اليوم له قصة وله تاريخ وله منعطفات، وكلكم في أعمالكم تعرفون الأمور التي تستحق أن يجاهد الإنسان من أجلها والأمور التي لا تستحق حتى الوقت، وخاصة بعد مرور السنين.. أنا مولود سنة 56 ميلادية لكن والحمد لله لا زلت أمارس الرياضة بشكل ربما زائد عن اللزوم الساعة سبعة الصبح.. ولا زلت أتسلق الجبال والطائرات، يمكن لا زلت أمارس كل هواياتي لكن في الوقت نفسه أتابع القضايا الحارة هذه التي يُعتقد بأنها تتعب الإنسان، وهذا صحيح نتائجها لها فعل الدواء.
أخيراً أقول، إذا ما أردت أن تجد ما يسمونه "ينبوع الحياة".. ينبوع الصحة.. وسر التجدد في الحياة، عليك أن تقوم بالأعمال التي ترضي الله سبحانه وتعالى قبل كل شيء، وتفيد الناس، ولو بذلت فيها مجهوداً، أو حرقة قلب أحياناً، أو مرت عليك ليالٍ لم تنم فيها، فإنك عندما ترى نتيجتها سيزول تعبك وتتبدد آلامك. ونحن كلنا وإياكم نرى الخير إن شاء الله في هذا العصر المبارك في ظل هذه الدولة المباركة، وفي هذا الحماس من هذا القائد العظيم وولي عهده الأمين المخلص لما نراه منهم من تجدد الشباب. فالملك بفضل الله وسمو ولي العهد حفظهما الله ترونهما كل يوم في التلفزيون وهما في شباب متجدد، فمن ينظر في عملهما يتعب ويقول كيف يستطيعان مراجعة هذه الأعمال؟ كيف يستطيعان اتخاذ هذه القرارات؟ نحن كلنا نأمل أن نجدد شبابنا من خلال أن تكون أعمالنا مباركة من الله سبحانه وتعالى، وتكون النية فيها مخلصة فتعمّ في نهاية الأمر المصلحة والفائدة علينا جميعاً كمواطنين وكأبناء وطن واحد...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :665  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج