سرور بن مساعد من ذوي زيد |
وبفرار أحمد دخل سرور إلى مكة ظافراً ونودي له فيها بالإمارة في يوم السبت 13 ذي القعدة عام 1186
(1)
. |
واستطاع سرور بما يملك من قوة الشكيمة أن يؤمن السبل فيضرب على أيدي العابثين وينصِّب نفسه عدواً لكل عابث فاستقر الأمر في البلاد أياماً ثم ما لبث أن عاد برد الفعل فإن كثيراً من القبائل كرهت حكمه فخرج عليه رؤوس هذيل ثم كبار حرب ثم فارقه جماعة من عظماء الأشراف فقاسى سرور من جراء عصيانهم أشد ما يمكن أن يقاسيه. |
ولم يتركه عمه أحمد ينعم بالهدوء فقد هاجمه بعد خروجه من مكة في قوة عظيمة فاشتبك القتال بينهما عند السلم في طريق منى فهزم العم وانطلق إلى البادية وذلك في 4 ذي الحجة عام 1186
(2)
. |
وقد تركت هذه الموقعة ذيولاً أحرجت مركز سرور لأن العسكر في مكة كانوا يستحقون لدى أحمد بن سعيد رواتب سبعة شهور فلم يكن من مصلحتهم إبعاده عن مكة ليخسروا ديونهم عنده لهذا ما لبثوا أن تألبوا ضد سرور في اليوم الثامن من ذي الحجة وأعلنوا أنهم لا يحجون في موكبه إلاّ إذا عوضهم ما يستحقون عند سلفه فاضطر سرور أن يعرض عليهم تسديدهم نصف الدين وتأجيل النصف الباقي إلى نهاية سفر الحجاج فرفضوا فتركهم وما تألبوا ومضى في موكب من عبيده إلى عرفات. |
وصبر العسكر حتى قضى الحج وسافر الحجاج فأرسل إلى أحمد أن يوافيهم في مكة ليناصروه وهم يؤملون أن يستوفوا حقوقهم بعد تنصيبه فجاءهم أحمد متخفياً ثم أصبح بينهم منادياً بالثورة في خلال مكة فاستنجد سرور بأمير الحج المصري فأنجده بفريق الخيالة إلاّ أن الخيالة لم تستطع الدفاع عنه لأن رصاص الثوار كان يصيبهم من خلف النوافذ في البيوت المطلة على الشوارع فاستغاث ببعض القبائل فأعانوه وانتزعوا له النصر فهزم أحمد وانطلق فاراً للمرة الثالثة إلى البادية. |
ثم ما لبث أحمد أن أعاد الكرَّة مرة رابعة وخامسة وسادسة والهزائم تلازمه كرَّة بعد أخرى إلى أن بلغ عدد كرَّاته خمس عشرة كرَّة لا يفصل بين الكرة والأخرى إلاّ شهر أو ثلاثة أشهر
(3)
. |
وكان في كرَّاته يستغل بعض القبائل المغاضبة لسياسة سرور القاسية وبعض كبار الأشراف المتذمرين ففي أكثر من مرة استعان بهذيل وفي بعض المرات استعان بقبائل حرب لأنه بلغه أنهم على خلاف مع سرور لضغطه عليهم وحبسه شيخهم، وفي مرة غيرها استعان بالشريف عبد الله الفعر والشريف بركات بن جود الله وفي هذه الموقعة قبض الشريف سرور على الشريفين المذكورين وأودعهما سجن القنفذة ثم أطلق ابن جود الله وأمر بإحضار الفعر إلى مكة فاستنجد الفعر بأحد أمراء اليمنيين فأخذه من يد العسكر فلما وصل الخبر إلى سرور كتب إلى إمام اليمن يطالب به ويتوعد فأمر الإمام بإعادته على مكة وتسليمه إلى سرور فتسلمه وأمر به فسجن إلى أن مات
(4)
. |
واستعان في كرَّته الثانية عشرة بذوي حمود من الأشراف آل بركات فأعانوه ليأخذوا بثأر رئيسهم الذي سجنه سرور لخروجه على الأمن وقطعه طريق القوافل. |
وحاول الشريف أحمد غير مرة أن يتصل بأمراء الحج المصري والشامي في أكثر من سنة ليساعدوه على إجلاء سرور فكانوا يعتذرون له وأجابه أحدهم بأنه لا يملك هذا إلاّ بمرسوم خاص. |
واستمر أحمد على عمله هذا نحواً من سبع سنوات بدأت بأواخر سنة 1186 وانتهت في منتصف عام 1193 عانى في خلالها من الوقائع والحروب ما يشيب لهوله الأطفال وقاست مكة في خلالها ما يعجز عنه الوصف وكبد نفسه وابن أخيه سروراً من خسائر الأموال والأرواح ما يعجز عنه الإحصاء. |
وانتهى المطاف بالشريف أحمد في وقعته الأخيرة إلى الأسر فالسجن المؤبد مدى الحياة لأن الشريف سروراً ما كاد يظفر به في الموقعة الخامسة عشرة حتى أودعه وولديه السجن. |
وكان سجنهم في ينبع ثم نقلوا إلى سجن في جدة وقد توفي في السجن أحد ولديه ثم توفي هو نفسه في 20 ربيع الثاني سنة 1195 وأطلق سراح الابن الثاني على أثر وفاة الوالد بعد أخذ الضمانات اللازمة عليه بالهدوء والاستقرار وقد فعل
(5)
. |
واستقرت الأمور بعد ذلك للشريف سرور بعض الاستقرار وأقول بعض الاستقرار لأن سروراً كان يغلي في عروقه دم الشاب الذي لا يقبل هوادة في شؤون الحكم ولا يرضيه الصبر على أصحاب القلاقل في أطراف البلاد، كان الشريف سرور يتبع العصاة وقطاع الطرق ويعاقبهم بأشد العقوبات وكان يتجسس على اللصوص والمفسدين وكان يعس في أكثر لياليه بنفسه يحرسه بعض العبيد فلا يترك حارة إلاّ طرقها ولا عطفة إلاّ دخلها حتى أرهب العصاة. |
واتفق أن بعض العتاة اجتمعوا على التربص له أثناء تفتيشه الليلي ليقتلوه وكان في جملتهم بعض الأشراف على رأسهم مسعود العواجي
(6)
وجماعة من أقاربه ذوي زيد وقد جاء إليه جواسيسه بالخبر فأرسل بعض عبيده ليتثبتوا من الحقائق التي أشار إليها الجواسيس في بعض طرق مكة فلما ثبت لديه ذلك لم يخرج من ليلته وأمر في الصباح بالقبض على أصحاب المؤامرة وأودعهم السجن
(7)
. |
وعنّ له أن يزور المدينة ليتفقد القبائل في طريقها ويقف على الأحوال في المدينة فشد رحاله إليها في سنة 1194 في خمسة آلاف من العربان والأشراف كان نصفهم على الخيل فعنّ لقبائل حرب أن يظهروه على مبلغ سطوتهم فعرضوا عليه بعض طلبات فاحشة من المال وانتظروا أن يذعن فأبى وشن عليهم قتالاً عنيفاً حتى رضخوا ومن ثم أمر بصرف بعض الإكراميات لهم وأخذ منهم بعض الرهائن من الرجال. |
ولما انتهى إلى المدينة وزع على أهلها كثيراً من الذهب والفضة ثم حمل إليه جواسيسه أن بعض رجال حرب دسوا عليه عند شيخ الحرم في المدينة واتفقوا معه على هجوم المدينة ليتسنى لشيخ الحرم ومن والاه في المدينة أن يثوروا في داخلها فلما تبين لسرور الأمر احتاط له واحتال حتى استولى على قلعة المدينة فمكن لنفسه واستطاع أن يهزم خصومه وأن يقبض على شيخ الحرم وخمسين من أتباعه ويسيرهم إلى مكة بعد أن أعلن عزل شيخ الحرم. |
وفي عودته من المدينة ترك الطريق الذي يمر بقبائل حرب وفي نفسه أن يعود إليهم في حملة أقوى واتجه نحو الجنوب الشرقي حتى وصل إلى الطائف ومنها إلى مكة
(8)
. |
وظلت فكرة الحملة لتطويع قبائل حرب تراوده فلما كانت سنة 1201 أرسل إلى قبائل هذيل وثقيف وعتيبة فجمع منهم جيشاً حاشداً واستنفر الأشراف فخرجوا في نصرته وقد قيل إنه كان ينثر الذهب بين المتطوعين المقاتلين وأنه جعل لكل من قطع رأساً خمسة من المشاخص. |
فنشطت القبائل للعمل معه ولما وصل بجيشه إلى مستورة بين رابغ والمدينة أرسل من يغزو جبل صبح حتى احتله ثم اشتبك مع بطون حرب عدة اشتباكات كان له فيها الظفر وملك ((الفرع)) ثم ((بدر)) ثم توجه إلى ينبع النخل فاحتله ثم عاد إلى بدر وتوجه إلى الخيف فملكه
(9)
. |
واشتد القتل في هذه المواقع وفي بطون غيرها وكثر عدد الأسرى الذين كان يبعثهم مصفدين إلى مكة ولما أيقن باستتباب الأمر له في كل هذه المواطن توجه إلى المدينة وقد وجد الحكم فيها مطمئناً فأقام فيها بضعة أيام ثم عاد إلى مكة من طريق ديار حرب فلم يصادفه شغب
(10)
. |
وإنه ليخالج النفس في أمر قبيلة حرب ما يخالجها فإن هذه القبيلة على وفرة عددها وكثرة بطونها وشدة بأسها كانت تكون صالحة في كل وقت لأن تعد ذخيرة تعتد البلاد بها وتستفيد من سواعد بنيها في الأعمال المنتجة لو وجدت فيما سلف من أجيال التاريخ من يعلمها ويعتني بشأنها في الحياة. |
إن في جزء كبير من أراضيها تربة تصلح للزراعة لو وجد أصحابها من يعدهم للزراعة وفيما عرف من نشاط بنيها وصبرهم على قسوة الحياة ما يؤهلهم لكثير من أعمال الاستثمار لو وفق لهم ولأمثالهم في جميع أقطار البادية من يقودهم إلى الأعمال المفيدة. |
ولكنا تركناهم يتضورون جوعاً في قفار البادية وأجرينا عليهم الصدقات حتى ألفوها ثم اتخذوها قاعدة لمعاشهم ثم لا نلبث أن نمنع عنهم ما عودناهم فنثير روح الشر في نفوسهم ونهيئهم للطغيان حتى إذا طغوا في سبيل أن يعيشوا كما نعيش اعتبرناهم عتاة خارجين على النظام وقام مثل سرور ليجرب فيهم حديده وناره وبذلك ننسى مكان الظلم في أساس البحث ونتغافل عن الحقائق الصحيحة فيه
(11)
. |
|