حادثة الشيخ القلعي |
وفي هذا العهد جرت الحادثة المشهورة بحادثة القلعي وتتلخص في أن المصلين بالمسجد الحرام ظلوا في فجر يوم 15 ربيع الثاني عام 1097 ينتظرون حضور الإمام المختص بالصلاة وهو الشيخ تاج الدين القلعي فأبطأ فتقدم للصلاة بالناس أحد الحاضرين من المجاورين. |
وكان ولي جدة وهو شيخ الحرم لذلك العهد أحمد باشا مع المصلين فلما علم بإبطاء الشيخ القلعي غضب لذلك واستدعاه إلى مدرسة الداودية وأمر بضربه على رجله. |
فلما علم الأئمة بما نال زميلهم اشتد سخطهم واتصلوا فوراً بأمير البلاد أحمد بن زيد وطلبوا إعفاءهم من الإمامة جميعاً أو ترد كرامتهم إليهم بتأديب أحمد باشا. |
فطلب الأمير إليهم أن يتقدموا إلى مفتي البلاد الشيخ عبد الله عتاقي زاده باستفتاء رسمي في ذلك ليوقع بإمضائه على ما يقضي به الشرع فلما تقدموا به وقع المفتي بوجوب تعزير من أهان العلم. |
فكتب الأمير بإحالة الإفتاء إلى القاضي الشرعي فاستحضر القاضي الباشا وحكم عليه بالتعزير إلاّ أن الباشا استرضى الشيخ القلعي وصحبه إلى بيته وطيّب نفسه فتنازل عن دعواه. |
وأسرَّها الباشا للمفتي فلم تمض مدة حتى تقدمت شكوى إلى الباشا بصفته شيخ الحرم بأن المفتي أحدث لبيته مجرى ((قصبة)) في جدار المسجد فانتدب من يشرف على ما أحدث فقرر المشرفون أن ((القصبة)) غير محدثة فلم يقنع حتى اطلع عليها. وقد قيل إنه لم يجد شيئاً محدثاً ولكنه رغم ذلك استحضر المفتي وسبه وضربه حتى أدماه وداسه برجله فذهب المفتي إلى الشريف يشكو ما حدث وذهب الباشا ملتجئاً ببيت القاضي ((وهو من الأتراك في العادة)) فأرسل الشريف إلى القاضي يطلب حجز الباشا حتى يقضي الشرع فيه وضج الأهالي في مكة وتألبوا جماعات جماعات حول بيت القاضي وأخذ بعضهم يحصب النوافذ بحصباء الحرم. |
رأى الباشا أن يلتجئ بعد هذا بالشريف أحمد أمير البلاد فأصلح الأمر بعض الإصلاح واسترضى المفتي مؤقتاً ثم كتب إلى الخليفة في تركيا فجاء الأمر بعزل أحمد باشا عن ولاية جدة ومشيخة الحرم
(1)
. |
إجلاء النصارى عن جدة: وفي هذا العهد أصدر شيخ الحرم والي جدة أمره بأن لا يبقى في جدة غير مسلم وشدد في تعقبهم فغادر جدة غير المسلمين عن آخرهم ولم يبق منهم إلاّ من أعلن إسلامه
(2)
. |
وغزا الشريف أحمد القبائل العاصية في شرق البلاد فطوعها ثم انتقل إلى الشمال حتى انتهى إلى المدينة ثم عاد إلى مكة فدخلها في هلال ذي الحجة محرماً فطاف وسعى بالليل ثم خرج إلى الزاهر فبات ليلته ليدخل مكة في الصباح في موكبه الرسمي على جري عادتهم. |
وفي أواخر ربيع الثاني عام 1099 مرض الشريف أحمد وفي 12 جمادى الأولى 1099 توفي إلى رحمة الله عن عمر يناهز 74 سنة وكانت ولايته هذه أربع سنوات إلاّ ثلاثة أيام. |
إزالة النواتئ: وفي هذا العهد أمر أحمد باشا نائب الشرع بلكات العسكر الإنكشارية في عام 1098 أن يمروا من باب الصفا إلى المروة ليزيلوا النواتئ والظلل ثم ركب في أثرهم فدخل إلى سويقة والشامية وأمر بإزالة نواتئ الدكاكين فيها
(3)
. |
سعيد بن سعد: وكان ابن أخيه سعيد بن سعد بن زيد يخصه بمحبته ويعتمده في كثير من أعماله وربما أمره بالجلوس في منصته بديوان الإمارة فلما توفي العم اجتمع كبار العسكر وبعض الأشراف والأعيان لدى قاضي الشرع واتفقوا على تنصيب سعيد وقد نصبوه وكتبوا بذلك إلى مقر الخلافة في تركيا. |
وكان الشريف أحمد بن غالب -من ذوي بركات- يقيم في هذه الأثناء في ينبع فكتب إلى صاحب مصر وهو من الأتراك ببذل مالاً يقدره الدحلان
(4)
بمائة كيس ويطلب إليه العمل على توليته مكة ووهبه غير ذلك مالاً كان مجتمعاً في مصر لفقراء مكة يبلغ نحو 75 ألف قرش!! فكتب صاحب مصر إلى والي جدة بموافقته على تنصيب الشريف أحمد فامتثل والي جدة ونادى بذلك في جدة واتصلت الأخبار بالشريف سعيد في مكة فأبى أن يسلم وقال إن والي مصر لا يحكم إلاّ مصر وصعيدها وأن دون مكة السيف أو يصدر إلينا الأمر من السلطان. |
وتحرك عسكر جدة بصحبة الشريف أحمد بن غالب متوجهين إلى مكة فلما انتهى إلى النوارية
(5)
وكان ذلك في أواخر رمضان عام 1099 كتب إلى الشريف سعيد يطلب إليه مغادرة البلاد فلم يمتثل وفي غرة شوال تقدم العسكر إلى مكان العمرة عند مسجد عائشة فشعر الشريف بدنو الخطر ورأى بعض أنصاره يتخلون عنه فغادر البلاد عن طريق الطائف. |
أحمد بن غالب: ودخل الشريف أحمد بن غالب مكة في ثاني شوال 1099 في موكب حافل وهنأه المهنئون وامتدحه الشعراء على جري العادة. |
وفي شهر ذي القعدة وصل مرسوم سلطاني يتضمن أن والي مصر كتب إلى الخليفة بأن الأشراف متفقون على تنصيب أحمد بن غالب وأن الدولة توافق على تأييده فقرئ المرسوم في الحطيم وزينت مكة ثلاثة أيام. |
ومن أعمال أحمد أنه أعلن للتجار والأغنياء أن يقدموا زكاتهم إلى دار الإمارة لتتولى صرفها
(6)
. |
وما أهلّ عام 1101 حتى كان الخلاف قد نشب بين الشريف أحمد وكثير من الأشراف فأعلن ذوو زيد عصيانهم وتوجهوا إلى ينبع فنادوا فيها بإمارة محسن بن الحسين بن زيد وأعلن جماعة من ذوي عبد الله -العبادلة- العصيان وتوجهوا إلى القنفذة فاحتلوها وقطعوا الطريق إلى اليمن ثم أعلن العصيان ذوو حارث ثم أعلنه غيرهم من الأشراف وقد اجتمع هؤلاء بأحد أولاد مبارك بن شنبر واعتصموا بالحسينية على كيلومترات من مكة. |
وبذلك عمت الفوضى واضطرب الأمن واشتد الكرب وما أهلّ رجب حتى كانت الأخبار قد وافت إلى مكة بأن العصاة في ينبع والطائف ينادون بإمارة محسن بن الحسين بن زيد وأن والي جدة نادى به في أسواق جدة وأن الأشراف يجتمعون في الزاهر
(7)
حيث يوافيهم عسكر جدة لهجوم مكة فأمر الشريف أحمد بنصب المدافع في الشبيكة والمسفلة والمعلاة في كل جهة مدفعين ثم أخرج بعض بني عمه في جماعة من عسكره اليمنيين وبعض الأشراف إلى جرول لملاقاة أعدائه في بيت الزاهر وندب بعض المقاتلة للدفاع من جهة المسفلة والمعلاة وبقي في بيته ينتظر النتائج. |
وندب الشريف محسن بعض الأشراف لمقابلة قاضي الشرع في مكة فلما قابلوه عرضوا عليه صورة مرسوم بتعيين الشريف محسن وقالوا إنه صورة طبق الأصل وطلبوا تسجيله فامتنع القاضي حتى يحضر الأصل فثاروا به وضربوه واشتبك أتباع الفريقين في المسجد وفي جوار المحكمة بباب الزيادة وهوجمت بعض بيوت الأعيان والموظفين. |
وفي أثناء الاضطرابات أرسل الشريف محسن برسالة خاصة إلى الشريف أحمد قبل الأمير على أثرها أن يغادر مكة فغادرها في 22 رجب عام 1101 بعد أن حكمها سنة كاملة وتسعة وعشرين يوماً
(8)
. |
وفي التذييل على شفاء الغرام للعلامة الفاسي
(9)
ما يخالف هذا فيقول: إن ذوي زيد تقدموا إلى مكة من الطائف فاحتلوا جزءها الأعلى عنوة وأقاموا به يناجزون خصمهم نحو 20 يوماً حتى استطاعوا جلاء أحمد بن غالب عنها. |
والتجأ أحمد بإمام اليمن وحاوله ليساعده على استرداد الحكم في مكة فلم يقبل ثم ما لبث أن طيب خاطره وولاه حكم بلاد عسير وكانت تابعة لحكم اليمن ثم أضاف إليه بعض الإمارات وقد ظل في حكمه نحو 4 سنوات
(10)
. |
محسن بن حسين بن زيد: واستولى محسن على أمر مكة فلم يتسامح مع أنصار خصمه فقد عاقب كثيراً منهم وأنتزع مفتاح الكعبة من الشيخ عبد الواحد الشيبي وأعطاه لأخيه عبد الله بعد أن أثبت عبد الواحد في مجلس شرعي أنه أعطى بعض قناديل الكعبة للشريف أحمد وأحضر الصواغ الذين شهدوا أنهم صاغوها أسورة وحجولاً.. وذكر بعضهم أن الشريف أحمد ضربها نقوداً وتداولها الناس
(11)
. |
وتلقى الشريف محسن مرسوم تأييده من الخليفة في استامبول عن طريق مصر فقرئ في حفل عام في الموسم إلاّ أن الأشراف من ذوي زيد وغيرهم ما لبثوا أن تنكروا لمحسن وخرج عليه غير واحد
(12)
منهم فقطعت الطرق ونال الناس كرب شديد وظلت قوافل الأرزاق لا تصل إلى جدة إلاّ إذا أرسل بمعيتها سنجق جدة من يحرسها فاشتد لذلك غلاء الأسعار واجتمع القاضي مع سنجق جدة في دار الشريف محسن وقالوا له: إذا كنت لا تستطيع تأمين البلاد فتنحَّ عن الأمر، فقال: إن أنصاري من الأشراف يأبون قتال بني عمومتهم من الخارجين فأعينوني بعسكر من المصريين لتأديب الخارجين فرفض كبار العسكر وقالوا إن مهمتنا في مكة وليست في البوادي الخارجة عنها
(13)
. |
تفاقم الأمر عندما قام بعض الأشراف الخارجين من ذوي زيد يطالبون بإعادة الشريف سعيد بن سعد من ذوي زيد إلى الإمارة ونشط الشريف سعيد للأمر لأنه يرى أنه أحق بإمارته التي سحب منها مؤقتاً بناء على رأي ذوي زيد وأن الأولى بهم ألاّ يختاروا غيره بعد ظفرهم، وبذلك انقسم ذوو زيد بين معارض ومحبذ وطلب إلى الشريف محسن أن يتنازل عن الإمارة لسعيد فأبى وأقسم أغلظ الأيمان فاشتد الخلاف بين المتنازعين من ذوي زيد وشهرت السيوف وكادت تقع الفتنة لولا أن أخاً للشريف سعيد هو مساعد بن سعد أدركهم بحل ظريف يتلخص في أن يتنازل محسن له ((أي مساعد)) عن الإمارة براً بيمينه، فلما قبل هذا قام بدوره وأعلن تنازله لسعيد وأراد سنجق جدة أن يمنع سعيداً من دخول مكة مع أتباعه فاتصل به بعض الأشراف وأخبروه أنه سيقتل عند أول حركة يغادر سوق المعلاة لمنع سعيد فتراجع وترك سعيداً يحتل مكة وذلك يوم الأحد 7 محرم عام 1103 وبذلك عادت الإمارة للمرة الثانية إلى صاحبها سعيد بعد أن حكمها محسن سنة وخمسة أشهر وثلاثة أسابيع
(14)
. |
سعيد بن سعد للمرة الثانية: وما استقر الأمر لسعيد حتى كتب القاضي ووجهاء الأشراف إلى استامبول بما حدث طالبين تأييده فأبطأ وصول التأييد وفرّ محسن إلى المدينة وأثار بعض من فيها ولكنه لم ينجح، ثم ما لبث أن تم بينه وبين سعيد الصلح على أن يتناول لقاء ذلك حصة خاصة من غلة البلاد. |
وفي جمادى الأولى من السنة نفسها 1103 ورد كتاب من صاحب مصر بموافقته على ما جرى وأنه كتب إلى استامبول بذلك وينتظر التأييد ثم أردفه بكتاب آخر في جمادى الثانية يقول فيه: إن السلطنة ولّت أمر مكة إلى سعد بن زيد والد سعيد المذكور
(15)
المقيم في تركيا وذلك قبل وصول خطابنا ويطلب اعتماد ذلك وفي طيه المرسوم الخاص بذلك وأن يكون سعيد نائباً عن أبيه ومساعداً له. |
سعد بن زيد للمرة الثانية: وأهلّ موسم الحج عام 1103 فأهلّ معه موكب الأمير الجديد سعد بن زيد واحتفل بتأييده في المسجد على جري العادة وتغنى الشعراء والمهنئون أمامه
(16)
بالمديح التقليدي المعتاد، وهي الولاية الثانية له بعد أن تغيب عن مكة نحواً من 21 سنة ودخل مكة في ذي الأروام، فقد لبس عمامته على ((قاووق)) وكان يغلب على لسانه بعض ألفاظ أهل الشام، ثم ما لبث أن لبس عمامة الحجاز، وما كاد يستقر حتى جاءت الأخبار من جنوب البلاد بأن أحمد بن غالب هاجم القنفذة واحتلها ثم هاجم الليث وأنه في طريقه إلى مكة فاستعد لملاقاته إلاّ أن أحمد ما لبث أن كتب إليه يستأذنه في سكنى مكة بدون قتال فأذن له فأقام ببستانه في الركاني قريباً من مكة
(17)
. |
وفي عهد الشريف سعد عصت بعض قبائل حرب فقاتلها فانتصرت عليه فعاد إلى مكة ثم استأنف قتالها في السنة الثانية فانتصر عليها. |
وفي عهده خرج عليه جماعة من ذوي عبد الله -أشراف العبادلة- واعترضوا القوافل في طريق الليث فاضطرب الأمن وعاث المتلصصون في مكة حتى اضطر إلى مشاركة العسس في حراسة البلاد ثم ما لبث أن سلم العصاة أنفسهم. |
وظل الشريف سعد في إمارته نحو ثلاث سنوات وكان على بره بكثير من الأشراف إذا استثنينا ما ذكرنا وعلى اتفاقه مع الأهالي لا يميل إلى ملاينة رؤساء المصالح من الأتراك لديه. وكان شديد الخلاف بنوع خاص مع سنجق جدة محمد باشا ولعلّ ذلك نتيجة كرهه لموظفي الأتراك المتسلطين. |
وقد سعى ضده سنجق جدة لدى دار الخلافة واستطاع أن يستصدر أمراً بعزله وتولية الشريف عبد الله بن هاشم من ذوي بركات فامتنع سعد عن تسليم الإمارة فحاصره عسكر سنجق جدة وساعد عليه عساكر أمراء الأتراك ونصبت المدافع عند باب العتيق
(18)
وفي المسعى وقد مات بفعلها أكثر من مائة شخص ونهب عبيد سعد كثيراً من بيوت الأتراك كما نهبوا رباطاً بسوق الليل وبعض دور مكة ثم ثبت للشريف سعد أنه لا يستطيع الدفاع فأجلي عن مكة إلى الحسينية في جنوب مكة ثم إلى اليمن وظل بها يتحيّن الفرص للانقضاض
(19)
. |
|