حكم رميثة |
ولم ينم رميثة عن ثأره بالرغم من التأييد الذي كان يلقاه أخوه عطيفة من المماليك بمصر وبالرغم من انشغال التتار -بحروبهم الداخلية- عن مظاهرته. |
لم ينم عنه فقد اعتمد على نفسه وشرع يؤلب القبائل على أخيه ويراسل أشراف مكة الذين ظلت أغلبيتهم الساحقة على ولائهم له كرهاً لعطيفة وانتقاداً لاحتمائه بمماليك الأتراك الذي أضاع كثيراً من استقلال مكة وأفقدها حيوية الحكم. |
وقد نجحت أعمال رميثة ضد أخيه واستطاع أن ينتزع منه الحكم حوالي عام 927 أو 730. |
وعلى أثر انتقال الحكم إلى رميثة عاد الركب العراقي بالرغم من فتنه الداخلية يواصل مجيئه إلى مكة وكان قد امتنع عنها في السنوات التي يحكمها عطيفة وفي هذا ما يؤيد رأينا في تأييد العراق لحكم رميثة. |
وينقل الفاسي عن البرزالي عن العفيف الطبري وهو من علماء مكة في هذا العهد أن الركب العراقي حج في عام 730 وفي صحبته فيل وقف معهم في جميع مواقف الحج ثم اصطحبوه إلى المدينة ولكنه مات قبل أن يبلغها بأقل من مرحلة، إلى أن يقول وما عرفت مقصد أبي سعيد بن خربندا
(1)
من إرسال الفيل مع الركب العراقي
(2)
. |
والذي أقوله أنني لا أستبعد أن يكون مقصده الضجة والشهرة بما فيهما من إعلان عن العراق وركبه وحكومته وهي وسائل أصبحت اليوم معروفة في الأوساط التي تتفنن في وسائل الإعلان. |
وينقل الفاسي
(3)
عن البرزال أن جماعة من بني حسن هاجموا مكة في هذا العام 730 واشتبكوا مع العراقيين في قتال عنيف لعبت فيه السيوف ودخل الفرسان بخيلهم إلى المسجد ونهبت الأسواق وكاد أن يفنى الحجاج عن آخرهم والذي أعتقده أنها فتنة أرادها عطيفة وأنصاره من بني حسن ضد أخيه رميثة. |
ولم يسكت عطيفة عن أخيه رميثة فقد شرع يناوئه بما يجتمع إليه من القبائل ثم ما لبثت أن اشتدت المناوأة في عام 731 واحتدم بينهما القتال. |
ولما وافى الركب المصري في هذا العام كان القتال على أشده بين الأخوين فلم يخرج رميثة لاستقبال الركب على جري العادة ولم يتصل عطيفة بأمير الركب أو يلاقيه ولعلّه كان مستاء من قعود مصر عن مناصرته ضد رميثة فعاد أمير الركب بعد الحج يشكو إلى الناصر قلاوون جفاء الأخوين له ويصف الفتن القائمة في مكة بينهما فكتب الناصر إلى الأخوين يطلب حضورهما إلى مصر فرفض الأخوان الشخوص إليه واتفقا على الصلح وأن يقطعا معاً علاقتهما به. |
ولما علم الناصر بذلك شق عليه الأمر وأمر بتجريد حملة عسكرية إلى مكة تستأصل الأخوين وكل من يلوذ بهما من أشراف بني حسن وقوادهم وعبيدهم وأوصى قائد الحملة أن يستحل دم كل من بقي منهم فيها وأن يحرق وادي نخلة
(4)
حتى لا يدع فيه شجرة مثمرة ولا دمنة عامرة وأن يخرج نساءهم من جميع المنازل في مكة وما حولها. |
وكان القاضي جلال الدين محمد القزويني حاضراً في مجلس الناصر فقام يعظه ويذكره بوجوب تعظيم الحرم ويقترح عليه أن يكتب بتأييد رميثة في الحكم وأن يمده بقوة عسكرية تساعده على تأمين البلاد فاستحسن الناصر رأيه وانتدب من جنده ستمائة فارس أرسلهم إلى مكة مع كتاب تأييد رميثة. |
وقد فصل الجند من القاهرة في نصف صفر عام 731 فوصل إلى مكة في العشر الأول من ربيع الآخر، وبوصولهم ارتاب الأخوان في أمرهم وشرعا يعدان مقاتلتهما للدفاع عن مكة فكتب قائد الجند إلى رميثة يخبره بجلية الأمر واتصل به من أكّد له ذلك وأقسموا له أغلظ الأيمان حتى اطمأن إليهم وركب وإياهم إلى المسجد حيث تقلد خلعة السلطان وتقبل هداياهم، ثم ما لبث قائد الجند أن عاد إلى مصر بعد أن ترك الجند لخدمة رميثة
(5)
. |
وقد نقل القلقشندي في صبح الأعشى صورة المرسوم الذي تسلمه رميثة بتأييد إمارته وقد جاء فيه: ((اقتضت آراؤنا الشريفة أن نقيم رميثة في بلده أميراً مفرداً إليه يشار، وأن نصطفيه وأنه عندنا لمن المصطفين الأخيار والإمرة وإن كانت بيد غيره هذه المدة فما كان في الحقيقة أمير عندنا سواه لأنه كبير بيته المشكور من سائر الأفواه!!)). |
وفي ذلك ما يشير إلى رأينا في أن الناصر كان يؤيد عطيفة ضد أخيه حتى بدا له أن رميثة أولى بالتأييد لثباته وقوته واجتماع الأهلين حوله كما بدا له أن في ذلك ضماناً للحيلولة دون انضمام رميثة إلى فريق مضاد. |
وحج الملك الناصر على أثر هذه الحوادث في هذا العام 732
(6)
حجته الثالثة في موكب حافل كان يضم نحو سبعين أميراً من المماليك وجماعة كبيرة من أعيان الفقهاء المصريين ولا تدهش من وفرة عدد أمراء المماليك في مثل هذا الموكب لأن الناصر كان لا بد له من أن يحشد هؤلاء في موكبه ليأمن غائلتهم والمعارضين منهم إذا ظلوا في مصر بعد غيابه عنها. |
وقد حج في موكبه طائفة كبيرة من أعيان الفقهاء المصريين واستقبل الجميع رميثة استقبالاً حافلاً فترك الأهلين يخرجون إلى خارج مكة احتفاء بمقدمهم ووزع الملك الناصر أعطياته وهداياه حتى شمل ذلك أكثر الأسر والأفراد
(7)
. |
وفي سنة 734 اتصل عطيفة بمصر ثم جاء بكتاب من الناصر إلى أخيه ليوليه نصف الإمارة فقبل رميثة ثم عاد فأخرجه منها ثم عاد فقبله بوساطة الناصر، وظلا على وئام إلى سنة 736 ثم عادا مرة أخرى إلى الخلف فرحل عطيفة إلى مصر وبقي فيها إلى أن مات عام 743 وبذلك استقر الأمر لرميثة
(8)
. |
وفي موسم عام 743 وقف الحجاج في عرفة يومي الجمعة والسبت تفادياً من الشك
(9)
. |
وفي سنة 743 حج صاحب اليمن الملك المؤيد -الرسولي- وحاول مماليك الأتراك في مصر أن يؤثروا في رميثة ليضيّق على صاحب اليمن في منازله بعرفة، ولعلّهم أرادوا أن يمهدوا بذلك إلى إثارة الخلاف بينهما تحاشياً من نتائج الاتفاق بين اليمن ومكة ولكن رميثة كان أفطن من أن يتأثر باقتراحات مصر فقد قابله أحسن استقبال ووكل به جماعة من الأشراف والقوّاد ليقوموا بخدمته، وقد وزع في مكة أموالاً طائلة وحمل إليها هدايا عظيمة، وأراد أن يترك لنفسه أثراً في مكة فاقترح على رميثة أن يكسو الكعبة ويجدد بابها فأبى رميثة ذلك عليه تحاشياً من أن يتطور الموقف بينه وبين مصر إلى حد لا يمكن تلافيه وقد ساء ذلك صاحب اليمن وسافر وهو غير راضٍ عنه بعد الذي كان من إكرامه وخدمته
(10)
. |
على أن رميثة وإن أغضب صاحب اليمن فإنه لم يُرضِ صاحب مصر فقد حفظ عليه الناصر عنايته بصاحب اليمن وانتداب الأشراف لحمايته من المصريين في عرفة. |
ويبدو لنا أثر هذه الحفيظة واضحاً عندما استدعى الملك الصالح بن الناصر صاحب مصر ابناً لرميثة اسمه عجلان في عام 746 وأقنعه بنقل الإمارة إليه. |
ولا يبعد أن عجلان كان يستعير العجلة من اسمه أو أنه أدرك أباه قد طعن في السن وأنه إذا تردد في قبول الإمارة فسيرشح غيره لها من إخوانه أو أقاربه، لهذا قبل من غير تردد وتعهد للسلطان أن يسوي الأمر بنفسه مع أبيه في مكة. |
وأعتقد أن شخصاً غير عجلان لا يستطيع إقناع أبيه بالتنازل عن الإمارة لإصراره على الثقة بنفسه وعناده ولكن عجلان استطاع أن يقنع أباه ليتخلى عن الإمارة لقاء 60 ألف درهم يقدمها له كتعويض، وبذلك ترك رميثة له شؤون الحكم بعد أن دام فيه نحو 45 سنة اعتزل في أثنائها عدة سنوات ثم عاد شريكاً في بعض المرات ومنفرداً في غيرها، وكانت مُدة حكمه منفرداً تضاهي نحو عشر سنوات. |
|
|