شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المفاوضات البريطانية
ما كانت إنكلترا غافلة عما يجري في محيط الإمبراطورية العثمانية.. لقد كانت على عادتها حريصة على تتبع جميع الأحداث وكان يهمها بعد أن رفضت علاقة الألمان بالاتحاديين في تركيا أن تتصيد الأسرار وأن تستفيد لموقفها ضد هذا التحالف قبل أن تتلبد غيوم الحرب.
فما يمنعها أن تغازل الحسين وتتقرب إلى أحاسيسه -وهو الرجل الطماح- بسائر المغريات؟؟ ما يمنع اللورد كتشنر معتمد بريطانيا في مصر أن يغتنم فرصة مرور الأمير عبد الله بن الحسين -ملك الأردن فيما بعد- بمصر في إحدى رحلاته إلى الآستانة في عام 1341هـ ليتعرّف إليه ويصافحه كصديق ويقدر فيه باسم بريطانيا العظمى عنايته بحجاج الهند.
لقد كان لقاءاً مهَّد للتعارف ثم تبعه لقاء آخر مهد للصداقة وكشف للأمير الشاب مبلغ عطف البريطانيين على أماني العرب!! ولا أشك أن مثل هذه المجالس تنقل بحذافيرها وتعليقات الأمير الشاب عليها وما يتسع لتعليقاته من أحلام إلى صاحب الرأي في مكة على أمل أن تدغدغ عواطفه.
ولكن الحسين يعرف أنها بلد الخليفة وأن خلافه مع الاتحاديين في الآستانة لا يبرر له الخيانة وأن يصافح غير المسلمين وهو الرجل الذي عاش يباهي بتمسكه بأخلاق المحافظين.
وهي إلى جانب ذلك مغامرة من الصعب أن يقدر مصيره فيها إذا فشلت ومع هذا فقد تدغدغت عواطفه وهيأ تصلب الاتحاديين الجو للأمير عبد الله ليشجعه على المغامرة وبدأت رسل بريطانيا تفتح أبواب الأمل على سعتها لتظفر لنفسها بما يقلق راحة خصومها في برلين وتركيا.
في هذه الأثناء كان فيصل قد نقل إليه تفويض الجمعيات السرية في دمشق كما أسلفنا كما أن جمعيات عربية سرية في مصر وأوروبا أرسلت تؤيده كما أن بعض مندوبي المفاوض البريطاني بدأوا يتوافدون على مكة في ثياب حجاج ليؤكدوا للحسين استعداد الحكومة البريطانية لمساعدة العرب كرد على خرق الأتراك تقاليد الصداقة العثمانية الإنكليزية (1) .
وكانت أوامر العثمانيين قد صدرت إلى الحسين بتجنيد القبائل الحجازية للمساعدة فأظهر الموافقة وكتب في الوقت نفسه إلى المندوب السامي في مصر بالشروط التي وضعها للتحالف مع بريطانيا وكانت في الحق شروطاً رحبة واسعة شملت استقلال العرب في جميع ما يعرف الآن بسوريا والأردن وفلسطين والعراق وجميع الجزيرة العربية باستثناء عدن التي كان البريطانيون يهيمنون عليها وهو يعني بالاستقلال طبعاً الحرية تحت ظل السيادة الهاشمية.
لقد كان الإنكليز يعلمون أنه ليس من حقهم أن يوافقوا على طلبات الحسين وهم مرتبطون بعدة التزامات فهم مرتبطون في جزيرة العرب بممالك ومقاطعات كانوا يعترفون باستقلالها وهم إلى جانب ذلك مرتبطون بحليفتهم فرنسا وقد شرعت المفاوضات بينهما تنظر إلى سوريا والعراق وفلسطين كتركة يجب أن يتوزعوها بينهم إذا نجحت الحرب (2) .
كما أنهم مرتبطون في الوقت نفسه لوزير خارجية بريطانيا بلفور بوعد يبيح لليهود أن يتخذوا من فلسطين وطناً قومياً لهم (3) .
كانوا يعلمون هذا وفي ذلك أوضح برهان على ما بيتوه من غدر ليس للحسين وحده ولكن لسائر الأماني في سائر بلاد العرب.
لقد بدا لهم ونار الحرب تستعر أنهم لا يستطيعون الاستغناء عن الحسين كحليف، فشخصيته الروحية وبلاده المقدسة ومركزه بين العائلات العربية خير معوان لهم على دحض الدعاية العثمانية التي باتت تستفز المسلمين باسم الجهاد المقدس (4) .
إذن فما يمنعها لتكسب الفرصة أن تراوغ وأن تبيت الغدر وأن تترك أسلوبها يتسع لشتى المفاهيم والاحتمالات. والحسين نفسه لم يكن يومها في مركز يبيح له الرفض البات فقد انكشف أكثر أمره للعثمانيين ورأى نفسه رغم عناده وشدة حيطته مسوقاً إلى نسيان الحيطة.. وإذا كان أكثر المعلقين يرون الحسين مغشوشاً بثقته في البريطانيين الثقة التي أضلته عن أخذ الحذر الكافي فإني لا أرى رأيهم. فالحسين في رأيي وإن بدا في أول علاقته بالبريطانيين شديد البأس فإنه ما لبث أن شعر أنه في أشد الحاجة إلى ترك بعض الأمور أو أهمها إلى تسويات المستقبل وأن رغبته في الوصول إلى اتفاق دفعته إلى أن يستعجل أكثر الأمور قبل أن يقع في فخ العثمانيين الذين كشفوه.
لقد كتبوا إليه أكثر من مرة فلم يجرؤ على مجاراتهم ولكنه عندما شعر بدقة الموقف وجد نفسه يكتب إليهم ويعرض مطالبه الواسعة في تفصيلات طويلة وقد ظلت المكاتبات جارية بينهما نحو عشرة أشهر بدأت في 28 رمضان عام 33 وانتهت في جمادى الأولى عام 34 وجاء في آخر خطاب ألقاه ((إن حكومة جلالة ملك بريطانيا وافقت على جميع مطالبكم)) (5) وهي موافقة إذا روعي فيها روح الفكرة المبثوثة بمعانيها الدقيقة أو شبه الدقيقة.
ويبدو هذا واضحاً إذا علمنا أن الفرقاء المعنيين لم تسلمهم المكاتبات في نهايتها إلى توقيع وثيقة أو معاهدة وأن أسلوب الجانب البريطاني في خطاباته كان يتسم بطابع الغموض ويتسع لكثير من ألوان التحفظات ولا غرابة إذا رأى القانونيون عدم صلاحية جميع ما جاء في الخطابات للعرض أمام أي محكمة على وجه الأرض (6) .
ومع هذا فقد كانت محاولات استطاع الفريقان أن ينفذا منها إلى أغراضهما. فقد استخدمها البريطانيون لحملة دعائية صادرة من مكة ضد نداءات الأتراك باسم الإسلام ودعوة صارخة هزّت أحاسيس العرب الهواشم من ذؤابة قريش.
كما استطاع الحسين أن يتحصن بها ضد الأتراك الذين كانوا يتحسسون عصيانه ويستاؤون من تدخله في أعمال جمال في سوريا ودسّ أنفه في كثير من تصرفاته السياسية ومماطلته في تجنيد من طلبوا إليه تجنيدهم من الحجاز بسد بعض الثغرات وبالجملة فلا مفر له من استعجال الأمر بعد أن تبين له أنهم باتوا يرتابون في إخلاصه لهم ويعدون العدة للتخلص منه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :626  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 220 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.