الناحية السياسية |
عادت مكة إلى تبعيتها للعثمانيين مرة أخرى على أثر ترحيل جيوش خديوي مصر محمد علي باشا منها بعد الاتفاق الذي أشرنا إليه في نهاية الفصل الخاص بعهد محمد علي باشا. |
وظل الأشراف على شأنهم يتولون إمارتها إلى جانب قائد العسكر التركي الذي كانوا يسمونه في عهد عثمانيا السابق صنجق جدة وشيخ الحرم مع اختلاف بسيط في اللقب فقد سموه في هذا العهد والي جدة ثم ما لبثوا أن نقلوا مقره إلى مكة ولقبوه باسم الوالي إشارة إلى ولايته على الحجاز بأسره. |
وفي هذا العهد كان اختصاصه قد توسع فأشرف على شؤون الأموال و ((الجندرمة)) المختصة بأمن المدن والعسكرية التي تمثلها الفرق المرابطة من الأتراك بين مكة والطائف وجدة. |
وكان أمراء مكة من الأشراف يتمتعون بواردات بلادهم كما تقدم بنا في أوائل العهد العثماني الأول عدا ما يصلهم من منح الخلفاء ثم ما لبث الأتراك أن منعوا أيديهم عن ذلك ولم يبيحوهم إلاّ قسطاً محدوداً منه. أما في هذا العهد فقد أضافوا عموم الواردات إلى قيود الخزينة العامة في الدولة العثمانية ثم رتبوا لأمراء البلاد رواتب يتقاضونها بموجب ((الكادر)) العام للدولة إلاّ أن بعض الأمراء كانوا يخترعون لهم مصادر يستوردون منها بعض الأموال كتخريج الجمال وأتاوات أخرى يتقاضونها من بعض رؤساء الطوائف العاملة في طوافة الحجاج أو حلقات بيع المنتجات الزراعية فكان الأتراك لا يعارضون فيها إلاّ نادراً وفي ظروف يشعرون فيها بضعف الحاكمين من الأشراف وقياساً على هذا كان نفوذ الأتراك يضيق مداه ويتسع بنسبة قوة الحكم من الأشراف أو ضعفه. |
ولسنا ندعي ونحن في صدد واردات الحجاز أن الأموال التي كانت تجبيها خزانة العثمانيين يصح أن يقال إنها تغطي نفقاتها أو تعود بربح فائض لخزانة الدولة بل كان الأمر بالعكس تماماً فقد كانت الدولة تنفق على مرتبات الأمراء وذويهم من الأشراف ورؤساء القبائل وكبار العلماء وأعيان البلاد والموظفين ما يزيد مجموعه عن مجموع الواردات أضعافاً
(1)
ولكن العثمانيين كانوا مع هذا هم الرابحون بفرض سيادتهم على ولاية الحجاز ورجوعهم بفخر خدمة الحرمين الشريفين واستئثارهم بالسلطة فيها. |
ويبدو أنهم كانوا يشعرون بكثير من الصعوبة في إخضاع هذا القطر خضوع غيره من الولايات لبعد المسافة بينهم وبينه ولاعتداد بعض أشرافه بأنفسهم واعتمادهم على عصبياتهم، ولفوضى قبائله التي تنتشر بين وديان سحيقة وجبال منيعة وأسواق قاسية لا يحتملها جلد الجندي العثماني لهذا كانوا يقنعون منه بما وجدوا من الطاعة وكانوا يدعمون هذه الطاعة بأموالهم وما ينفقون فيه أكثر مما يدعمونها بقوة السلاح فكانت مرتباتهم من غلال القمح تصل إلى كل بيت في الحرمين وكانت معاشاتهم مبذولة تضم كثيراً من طبقات الأمة وكان ذوات البلاد وأشرافها يجدون من المناصب العالية في بلاد العثمانيين ما يقصر عنها غيرهم وقد ترك ذلك أثره في مقدرات البلاد على مر السنين وشعر الناس في الحرمين أنهم باتوا يعيشون في كنف آل عثمان ويجدون من برهم ما يغنيهم عن العمل الجاد في سبيل الحياة فاستكانوا لهذا الظل الوارف وتوطنت نفوسهم على احترام العلاقة التي تربطهم بآل عثمان والرضا بتبعيتهم للدولة وباتوا في أكثر المدن لا يهتمون إلاّ بتلقين أولادهم حب السلاطين من آل عثمان والدعاء لهم بالعز والتمكين كما بات رجال القبائل في البادية لا يأبهون إلاّ باستيفاء حقوقهم في العوائد المقررة لهم من الدولة حتى أصبحوا لا يبالغون بخروجهم عليها وقطع السبيل على رعاياها كلما انقطعت عنهم المرتبات أو أفلسوا. |
واستطاع العثمانيون بفضل أموالهم وبالرغم من تذمر بعض القبائل التي كانت تتذكر كلما أحوجها المال أن يدعموا نفوذهم في البلاد أشد مما كان عليه أمرهم في عهدهم الأول لأننا نجد ثورات الأشراف قلت عن سابقاتها في عهد أجدادهم كما نجد أنهم أصبحوا يطيعون أوامر الدولة ويتحاشون غضبها أكثر مما كان أجدادهم يفعلون فقد كنا نجد أجدادهم في عهد العثمانيين الأول ينصبون الأمير بعد الأمير ثم يطلبون تأييده من الدولة وقلما كان صنجق جدة التركي يستطيع أن يعرض كلمته أما في هذا العهد فقد تغير الأمر وأصبح صنجق جدة الذي انتقل إلى مكة بلقب ((الوالي)) يستطيع أن يستقل بمقدرات الإمارة ويتصرف في تنصيب الأمير بعد الأمير ثم يكتب عن رأيه إلى العثمانيين ليتلقى تعليماتهم وأوامرهم. |
وكانت القضايا الإدارية للبلاد من اختصاص أمرائها الأشراف في العهد العثماني الأول فاقتضى تنظيم العثمانيين في هذا العهد أن يؤسس لها في كل مدينة بالحجاز مجلس خاص للفصل فيها وكان يتكوّن من بعض الحجازيين والأتراك كما أسس مجلس آخر للتمييز وذلك في سنة 1286 وبذلك خفت هيمنة الأشراف على إدارة البلاد واستطاع العثمانيون أن يبسطوا نفوذهم كاملاً. |
وكان الأشراف من أمراء مكة يوقعون عقوباتهم بالسجن أو النفي أو القتل في عهد العثمانيين الأول دون أن يستأذنوا الخليفة فيما يفعلون أما في هذا العهد فقد اقتصر نفوذهم على حكم البلاد باسم العثمانيين وكفت أيديهم عن العقوبات الشديدة إلاّ بأمر الخليفة أو قرار يقرره مجلس القضايا ويوافق عليه الخليفة. |
ولم تتغير هذه العلاقة على أثر إعلان الدستور في البلاد العثمانية بل ظلت البلاد مربوطة بعجلة الحكومة العثمانية الدستورية الجديدة وظل الحكم فيها على سابق عهده تابعاً للعثمانيين لم يتغير في أحكامه شيء إلاّ ما اقتضاه نص الدستور من تمثيل البلاد التابعة لعثمانيا في مجلس (المبعوثان) الذي يشرف على إدارة الولايات فقد قرر الدستوريون انتخاب من يمثل الحجاز في ذلك المجلس. |
ولما وصلت الأوامر في عام 1326 لم يجر الانتخاب الذي يقرره الدستور لأن مبادئ العظامية كانت لا تزال عالقة في أذهان الحاكمين فاختار الشريف علي بن محمد الشيخ عبد الله سراج المفتي الذي استقال قبل أن يصل إلى الآستانة كما ذكرنا في عام 1327 جدد الحسين الانتخاب فندب ابنه عبد الله ((ملك الأردن فيما بعد)) وحسن بن عبد القادر الشيبي فسافرا إلى الآستانة وأدركا الجلسة الثالثة في مجلس المبعوثان. |
|