شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(أعمال غامد وزهران) وسعد للمرة الرابعة
واحتفل به في موكب حافل مشى فيه القضاة والعلماء! الذين أفتوا بقتاله بالأمس!! وشرع المحتلون من غامد وزهران (1) وبعض القبائل يعيشون في مكة فنهبوا كثيراً من بيوتها حتى كانوا ينزعون الثياب من أجساد أصحابها وهاجموا كثيراً من البيوت وساموا الناس أنواعاً من الذل والإهانة والضرب فاشتد الذرع بالناس وأسقطت بعض الحوامل من هول ما يجري (2) .
وبذلك كتب الشريف سعد في تاريخه الطويل صفحة من أحلك الصفحات سواداً في تاريخ مكة وإذا كان لي أن أعجب فعجب من هؤلاء المتسلطين الذين ينسون في سبيل الظفر بمقاعد الحكم أخلاقهم ومروءتهم ولا يبالون في سبيل أغراضهم أن يهتكوا أعراض المسلمين ويستحلوا دماءهم فيتنازلوا بذلك عن حظهم في الإسلام وأعجب من هذا أن يجدوا في ذلك من يهنئهم بما أحرزوا أو يشيد بحميتهم وذودهم عن الإسلام.
وأبى الباشا التركي أن يستسلم لسعد وتحصن في بيته بقوة مدافعه فجمع سعد الناس في المسجد إلى اجتماع عام وبين لهم حجته فيما فعل ثم سألهم ألست أحق بها وأهلاً لها؟!! فقالوا نعم! وأعادها مرة أخرى فقالوا: نعم!! فكلف كبارهم أن يتصلوا بالباشا ويقنعوه وقد رضي الباشا بعد أن استكتبه حجة شرعية بما فعل (3) .
عبد الكريم للمرة الثانية: ولم يدم سعد في إمارته إلاّ 18 يوماً لأن الأمير عبد الكريم الغائب في اليمن عاد في جموعه من بني عمومته وأنصاره من قبائل عتيبة وحرب (4) فهاجم مكة واحتلها في 17 شوال عام 1116 بعد أن أجلى سعداً عنها إلى العابدية غربي عرفة حيث توفي بعد ذلك بأيام (5) .
وحدثت في هذه الموقعة مقتلة شديدة لا تقل عن سابقتها قبل أسبوعين فقد استمر الظافرون يفتكون بخصومهم يومين كاملين حتى اكتظت الشوارع بجثث القتلى وعجز الناس عن مواراتهم فصاروا يحملونهم على عجلات ويرمونهم من رواشن دار السعادة ثم يجرونهم جراً إلى حفرة كبيرة اتخذوها لدفنهم بالجملة وجمعت الرؤوس فبنى بها ((رضم)) في المعلاة فوق طنف السبيل الذي كان معروفاً هناك بسبيل السلطان مراد لتبدو عبرة لمن يعتبر من خصومهم (6) ويعلم الله أنها لم تكن عبرة بقدر ما كانت شاهداً على قسوة بعض أصحاب السيطرة من المسلمين ومبلغ جبروتهم.
وما كاد يستقر الأمر لعبد الكريم حتى منيت البلاد بمشكلة جديدة تجلت فيها فوضى النظام السياسي العثماني بأوضح معانيه وقاست البلاد من جرائه أسوأ ما يمكن أن تقاسيه.
ذلك أن سنجق جدة سره أن يظفر عبد الكريم بالنتيجة التي انتهى إليها فكتب محضراً بما حدث ثم استشهد فيه بخطوط العلماء والأهالي الذين تعبوا من التوقيع لكل منتصر وطلب في نهاية المحضر نيابة عن نفسه وعن هذه الأمة الحائرة تأييد عبد الكريم وأرسل بذلك إلى مصر لتقديمه من طريقها إلى الباب العالي في استامبول.
وكما كان سنجق جدة يميل لعبد الكريم وكان صاحب مصر يميل إلى الطرف الثاني الذي فيه سعيد ووالده سعد. لهذا أو لأنه على خلاف شخصي مع سنجق جدة رأى أن يؤخر ما كتبه سنجق جدة ويكتب غيره ليبين فيه أن عبد الكريم كان معتدياً على سعد وسعيد وأن العدل يقضي بتأييد سعيد في إمارة مكة (7) .
وهكذا يبقى الباب العالي غافلاً عما يجري وراء الكواليس تاركاً أمور رعاياه إلى أكثر من مشرف ليصطرع المشرفون فينفذوا أغراضهم كما أملتها عليهم أهواؤهم ويتركون مكة في تضاعيف ذلك تعاني من ويلات هذا الاضطراب ما يشيب لهوله الأطفال دون أن يكون للمسؤولين من العثمانيين مسلك ينفذ إلى صميم الواقع وتستقر عليه.
وهكذا شخص كتاب مصر إلى استامبول ثم ترك كتاب جدة يأخذ طريقه في أعقابه ليصل متأخراً وقد حدث ما أراده صاحب مصر فإن كتابه ما كاد يصل حتى صدر الأمر إلى مصر بإعادة الشريف سعيد بقوة السلاح ولا تسأل عما حدث في أثر ذلك فقد مضت الحملة العسكرية المصرية تحمل الأمر الجديد في ضجة اضطربت لها مكة وهاج لها الموسم وتواردت الرسل إلى عبد الكريم بأوامر العزل فنشط للبحث عن المتعبين بين المد والجزر من العلماء وأعيان الأهالي!! يجمعهم في المسجد ويهيب بهم ألست صاحب الحق؟ ألست العادل الوحيد؟ ألستم راضين بولايتي عليكم فيقولون نعم ثم.. والله نعم.. والواقع إني لو كنت فيهم لقلت نعم كما يقولون لأنها الكلمة الوحيدة التي تمليها قواميس السياسة الغاشمة في كل عصر.
ويقول الشريف عبد الكريم إن العثمانيين أرسلوا سعيداً ليتولى عليكم، فيهمهم الخاصة برفض الأوامر العثمانية ويصيح العامة على جوانب المسجد أنه باطل فتردد الأروقة صدى أصواتهم باطل.. باطل (8) .
ويجتمع المتجمهرون ويلحق بهم المرتزقة في البادية ليمشوا في ركابه ما ظفروا وينقلبوا إلى خصمه أول ما تبدو بوادر الفشل.
وهكذا يلمع السلاح في ضحوة اليوم الرابع من ذي الحجة في أيدي المدافعين على كثب من ذي طوى بينما يختلس بعض المصريين خطاهم إلى المسجد ليبرزوا للقاضي مرسوم السلطنة بتولية سعيد ويعلنوا قراءته فيثور من في المسجد منادين بطاعة الخليفة بعد أن كان صائحهم ينادي أنه باطل فيضطرب المسجد وتسل السيوف من أغمادها ويصيح صائحهم ((ليخرج عبد الكريم من مكة.. أندبوا من يطرده من ذي طوى)) (9) فيخف الرسل من العلماء يرجونه التنحي لسعيد إلى انقضاء الموسم فيرفض المناصرون من حوله ويتفرق المرتزقة من الأعراب بحثاً عن ميدان جديد يرتزقون من صليل سيوفهم فيه.
وينطلق أهل الفساد والجائعون ليغتنموا فرصة النهب والسلب واضطهاد الحجاج والأهالي في سبيل الكسب، ويشتد الغلاء حتى أن أحدهم ليشتري كبشاً في ذلك الموسم في عرفة بعشرة أحمر (10) .
سعيد للمرة الرابعة: وهكذا ينحاز عبد الكريم إلى وادي مر ليترك الطريق لموكب سعيد آخذاً سمته إلى المسجد بين جماهير المهنئين ومدائح الشعراء والمنشدين يصطف أمامه علية القوم من المتعبين بين المد والجزر، وبذلك تتم الولاية الرابعة لسعيد في 6 ذي الحجة من السنة نفسها عام 1116.
ويظل الشريف عبد الكريم في وادي مر ثم ينتقل إلى العمرة في 15 ذي الحجة ثم يتصل بذي طوى فيشتبك في قتال شديد مع مقاتلة سعيد ويحتل الجزء الغربي الجنوبي من مكة إلى سوق الصغير لولا أن الحامية التركية تتقدمها فرقة انكشارية تنجد سعيداً في اللحظة الأخيرة وتساعده على طرد عبد الكريم بعيداً عن مكة.
ويظل سعيد في مكة على هذه الفوضى نحواً من خمسة أشهر تعاني مكة في خلالها من المصاعب والفتن وغلاء المعيشة ما لا يطاق ثم تروج الإشاعات بأن مصر تلقت أمراً سلطانياً جديداً بعزل سعيد وتولية عبد الكريم فيتفاقم الاضطراب.
وليس في هذا من جديد، فقد علمنا أن خطاب سنجق جدة الذي يطلب فيه تأييد عبد الكريم أخّره القائد في مصر، وقدم غيره بتأييد سعيد ثم أطلق الثاني خلفه فجاءت الأوامر بتأييد سعيد كما أراد قائد مصر، ثم لحقتها أخرى بتأييد عبد الكريم بدله كما أراد سنجق جدة سليمان باشا (11) .
القتال في المسجد: وانتهت الإشاعات إلى الشريف سعيد بمكة بقرب وصول أوامر عزله فارتبك في أمره وعلم أنها دسيسة سنجق جدة، فثار غضبه ودفع عبيده وجنده ليحاصروا السنجق في بيته بمكة، ثم أرسل إلى القاضي يطلبه استدعاء السنجق ليقيم عليه الدعوى أمامه، فاعتذر السنجق من حضوره لاضطراب البلاد بالفتنة، فقبل القاضي عذره فثار مقاتلة الشريف سعيد في المحكمة وأطلقوا رصاصهم فيها وأساء بعضهم إلى القاضي ثم خرجت جموعهم إلى المسجد قاصدين الهجوم على بيت السنجق بالقرب من باب الوداع فقابلهم أتباع السنجق في رواق باب الوداع وتبادلوا وإياهم إطلاق الرصاص في المسجد، واشتد القتال حتى أظلم الجو من دخان البارود وازداد عدد الجرحى والقتلى في أرض المسجد وسطحه وبعض البيوت المجاورة له وأبطلت لذلك خمس صلوات في المسجد (12) ثم اصطلح الفريقان في اليوم الثاني في مجلس القاضي.
ولم يمنع الصلح بقاء الارتباك في مكة لأن الفوضى ظلت شاملة فيها وقد وافى بريد السلطان بعزل الشريف سعيد وتولية عبد الكريم في 18 من شهر رجب عام 1117 فلم يضع حداً للفتنة لأننا نرى أن الشريف سعيداً ظل يماطل بين القبول والرفض وأنه لم يغادر مكة إلاّ في 6 شعبان أي بعد 18 يوماً قضاها في المحاورة والتغافل وقد غادرها إلى مصر حيث أقطعه السلطان ما يكفيه فيها.
عبد الكريم للمرة الثالثة: وبمغادرة سعيد مكة دخل الشريف عبد الكريم بن يعلي في موكب حافل مشى فيه العلماء والأشراف، وبذلك تمت ولايته للمرة الثالثة (13) .
وهكذا مضى عام 1116 ونصف عام 1117 ومسرح البلاد يعج بفتن المتسابقين إلى الحكم ويصطخب بثوراتهم ويتعرض المسجد في تضاعيف ذلك الاشتباك بين المتقاتلين ويدوي رصاصهم فيه بين الأروقة وحول صحن الكعبة فيحول ذلك دون صلاة المصلين وتفترش جثث القتلى والمصابين أرضه.
وبعد بضعة أيام دعا الشريف عبد الكريم أشراف مكة إلى الاجتماع بحضور القاضي وخطب فقال ما معناه ((إني أرى أن تكليف البلاد بما يلزم لنفقاتنا الفادحة كان سبباً في هذه الفتن لهذا فإني أرى أن نأخذ أقسامنا في حدود الواردات ولا نطمع إلى ما يرهق البلاد وأن نصيبي في ربع الواردات يكفيني وأتباعي فاكتفوا بالأرباع الباقية ولا تطمحوا لغيرها وإني على استعداد للتنازل لأي شخص يستطيع أن يقوم بمهمات البلاد إذا كان يكفيه أقل من ربع الواردات)) فقبل الأشراف منه وسجل القاضي موافقتهم (14) .
وبذل عبد الكريم جهده في تأمين السبل حتى أمنت وقد اعترض جماعة من هذيل (15) سير البريد في طريق جدة فأمر بأن يشنقوا وعلقوا بين المعلاة والمسعى وسوق الصغير وكان عددهم أحد عشر شخصاً (16) .
والذي يلفت النظر أن الأمراء إلى هذا العهد كانوا يصدرون أحكامهم في مثل ذلك بدون مراجعة الباب العالي وأعتقد أنهم يستصدرون بذلك أمراً شرعياً من قاضي مكة وقد تغير الحال في العهد الذي يليه كما سيأتي.
واستقر أمر عبد الكريم بعد ذلك شهراً ثم وافته الأخبار بأن سعيداً هاجم القنفذة (17) في جموع كثيرة واحتلها وأنه ماضٍ في طريقه إلى مكة فخرج عبد الكريم لملاقاته في جيش من الأتراك والعبيد والتحم القتال بينهما قرب الحسينية فتفرق شمل سعيد.
وفي صفر عام 1118 عاد سعيد إلى الظهور في الطائف بعد أن احتلها في جموع كثيرة فخف لملاقاته عبد الكريم وهزمه واستأنف سعيد الهجوم في منتصف عام 1119 فهزم مرة أخرى ثم استأنف هجومه على الحسينية بالقرب من مكة في أوائل عام 1120 فلم يوفق وانتقل القتال بعدها إلى مسجد نمرة والعابدية فلم يظفر سعيد وجاءت التوصيات من الخليفة تشدد في اليقظة لإقصاء سعيد فأرسل عبد الكريم يبلغه ذلك ويطلبه الارتحال فارتحل إلى اليمن.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :466  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 146 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الرابع - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج