الخزناوية |
فرقة اتخذها الشريف عون كحرس خاص لخدمته والاستعانة بهم على تنفيذ أوامره فكانوا يتسلطون على الأهالي ويستغلون نفوذهم في اضطهاد من يضطهدونه أو يطمعون في أمواله فكان لا يجرؤ أحد على الشكوى منهم. |
ويعلق بعض المنتقدين بمرارة على أعمال ((الخزناوية)) ويقول إنه كان يختارهم من طبقات العامة ويجيز لهم من النفوذ ما يستطيعون به إذلال الخاصة نكاية لهم. |
ومما يحفظه معاصرو الشريف عون من القصص التي تدل على غرابة أطواره أنه كان يأمر بهدم بعض قباب القبور بحجة أن أصحابها لا يستحقون التقديس ويعفو عن بعضها بدعوى أحقية ذلك
(1)
. |
ويذكرون أنه عمد إلى رجل من المجاذيب يسمونه ((علي بو)) كان يذرع الشوارع بجسمه العاري فجعله من جلسائه بعد أن أمر بتنظيفه وتعليمه ارتداء الأثواب الفخمة التي تؤهله لصدور المجالس. |
قالوا إنه اتخذ هذا المجذوب أنيساً وأمر علية القوم وعظماءهم بتقبيل يده وأحله مكان الصدارة منهم وكان إذا خرج في موكبه جعل المجذوب عن يمينه في عربته الخاصة وإذا ركب المجذوب عربته الخاصة أمر الناس بالوقوف له لتأدية التحية على نحو ما يفعلون لدى مرور الموكب الأميري. |
وأراد أن يشيد للمجذوب قصراً فخماً فابتاع له بعض الدور القريبة من المسجد في القشاشية وهي من أهم شوارع البلدة وأجبر أصحابها على الإخلاء ثم هدمها وبنى القصر مكانها وقد هدم القصر أخيراً بمناسبة توسعة المسجد الحرام. |
وعمد إلى قطعة إمام القصر مكتظة بالبيوت فحكم على أصحابها بإخلائها ونقدهم ثمنها ثم أمر بهدمها ليجعل منها حديقة يمتع المجذوب بصره فيها ويبالغ بعضهم فيقول إن عوناً أراد أن يتوسع في الهدم حتى ينتهي إلى الغزة ليجعل المسافة بين قصر الإمارة وقصر المجذوب خالية لا يعترضها عند النظرة فيها شيء بين القصرين وهي مسافة لا تقل عن 300 متر. |
ويقول بعضهم أن فكرة الهدم لأجل الحديقة أو غيرها لا أساس لصحتها وأن امتلاك تلك البيوت وهدمها كان الغرض منه تشييد نُزل للحجاج متسع الأطراف تنفيذاً لرغبة الخليفة عبد الحميد الذي أوصى بتشييد ذلك وبعث بالأموال اللازمة فتم الإخلاء والهدم. والواقع أن القطعة المذكورة من الأرض ظلت خيالية طوال أيام الشريف عون ثم أجرها ورثته بعده لبعض الناس الذين اتخذوا منها دكاكين وبيوتاً من الصفيح وقد ظلت كذلك إلى عهد الحكومة السعودية الحاضرة حيث ألزمت الورثة من آل عون بتخطيطها وبناء دكاكين وشوارع فيها، وقد دخل اليوم بعضها في مشروع توسعة المسجد. |
ويميل بعضهم إلى الاعتقاد بأن الشريف عوناً كان يعتقد الولاية والصلاح في ((علي بو)) وأنه كان قد تنبأ مرة بنبوءة عند عون فاعتقده، وكنت أعرف ((علي بو)) بعد عهد عون وقد عاد إلى الشوارع يذرعها كسابق عهده بها ولكنه لم يكن عارياً بل كان أهله يكسونه ما يكتسي به الناس عادة وحادثته مراراً فلم أجد في أحواله ما يلفت النظر، فقد كان جنونه عادياً وكان يميل إلى الانفراد وقلة الحديث وكان لا يرى إلاّ مطرقاً في هدوء وقد تبادره إلى الحديث فلا يجيبك إلاّ بعد إلحاح بلازمة اعتادها على الدوام في كلمة واحدة: ((هي مقضية.. مقضية.. مقضية إن شاء الله)). |
ويميل البعض إلى إمعان عون في الدهاء فسوّل له العمل على نكاية العظماء باتخاذ هذا المجنون جليساً له يقدمه عليهم ويأمرهم بتعظيمه وتقبيل يده. ويميل فريق آخر إلى التدليل لقصة (علي بو) على غرابة أطوار الشريف عون. |
وإنني أميل إلى الرأي الأخير وأعتقد أن ذلك في أوساط العظماء وقواد الأمم لا يخلو منه زمان شأنهم في ذلك شأن عامة الخلق لا فرق بينهم فيه إلاّ فيما كان من نوع الأثر الذي يتركونه في بيئتهم وما يحيط بهم. فالتجاوز عن المألوف عند العظماء يستعير فخامته من مراكزهم الممتازة ويترك أثره قوياً فيمن يحيط بهم وقد يجد من يشايعه ويتأوّل له ويضفي عليه من نعوت النوابغ والعباقرة وجبابرة العقول ما يحير الوصف كما يجد في الوقت نفسه من يمعن في نقده ومقته وينسج حوله آلاف القصص المثيرة للضحك والإشفاق زراية بأصحابه وانتقاماً منهم وقد ورثنا التاريخ في العالم آلاف القصص مما كان ينسج حول أصحاب الأطوار الغريبة من قادة الأمم بعضها يصورهم في صدق كما يبالغ بعضهم في تشويههم وكلها تجمع على أن الطبقات الممتازة في الحياة منيت بأصحاب التصرف الغريب كغيرها من مختلف الطبقات. |
وإذا كان أثر التجاوز في الطبقات الممتازة يستعير فخامته من مراكزهم فإنه في الطبقات المتوسطة وما تحتها يمضي -كما نشاهد- ضئيلاً دون أن يخلف بعده ما يدل عليه. |
ويغرب بعض مشايعي الشريف عون ممن حدثتهم في شأنه فيقول إن عقلية عون الجبارة هدته إلى أفضل طريقة تمكنه أن يتقي بها كيد عبد الحميد الذي كان يشك في جميع المستنيرين من عماله وموظفيه أن يصطنع هذه الأعمال ويجالس المجانين ليوهمه أنه أحد السذج الذين لا يعتد بهم -كما يغرب بعض من لاقيته فيقول إن عوناً كان ساذجاً بالفعل وأن تصرفاته في إدارة الحكم كانت تدل على سذاجة مطلقة. |
ويمكننا إذا أردنا أن لا ننكر عليه علمه وفهمه في الحياة أن نرد تصرفاته إلى مثل الذي اعترى قبله كثيراً من عظماء الأمم. |
|